كلما مرّت بنا، يا أمّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، مناسبةُ الإسراء والمعراج رفعنا أصوات النواح والعويل ونحن نذكر المسجد الأقصى، ونندب حظّنا ونقول: مسجدنا أسير، حتى كادت تكون عادة مكرورة أن نبكي وننوح، وما هذا شأن الرجال، إذ الانفعال الشعوريّ من غير أن يتبعه فعلٌ عمليّ سلوكيّ لا يُعبِّر عن صدق العاطفة، إذ عاطفةٌ لا يتبعها سلوك وعمل ما هي إلا سحابة صيف.
وتعود الذكرى كلَّ عام، وفي أحسن الأحوال تذرف دمعة إن ذرفنا هذه الدمعة.
وربما يحار الإنسان وهو يسمع مثل هذه الكلمات، ويقول:
ماذا عسانا أن نفعل؟
وما الطريق إلى المسجد الأقصى؟
وإذا كانت العاطفة لا تكفي، والدمعة لا تنفع، فما هو الطريق إلى المسجد الأقصى السليب؟
أقول: إن الله سبحانه وتعالى قد رسّخ هذا الطريق وبيّن معالمه من خلال مناسبة الإسراء والمعراج نفسها:
فالإسراء عنوانٌ كبير على سعة المؤمن وتنقُّله بين الموافقات.
والمعراج عنوانٌ كبير يرمز إلى تواصل المؤمن مع المُغيَّبات اليقينيات.
ولو أننا جعلنا الإسراء والمعراج من العام إلى العام ورقةَ عمل لنا ومنهاج سَيْر، سنخطو خطوات كبيرة تقرّبنا من المسجد الأقصى.
وسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان له إسراء ومعراج، ولابد لكل مؤمن يتخذ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أسوتَه وقدوته من أن يكون له رمزية ذلك الإسراء والمعراج.
وماذا يعني الإسراء بمضموناته؟ إنه يعني سعيًا وتنقّلاً بين الموافقات.
ولماذا تحرّك سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء؟
ألم يتنقّل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة (البيت العتيق) إلى المسجد الأقصى؟
ماذا قال الله سبحانه وتعالى في حقّ ذلك البيت العتيق؟
ألم يقل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96]؟
وانتبهوا إلى كلمة "مُبَارَكًا".
واقرؤوا ما قاله ربنا تبارك وتعالى في المسجد الأقصى الذي وصل إليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في رحلة إسرائه، إنه سبحانه قال:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]
وضعوا خطوطًا مرة ثانية تحت قوله: "بَارَكْنَا".
وهذا يعني أن الإسراء كان انتقالاً من المُبارَك إلى المُبارَك، فلم يكن تنقّل النبي صلى الله عليه وسلم من فساد إلى فساد، ولا من ظُلمانيّ إلى ظُلمانيّ، لكنه صلى الله عليه وسلم انتقل من المُبارَك إلى المُبارَك، والمُبارَك لا يكون إلا من خلال القائمة التي عرّفنا ربّنا تبارك وتعالى عليها، وهي قائمة الموافقات.
فإذا كنت في تجارةٍ تريد بها وجه الله وليس فيها غِش فهي تجارة مباركة..
أو أسوة يوصي بعضها بعضًا بتقوى الله فهي أسوة مباركة..
أو خطوات تخطوها في قضاء حاجات الناس فهي خطوات مباركة..
أو عمل تنفع فيه الناس فهز عمل مبارك..
وقِس على هذا أيها المسلم...
وانظر في يومك في كل مفرداته، فإذا كنت تتنقل في يومك من المُبارَك إلى المُبارَك فأنت صاحب إسراء، وإذا كان في مفردات يومك غير المُبارَك فأعد خطّة يومك ليكون يومك التالي تنقّلاً بين المُبارَك والمُبارَك.
يا شباب، أقول لكم: هذا منهج عمل، فانظر في يومك:
إلامَ تنظر؟ ماذا تسمع؟ رِجلك إلى أين تمشي؟ يدك في أي شيء تتحرّك؟ عقلك في أي شيء يدور...؟
فإذا كانت مفردات حياتنا انتقالاً من المُبارَك إلى المُبارَك فنحن ننتسب إلى الإسراء وإلى صاحب الإسراء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كنا لا نعي أين نضع القلم، ونُفاجأ كل يوم بما يقتضي الندم، إذًا فنحن بحاجة إلى إعادة رسمٍ لخطة اليوم.
وحينما وصف ربّنا سبحانه صاحب الإسراء وصفه بأنه عبده فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ولن يكون الإنسان في وصف العبد حتى يوافق سيّده.
وعندما تحدث ربّنا عن الذين يدخلون المسجد الأقصى قال:
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء: 5]
ومهما تاجر المتاجرون بالمسجد الأقصى، ومهما كَذَب المُكذِّبون، لن يدخل المسجد الأقصى إلا عباد الله "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا".
