عندما يتوهم الإنسان أن لأحوالِ الدنيا دوامًا فإنه سيصدم، ولكنه حين يعلم أن الدنيا متقلّبة الأحوال فلا يستغرب منها شيئًا، وعندها سيكون مستعدًّا في كل أحواله لتغيّر تلك الأحوال.
ومن هنا قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) وهي حالة الحذر التي ينبغي أن يعيشها المؤمن.
ثم أتبعها بأمور عملية وسلوكية فقال: (فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا).
في هذه الأيام المباركة ترنو العيون إلى بيت الله الحرام، وتتعلّق الأرواح وتطوف بذلك السرّ المنير.
إنها مناسبة الحجّ الذي هو تطهيرٌ للإنسان وولادةٌ جديدة له، فقد ورد عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:
(مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلمْ يَفْسُقْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ورَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)..
علّمنا ربّنا سبحانه قبل كل عمل شريف أن نبدأ بـ: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وما هذا إلا من أجل:
1- أن يذكّرنا بوصف الله تبارك وتعالى الجامع الذي هو وصف الرحمة.
2- أن يذكّر الإنسان بالوصف المطلوب منه، وهو أن يتخلق بالرحمة، لأنه خليفة الله.
ومن خلال تذكّر الإنسان لخلافته عن ربّه يستطيع أن يكون متواصلاً مع الكون كلّه، بجماده ونباته وحيوانه، ومع أخيه الإنسان..
إن المتأمل لمضمونات ديننا الإسلاميّ يجد أنها تبني حضارةً ذات شقّين:
شقّ مادّيّ عمليّ حسِّيّ، وشقّ إنسانيّ معنويّ تتألّق فيه الأخلاق.
ولكن: هل نحن نتفاعل مع الجانب المادّيّ الحضاريّ الإسلاميّ؟
وهل يعبّر سلوكنا الحسِّيّ العمليّ اليوم عن مستوى رقيّ الإسلام؟
إن الذي يرصد واقع المعاملات في أمّتنا لابد أن يلاحظ أننا بدأنا نتحرك ببواعث المصلحة بالدرجة الأولى.
وإسلامنا لا يَلغي المصالح بل يعتبرها، ولكنه لا يجعلها حاكمة على الأولويّات، لأننا بإيماننا ندرك أننا في معاملاتنا مع الخَلق نعامل الله.
والفيصل بين الإيمان والحالة الشكلية الإسلامية الفارغة من الإيمان هو:
معاملة الخَلق للخَلق، أو معاملة الخَلق للحقّ..
حينما نريد تأثيرًا إيجابيًا على مستوى النهضة والحيوية، فإننا لابد أن نعي ثنائيةً مهمة وهي: ثنائية السكون والحركة، أو الصمت والكلام.
لكن الإنسان يميل إلى رؤية الحركة والكلام، ويغفل عن حاجته إلى السكون والصمت، وعندما يفكّر بالتغيير أو الإصلاح فإنه غالبًا يتعلّق بالتعبير، ويغفل عن التنوير..
حينما يتعلّق الإنسان بالأعلى يهون عليه أمر الأدنى، وحينما يغفل عن عظمة الأعلى سبحانه وتعالى فإنه يرجو الأدنى ويخاف منه..
هذه هي المعادلة التي إذا فهمناها نستطيع أن ندخل أبواب الإيمان دون أن نأبه بسلطنة المادية التي تحذف هذه المعادلة...
يقول صلى الله عليه وسلم: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ).
والذي يتأمل هذا الحديث تأمّلاً سطحيًّا يرى فيه ممارساتٍ شكليةً وحسب، ولكننا حينما نتأمله في بعده التربويّ نرى أنه يؤسس لمجتمع إسلاميٍّ متماسك يؤسس لبناء إنسان مسلم يعبر حقيقةً عن الإسلام..
يتعجب المتأمل في واقعنا الإسلاميّ حين يجد فيه شتاتًا، ولو أننا نظرنا نظرة تربوية لوجدنا أن القضية تكمن في بواطننا:
* فإما أن تهيمن علينا الروح النقية الزكية التي لا تتعلّق إلا بربّها.
* أو أن تُهيمن علينا النفوس التي تكدّرت وأخلدت إلى الطين.
ولو أن الروح هيمنت ستتألف الأشباح.
فلا نجاة لنا من الفرقة والشتات حتى نصحّح وجه قلوبنا، وحتى تكون البواطن مشرقة بالأنوار...
طموحات أمتنا التي ترنو إلى نهضةٍ وحضارةٍ ستبقى بعيدةً عن التطبيق ما لم يتحقّق في أفرادها أمران اثنان:
1- الهمّة التي ترقّي الإنسان في مراداته ومقاصده.
2- العلم الذي يُبَصِّره ويهديه.
ومهما مَلَكْنا من العلم سنبقى ضعفاء من غير همّة..
ومهما ارتقت هممُنا سنبقى متخبّطين من غير علم..
ونحن في آخر جمعة من شهر رمضان الأغرّ، وفي موسم العتق من النار.. نتذكر أن العتق من النار يعني تبدّل الأفعال والأوصاف، وأما الوصف الجامع الذي من خلاله يختصر الإنسان كلّ الأوصاف الجِنانية فهو وصف الرحمة..
