التكافل في مجتمع الإسلام مقصود من مقاصد الإسلام، وهي حقيقة لا ينكرها مؤمن يؤمن بالله ورسوله.
والواقع أننا ونحن نرصد المؤسسات التعليمية التي تعلم العلوم الشرعية الإسلامية رأينا أن المدارس والمعاهد الشرعية التي أنشئت في سوريا يبلغ عددها حوالي /132/ ما بين معهد شرعيّ ومدرسة شرعيّة، موزّعة في أرجاء البلاد، وحينما نرصد واقع هذه المؤسسات التعليمية منذ نشأتها نجد أنها أُسست استجابةً لحماس شعبيّ إسلاميّ، إذ لم يكن منها ما هو مؤسس على أساس الدراسات الاقتصادية التي تنطلق من دراسة الملاك والتي تُستوعب في وزارة الأوقاف إلا العدد القليل، فلم يكن من هذا العدد الكبير إلا /23/ فقط.
وكان الحماس الشعبيّ الذي يدعم هذه المؤسسات مركّزًا في المدن الكبرى لاسيما في حلب ودمشق، وتبقى المؤسسات الأخرى ضعيفة التمويل، وربما لا يجد أبناؤها لقمة طعام يتناولونها قبل أن يجلسوا لمقاعد الدرس.
هذا واقع لاحظَتْه وزارة الأوقاف - ولا أحسب القائم على رأسها إلا رجلاً صالحًا، ولا أزكّي على الله أحدًا، ولا أشهد إلا بما أعلم - فكان المقترَح أن يكون التمويل لكل هذه المعاهد والمؤسسات التي تدرِّس العلوم الشرعيّة على قدم المساواة، وأن تراعَى حاجات الجميع، فأنشئ من أجل ذلك بتوفيق الله تبارك وتعالى صندوق مركزيّ تُجمَع فيه كل التبرعات، ثم توزع بالتساوي على جميع المؤسسات.
وهذه ظاهرة تحصل لأول مرة في هذه البلاد المباركة الشامية، ولم تكن موجودة في الماضي، ولمن أحب أن يموّل معهدًا شرعيًّا بذاته أو مدرسة شرعيّة بذاتها فقد وزّعت إيصالات رسميّة على كلّ المعاهد والمدارس الشرعية للذين يرغبون بالتمويل الخاصّ، على أن يُقتطع جزء يسير من هذا التمويل المشترط ليعود على المدارس الفقيرة.
إنها ظاهرة جديدة تدلّ على أننا بدأنا نتحرك خطوات عملية نحو الإصلاح، لا بالكلام ولكن على مستوى التنظيم والترتيب.
وهكذا تكون تبرعات المحسنين اعتبارًا من هذه المدة الوجيزة، إذ قد تُركت مدة لاستكمال الإجراءات، وستكون واصلة إلى أقصى البلاد وإلى أقصى القرى التي لا تصل إليها تبرعات المحسنين.
وهذه التبرعات أجمع علماء دمشق في اجتماع مركزيٍّ حضرتُه على أنها تجوز من أموال الزكاة، لأنها ترفد سهمًا هو سهم في سبيل الله، ولاسيما أنّ أكثر طلبة العلم الذي يتعلمون في هذه المنشآت هم من المحتاجين إلى التمويل.
أقول هذا على مستوى الإصلاح العامّ في المؤسسة الدينية في هذه البلاد، وعلى مستوى محافظتنا المباركة هذه التي تُنسب إلى سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والتي تَشرف بوجود رياض الأنبياء فيها كسيدنا زكريا عليه الصلاة والسلام.
وفي هذه المدينة المباركة أيضًا بدأنا خطوات إصلاحية عملية لا قولية، كان عنوان هذه المرحلة ما قاله سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام:
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
من أجل هذا أردنا أن نضع لمسات من خلال خطوات الإصلاح نتعاون فيها جميعًا.
وثقافة الوقف الإسلاميّ غائبة، ففي الماضي كان الوقف يُصرف في وظائفه إلى الفقراء مباشرة، فيوجه البناء الوقفيّ مباشرة إلى الأوقاف، ثم رأى العلماء حينما أُصدِر قانون الأوقاف أن تكون العقارات الوقفية في مواردها ومآلاتها إلى ما ينبغي أن يصل إليه الفقير وأصحاب الحاجات، فأصبح التجار والأغنياء يستثمرون العقارات الوقفية، لا على أنهم فقراء ومحتاجون، إنما لأن المصارف التي تَنتج عن هذا الاستثمار الوقفيّ سوف تُصرف لطلبة العلم والفقراء، وسوف تصرف في وجوه الخدمات وفي وجوه الخير، ولا يصرف شيء منها إلا في هذه الوجوه.