إذًا: أعطني وصفَ العبد فيك واذهب إلى المسجد الأقصى..
أما أن يكون هذا مجرّد كلام نصدّره للناس دون أن يكون تدقيقًا في تنقّلاتنا من المُبارَك إلى المُبارَك، فلا وألف لا.
هذا مختصر الإسراء.
وأما مختصر المعراج فإنه تواصُلٌ مع المُغيَّبات اليقينية.
فسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء، وفي السماء الأولى قابَلَ أولَ من قابل سيدنا آدم، وفي السماء السابعة في منتهى رحلة السماء قابَلَ سيدنا إبراهيم، ليدلّنا على أن الطريق السماويّ وأن التواصل مع الغيب إنما هو الرحلة ما بين مقام آدم ومقام إبراهيم، ومقامُ آدم هو مقام التوبة، ومقامُ إبراهيم هو مقام التخلي عن الأغيار، وهو مقام التوحيد: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا}.
فارحل في معراجك يا مسلم من التوبة إلى التوحيد، ولتكن أولُ دعوتك التوبة، وتوجَّه إلى الله وعاهِده وقل له: يا ربّ جئتك تائبًا وراحلاً إلى عالَم الأنوار، فطهِّر قلبي واغسله، وباعد بيني وبين خطاياي كما تُباعد بين المشرق والمغرب، واغسلني بالماء والثلج والبَرَد، ونقّني من الخطايا كما يُنقّى الثوبُ الأبيض من الدنس...
وبهذا يكون معراجك قد بدأ أيها المسلم، لأن أول التائبين هو سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام:
{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]
إذًا: لتكن أول دعوتك التوبة والطهارة.
كيف تطمع أن تدخل إلى المغيَّبات، وأن يتواصل قلبك مع الغيب، دون أن يتطهّر قلبك؟
فأنت لا يُسمح لك أن تدخل المسجد إلا بطهارة بدن، أيُسمح لك أن تدخل إلى البيت وقلبك نجس؟
فلن تدخل بالكِبر والعُجب، ولن تدخل بدَنَسِ النفس الأمّارة بالسوء.
فإذا تحقق لك دخولك في مقام التوبة فاعرج بعدها واشهد في معراجك أصحاب المقامات، فاشهد في معراجك أنبياء الله، واستعرض قصصهم في القرآن حتى تستفيد من سِيَرهم:
- وسوف ترى في معراجك يوسف الصّدِّيق الذي رأى برهان ربّه فانتهى عن معصية أمره..
- وسوف ترى في معراجك موسى الكليم الذي كانت الخشية من الله غالبةً عليه..
- وسوف ترى في معراجك عيسى الذي أبى إلا أن يكون روحًا طاهرة بعيدًا عن الدنس، وبعيدًا عن الخطايا، وبعيدًا عن الذنوب..
- وستشهد في معراجك أيوب الصادق..
- وستشهد في معراجك داوود الشاكر..
- حتى تكون في عتبات إبراهيمَ الذي وَفّى، والذي لم يلتفت إلى زوجة عندما أمره الله بتركها، ولم يلتفت إلى ولد عندما أمره الله بذبحه، ولم يلتفت إلى أبيه عندما أيقن أنه عدوٌّ لله فتبرّأ منه..
وهو الذي أَمَّ الناس كلهم في توحيد الله، فلم يكن قلبه يلتفت إلى شيء من الأشياء..
وأراد النمرود أن يُلقيَه في النار، فجاء إليه جبريل ومعه مَلكُ الرياح ومَلك الماء قائلاً له: مُرهُما يا خليل الرحمن، فليطفئا تلك النار.
ولا يلتفت الخليل، لأنه درّب قلبه على ألا يطلب إلا من الله.
ويقول له جبريل: ارفع يديك بالطلب يا خليل الرحمن، فها أنت تُلقى في منجنيق، وستكون بعدها في نار ملتهبة مشتعلة، فارفع يديك بالطلب.
ويقول: "عِلمُه بحالي يُغني عن سؤالي".
هذا هو مقام الاكتفاء بالله..
فإذا كنت عبده فاسمع قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]
بلى...
إذًا:
الإسراء: تنقّلات في الموافقات.
والمعراج: تواصلك مع المغيَّبات من خلال الارتقاء بحقائق الإيمان، ومن خلال التصديق بالله، ومن خلال تغليب المغيَّب على المحسوس، وحينما تثق بالذي وعد الله به أكثر مما هو في يمينك..
فإذا كنا بهذين الوصفين الأول والثاني، سنجد أننا قد اقتربنا من المسجد الأقصى، وأننا قد أصبحنا في غَنَاءٍ عن البكاء والعويل والندب، وسنجد أننا أصبحنا على قرب خطوات من مسجدنا الأقصى السليب..
البِرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تَدين تُدان.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|