في مثل هذا اليوم من شهر رمضان المبارك كان يوم الفرقان الذي فصل الله سبحانه وتعالى فيه بين الحقّ والباطل، وكانت الغزوة التي أراد سبحانه من خلالها أن يعطي للأمة درسًا معنويًّا يبقى في ذاكرتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وانظروا إلى المعادلة بدقّة:
فربّنا تبارك وتعالى يجعل أهل الحقّ في أعين أهل الباطل قليلاً، ويجعل أهل الباطل في أعين أهل الحقّ قليلاً..
اختصر الله سبحانه وتعالى مضمونات هذا الشهر وعرّفنا به حين قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) وهنا كرّر سبحانه لفظَ الهدى ليدلّنا على أنه في شهر رمضان هدايتان:
الأولى قرآنية، والثانية فرقانية..
الأولى هداية قلوب، والثانية هداية سلوك..
يقول سبحانه مُعرِّفًا إيّانا على وصفنا الخاصّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) وهذه هي الحقيقة التي طالما غاب الإنسان عنها وهو مُستغرِق في غفلاته.
وحينما يأتي منطرحًا بين يدي مولاه، ولا ينازع الربوبية أبدًا، يكون في عناية الربوبية ورعايتها.
وهذا هو سِرّ رمضان الذي نتهيأ اليوم له..
الحياة الإنسانية مُهلةٌ ورحلة:
فهي مهلة لأنها المحلّ الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يتزوّد، فإذا طُويت صحائفه فلا تَزَوُّد بعدها.
وهي بعد ذلك رحلة حينما يتأمّل الإنسان نفسه من مبتداه إلى منتهاه.
قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وهكذا اختصر ربّنا مضمون القرآن العظيم بعبارة موجزة تندرج تحتها كل توجيهاته للإنسان، الذي قد يكون متوجهًا إلى عبادة غير الله تبارك وتعالى وهو يتوهم أنه يعبد الله..
كلما مرّت مناسبةُ الإسراء والمعراج رفعنا أصوات النواح والعويل، حين نذكر المسجد الأقصى، انفعالاً شعوريًّا من غير أن يتبعه فعلٌ عمليّ سلوكيّ..
ولكن: ماذا عسانا أن نفعل؟ وما الطريق إلى المسجد الأقصى؟
فلو أننا اتخذنا من مناسبة الإسراء والمعراج ورقةَ عملٍ لنا ومنهاجَ سَيْر، فإننا سنخطو خطوات كبيرة تقرّبنا من المسجد الأقصى..
مهما كثرت الأشياء المادّية وتطوّرت الوسائل يبقى الإنسان بحاجة إلى المعاني أكثر من حاجته إلى الأشياء، لأن إنسانيته إنما تظهر من خلال تَزَوُّدِه بالمعاني الروحانية.
ولقد أمرنا ربّنا سبحانه في الإيمان بالمزيد، ووعدنا إلى جانب ذلك بالإعانة والتأييد، وبعد هذا بيّن لهذه الأمة أنها كلما استزادت من الإيمان فإن هذا يبقى مدَّخَرًا عند الله، ولا يضيعه لها أبدًا، فقال: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}..
رابطة الإسلام تضبط الأحكام بين أفراد أمتنا، لكننا نرى حالة الشّتات والفُرقة التي يعيشها المسلمون اليوم، ولابد حتى نخرج من فُرقتنا وشتاتنا من تحقيق أمرين اثنين:
1- ألا نكثر من الحديث في الجزئيات، بل في الثوابت الكبرى التي تجمع الأمة.
2- أن نأخذ بأسباب ارتقاء الإيمان.
يعيش العالم اليوم حدثًا ربّما زلزل من لا يتوقعه، فتهاجم الوحوش الصهيونية البشرية قافلةً بحرية تحمل دواءً وغذاءً.. ويُصدم كل من لا يعرف منشأه، لكن الدهشة تزول حينما نعلم أننا أمام عدوٍّ يعلو ويتجبّر ويُحاصر الأطفال والشيوخ والنساء..
وهذا يستند إلى أُكذوبةٍ كذبها أولئك على العالم وصدّقها الكثيرون، وملخصها أن لهم حقًّا في الأرض المباركة فلسطين، لكن القرآن الكريم كذّبها..
التكافل الاجتماعيّ مقصود من مقاصد الإسلام، وهي حقيقةٌ لا ينكرها مؤمنٌ يؤمن بالله ورسوله، ولهذا اقتُرِح أن يكون تمويل المعاهد والمدارس الشرعيّة على قدم المساواة، وأن تراعَى حاجات الجميع، فأنشئ من أجل ذلك صندوق مركزيّ تُجمَع فيه كل التبرعات، ثم توزع بالتساوي على جميع المؤسسات..
تقدم الكلام أن العاقل حين يعلم أن الحيّ الذي لا يموت إنما هو الله وحده فإنه لا يوجّه قلبه إلا إليه، لكن هذا لا يعني أن يلغي الإنسان تكليفه الشرعيّ، فقد نبّهنا ربّنا في التكليف الشرعيّ إلى أمرين اثنين هما:
الإيمان، والاستقامة على صراطه المستقيم.