هذه هي ثقافة الوقف المعاصرة التي نعيشها اليوم، لكن الناس ما يزالون يتوهمون أن الوقف الإسلاميّ في صورته القديمة هو مبنى للأوقاف ينبغي أن يستثمره الفقراء مباشرة..
لا.. فالذي يسير عليه العلم الإسلاميّ المعاصر إنما هو كون مصارف الوقف الإسلاميّ بهذا الأسلوب الذي حدثتكم عنه.
وأستغرب أن يأتي الأغنياء وأصحابُ السَّعة ويطلبون أن تكون إجارات الوقف الإسلاميّ يسيرة!
إنه عندما يصرف صدقةً لغزّة أو إعانةً للمجاهدين فإنه ينفق من أمواله نفقة كبيرة، لكنه لا يعي أنه حينما يكون مساهمًا في إجارةٍ وقفية فإنه يكون متصدقًا بها لله تبارك وتعالى.
هذه الثقافة غائبة..
ولذلك أردنا أن تكون هذه الثقافة حاضرة، وأردنا أن تكون خدمات العقارات الوقفية من أجل مصلحة هذه المدينة ومن أجل الخدمات الكثيرة، ولهذا كان من جملة الأهداف أن تبنى المدارس من أجل أن يدخلها الطلبة ويتعلموا فيها مجانًا، وأن تُبنى فيها مواقف للسيارات، وقس على ذلك من الخدمات الكثيرة...
وهذا لا يمكن أن يكون يا أهل المدينة العريقة، ويا أهل الشهباء، إلا حينما نتعاون يدًا واحدة على مستوى البيئة الدينية.
قلنا: إن الذي ينبغي أن يتصدر في هذه البيئة الدينية ينبغي أن يكون مُراجعًا لعلومه، وفتحنا أبواب التأهيل العلميّ، وقلنا: الذي يريد أن يعيد تأهيله العلميّ فإن الأبواب مفتوحة لذلك، ومن أراد أن يعلّم القرآن فإن أبواب التأهيل لتعليم القرآن الكريم مفتوحة، وفتحنا الأبواب لذلك من خلال مدرسة الحفّاظ - التي تفخر مدينة حلب بها وقد خرّجت مئات الحفاظ - وشُكلت منها لجنة رسمية من أجل أن يكون معلمو القرآن الكريم من الأكفاء.
والحمد لله أننا رأينا زحفًا كبيرًا من أجل أن يمتحن طالب العلم في تلاوته للقرآن، ورأينا الألوف التي تحصل على شهادة النجاح.
هكذا كان الواقع الذي كنّا نتوقعه، ورأينا من الكفاءات العلمية والكفاءات القرآنية الشيء الكثير الذي يقول: إننا في هذه المدينة نـزخر ونفخر بثروة علمية إسلامية ربما كانت متميزة في هذه البلاد.
وكل هذا تحت العنوان: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
لكن الذي حصل على مستوى ما يُسمع في الساحة أنّ الذي هو بحاجة إلى التأهيل ولم يكن واحدًا من الذين أُعلن عن نجاحهم من خلال اللجان المتخصصة، أشاع أن اللجان تقدّم أسئلة تعجيزية، وهذا كنا نسمعه عندما كنا طلبة في الجامعة، فَلَكَم رأينا طالبًا قصّر في دراسته يقول: أستاذ المادة له مصلحة مع الطلبة!
والذي حصل فعلاً أن اللجان وضعت معايير ثابتة للجميع، والذي لديه الكفاءة العلمية سوف تُقدّم له شهادة يُعترف فيها أنه قادر على تعليم القرآن الكريم.
وبدأنا نسمع أن مديرية الأوقاف تمنع تعليم القرآن، في الوقت الذي أصدرنا فيه ما يزيد عن مائة ترخيصٍ لدورة ومعهد، وكلّهم من الناجحين، وكلهم من الأكفاء، ولا نشترط أن يكون مدير الدورة القرآنية إمامًا، إنما نشترط أن يكون متعلمًا، لأننا لا نريد لأولادنا أن يتعلموا إلا من متعلم.
