في مثل هذا اليوم من شهر رمضان المبارك، في اليوم السابع عشر، كان يوم الفرقان الذي فصل الله سبحانه وتعالى به بين الحقّ والباطل.
ففي مثل هذا اليوم بالضبط من الشهر الأغرّ كان يوم بدر، وكانت الغزوة التي أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها أن يعطي للأمة درسًا معنويًّا يبقى في ذاكرتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
معادلاتنا نحن أمةَ الإسلام ينبغي أن تفهمها الأمة جيدًا في الذي يفرّق بيننا وبين الماديين، وهي أننا أمة منصورة بالمعاني منكسرة بالمباني، أما المعادلات المادّية فلا تتحدث إلا عن تقابل الأقوى ماديًّا مع الأضعف، فينكسر بالمعادلات المادية من كان الأضعف ماديًّا، وينتصر الأقوى ماديًّا.
لكن الدرس الذي في مثل هذا اليوم كان تأسيسًا لمعادلة الأمة التي تُنصر بمعانيها، وتُنصر بإيمانها، وتُنصر بما تحمله من الثقة واليقين بالله، وتنصر بتأييد الله تبارك وتعالى لها..
فمهما كانت العُدد، ومهما كان العَدد عظيمًا أو كبيرًا فإنه لن يتغلب على قوة الله تبارك وتعالى، فإذا كان في ذاكرة الأمة هذا المعنى فارتبطت بالله تبارك وتعالى ووجهت القلب إلى الله سبحانه يأتيها عند ذلك التأييد.
وحين تكون الأمة مع ربها فهذا لا يعني أنها تقصّر في الأسباب كما يفهم بعض الناس من أن المطلوب هو أن نكثر من الصلاة والصيام، وأن نكثر من الدعاء... فهذا مطلوب، لكنه سبحانه وتعالى حينما يكون مع هذه الأمة وقد أخذت بالأسباب المتاحة فإنها ولو ضعُفت في أسبابها ستبقى مُعانَةً ومؤيَّدة من الله تبارك وتعالى.
واسمحوا لي أن أقرأ على حضراتكم من كتاب الله تبارك وتعالى بعضًا من الجوانب التي حكاها القرآن عن هذا اليوم، يومِ الفرقان، يوم بدر، فالقرآن عرض لهذا اليوم في مواضع كثيرة، لكنني أختار صورة واحدة من الصور، ووجهًا واحدًا من وجوه المعاني في مثل هذا اليوم:
يقول الله تبارك وتعالى وهو يصف ويوجه في سورة الأنفال:
- {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
وانظروا كيف بدأ الله سبحانه وتعالى الحديث في هذا اليوم المبارك يوم بدر وهو يوجّه الأمة إلى التخلي عما غنمته من المادة، فالغنيمة التي كانت بعد المعركة وجّه ربنا تبارك وتعالى إلى توظيفها لتكون سبب بناء، وسبب مؤازرة، وسبب إعانة..
نعم، لسنا أمة الأنانية، فنحن الأمة التي تعيش آلام بعضها وآمال بعضها..
نحن الأمة التي أخرجها الإسلام من الأنانية إلى الجماعية، فشعر الغني بألم الفقير، وشعر القوي بألم الضعيف، وشعر الحاكم بألم المحكوم، وشعر الذي يملك بألم الذي لا يملك...
- {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنـزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} هذا اليوم الذي سمّاه الله سبحانه وتعالى يوم الفرقان، وهو يوم بدر، لأن الله سبحانه وتعالى فصل فيه، فكان بدايةَ الفصل في تاريخنا بين الحقّ والباطل، وأصبح للحق كلمته وسيفه الذي لا يضرب بظلم، لكنه يضرب ليحقّق العدالة.
- {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} فكان وصول الجمعين، جمعِ الباطل وجمعِ الحقّ، إلى نقطةٍ أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون معجزة، ويتحرك هذا الجمع وذاك للّقاء، فيكون اللقاء في أرضٍ يُنـزل الله سبحانه وتعالى عليها غيثًا من السماء، فتكون تثبيتًا لأقدامِ جمع أهل الحقّ، وتكون منـزلقًا تحت أقدام أهل الباطل.
وهكذا لو أن قائدًا عسكريًا أراد أن يحدد موقعة اللقاء لما استطاع: {وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}.
فأراد الله سبحانه وتعالى بإعانته أن يوصل الجمعين إلى هذه النقطة التي تكون من الناحية العسكرية أحد أسباب التفوق، وهذا بإعانة الله تبارك وتعالى.
- {وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} أي ليعزّ أهل الدين وأهل الحقّ وأهل الإعانة وأهل الإيمان...
- {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}
هذا سرٌّ من أسرار المعادلة أحببت أن أجعله النقطة التي نقف في دقائق عندها.
إنه سبحانه وتعالى يتحدث عن سرٍّ من أسرار معادلات هذه الأمة.
فيستخف أعداء الأمة بالأمة، ويستخف أهل الباطل بأهل الحقّ، ولكنه في نفس الوقت يقلّل شأن أهل الباطل في أعين أهل الحقّ.
وانظروا إلى المعادلة بدقّة:
فربّنا تبارك وتعالى يجعل أهل الحقّ في أعين أهل الباطل قليلاً، ويجعل أهل الباطل في أعين أهل الحقّ قليلاً.
أما استخفاف أهل الباطل بأهل الحقّ فإنه سيقودهم إلى تسليط أنواع البلاء والإيذاء عليهم، وسيقودهم إلى لقاء أهل الحقّ، وسيقودهم إلى موقف المفاصلة والمجابهة، وأما تقليل شأن أهل الباطل في أعين أهل الحقّ فإنه دليل إيمانهم ووثوقهم بالله تبارك وتعالى.
أما المعادلة الآن فمتغيرة، إذ يستخف أهل الباطل بأهل الحقّ، ونحن نعظّم شأن أهل الباطل.
المعادلة غير موجودة الآن بعناصرها المطلوبة، ولا يتحقّق النصر حتى يتحقق العنصران:
- استخفاف أهل الباطل بأهل الحقّ وهو حاصل.
- لكن العنصر الثاني في المعادلة مفقود، لأننا نعظّم أهل الباطل، ونعظّم قوة الباطل، ونرى عَدد أهل الباطل وعُددَه ونغفل عن عظمة الله المؤيِّد، ونغفل عن قوة الله المعين، ونغفل عن شأن الحقّ الذي إذا قذف الله به على الباطل دمغه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18] أي يكسر دماغه.
فهناك قوة في المبدأ مبدأِ الحقّ، فقد جعل الله سبحانه وتعالى مبدأ الحقّ أقوى من الباطل، ولكننا غفلنا عن قوة مبدأ الحقّ، وغفلنا عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وبدأنا بالاشتغال القلبيّ يتعظيم المادة وأهلها.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} وكان عدد المشركين يوم بدر ألفًا، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينظرون إليهم فيقولون: هم مائة.
وهكذا يذكر التاريخ أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه سمع من جنديٍّ من جنوده يوم لقائه مع الروم قولته: ما أقل عدد المسلمين! وما أكثر الروم! فغضب خالد.
وكان عدد أفراد جيش المسلمين عشرين ألفًا وعدد أفراد جيش الروم مائتي ألفًا، ولكن خالد غضب وقال:
لا... بل قل: ما أكثر المسلمين وما أقل الروم!
إنها المعادلة الصحيحة، لأن المستعزّ بالله، والمستنصر بالله، والمستقوي بالله، والمستعين بالله.. لا يرى للأشياء شأنًا، ولا يرى لها قوة، لأنه يراها في قبضة الله تبارك وتعالى.
- {لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} فقلّلكم في أعينهم، فكان هذا التقليل سبب قدومهم، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً في إعزاز الحقّ، وإذلال الباطل.
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 41-45]
وهكذا ختم هذا النصّ بالسرّ الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يعظّم شأن الحقّ، ألا وهو ذكرُ الله، وعندما نتحدث عن ذكر الله تبارك وتعالى فلا يعني أننا نتحدث عن سُبحة طويلة، إنما نتحدث عن وجود تعظيم الله في القلوب حينما يذكر القلبُ الله.
فلماذا تصوم؟ ولماذا تقوم؟ ولماذا تريد العتق من النار في هذا الشهر المبارك؟ ولما نتذكر يوم بدر؟ ولماذا نتذكر تنـزُّل القرآن ليلة القدر...؟
أمِن أجل طقوس، ومن أجل مناسبات... أم من أجل أن نجدّد إيماننا وثقتنا؟
ومن أجل أن ندخل في الشهر بأشكال وحركات، ونخرج من هذا الشهر بمعانٍ وبركات..
ومن أجل أن يكون خروجنا في نهاية الشهر بزيادة إيمان وزيادة يقين وزيادة ثقة بالله تبارك وتعالى..
ولماذا نرفع أيدينا في القنوت ونتوجه إلى الله بالدعاء؟
ولماذا ننطرح بالسجود في عتبات الله؟
إلا من أجل أن نستمدّ، لأننا علمنا أننا لا بد أن ننطرح في عتبات الله تبارك وتعالى.
نعلن أننا لا نستغني عن ربنا..
ونعلن أننا محتاجون إلى ربنا..
ونعلن أننا بحاجة إلى مدد ربنا....
فلا نعتزّ بغير الله، ولا نستقوي بغير الله، ولا نستنصر بغير الله..
إنه درس رمضانيّ ينبغي علينا أن لا ننساه في يوم السابع عشر من رمضان، فكلما جاء هذا اليوم ذكّرنا بالمعادلة التي من خلالها يكون نصرنا، والتي من خلالها يكون عِزُّنا، والتي من خلالها تكون غلبتنا لا بالعَدد والعُدد، إنما تكون بالتزامنا مبدأَ الحقّ الذي يوازن في دعوته حينما يدعونا إلى الأخذ بالأسباب:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وما قال: فوق استطاعتكم، إنما قال: "مَا اسْتَطَعْتُمْ"، ولكنه ثبّت في قلوبنا أن النصر من عند الله.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|