وكان كلّ مَن يُرخَّص له دورة يمكن أن يحضِر معه عشرةً ممن نجحوا في الامتحانات يعلّمون معه القرآن، وهذا يعني أن الذين رُخّص لهم يزيدون فعليًّا على الألف، وإن كانت الدورات بحدود المائة، لكن الذين يساعدون في التعليم إلى جانب من رُخّص لهم من الناجحين هم بحدود الألف.
وهذا يعني أن المدينة تتعلم القرآن من خلال المعلمين الأكفاء، وهذا يعني أن أولادنا سوف يتعلمون تلاوة كتاب الله على وجهها الصحيح، ويتعلمون مخارج الحروف من وجهها الصحيح.
وسواءٌ كان الشخص إمامًا أو غير إمام فالمعتبر أن يكون متقنًا لتلاوة كتاب الله تبارك وتعالى، لأننا نقدم أولادنا أمانة بين يديه.
وبعد ذلك قلنا:
تعليم القرآن الكريم لا يُشترط فيه أن يكون هذا الشخص مفرَّغًا إمامًا أو خطيبًا، فلربما يجيد تلاوة القرآن مهندسٌ أو تاجرٌ أو صانع... ويحصُل على شهادة تعليم القرآن، وهذا يكون مكتفيًا ولا يحتاج إلى جعْل تعليم القرآن دكان رزق لأن الله سبحانه قد كفاه، وعندما ينتهي من عمله يفرّغ من وقته لتعليم القرآن.
أين نحن من واقع أصحاب رسول الله؟
هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقاضَون المال على تعليم علم رسول الله؟
هل كان أصحاب رسول الله وهم ينشرون الدعوة شرقًا وغربًا يقفون أمام من يريدون تعليمه وتبليغه دعوةَ الله ودعوةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقولون له: أعطنا من المال حتى نبلغك دعوة الله؟
ومع كل هذا قلنا: الفقير الذي هو طالب علم ومتقنٌ لكتاب الله تبارك وتعالى يجب على المحسنين من أهل الخير أن يقفوا إلى جانبه، لكننا لا نريد للطفل الذي أقبل إلى بيت الله فرحًا أن يتعرض لسؤال: أعطني المال، ولا نريد أن يتعرض لعصا يُضرب بها فينفر من خلالها من بيت الله.
نحن نريد للطفل أن يعيش عالم الجمال، أما المحسنون الذين يريدون أن يتعهدوا طلبة العلم من الفقراء فالباب مفتوح.
نحن نريد من هذه المدينة أن تكون مدينة متميزة في علمها، متميزة في صناعتها، متميزة في تجارتها، متميزة في تعليمها لكتاب الله، متميزة في إمامتها للعلوم الإسلامية...
هكذا يكون العنوان: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ}.
لكنني أعجب من الذين يتحدثون بما لا يعرفون.
وكم سمعت من مصادر كثيرة أن مديرية الأوقاف تؤسس عطاءات للتلاميذ، وتؤسس عطاءات للمعارف، وللذين هم أصحاب صلة شخصانية...
ولَكَم حاربنا التجمعات الفئوية والدعوةَ إلى الانتماءات الضيقة، وقلنا: ما فرّق المسلمين إلا الفئوية، فانتسابنا إنما هو إلى الإسلام، قال تعالى:
- {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}
ولم يدعُ إلى شيخ، ولم يدعُ إلى ذاته الشخصانية..
- {وَعَمِلَ صَالِحًا}
أي: استقام على صراط سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واتبعه.
- {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33 ]
] أي: أعلن انتماءه إلى الإسلام لا إلى جماعة ولا إلى شيخ، إنما إلى أمة الإسلام التي زعيمها محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا نُفاجأ أن الأقاويل تنتشر لتحمل الأباطيل التي لا صحة لها، والله سبحانه وتعالى يقول:
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12].
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ، هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} [القلم: 9-10].
والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث المتفق عليه:
(إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ)
"قيل" لأنه سمع فقال: قيل.
على مثل الشمس فاشهد.
وأُشهد الله من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنني لا أدافع في هذا الكلام عن شخصي، إنما أدافع عن المؤسسة الدينية التي تسعى من أجل أن تكون مع أهل هذه المدينة يدًا واحدة.
أسعى من أجل أن نتناصح معًا.. وأسعى من أجل أن نكون معًا جماعة منتمية إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ونخدم معنى "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
نريد النـزاهة، ونريد أن نجعل الإتقان عنوانًا، ونريد أن تكون النـزاهة المالية والبُعد عن سرقة المال الحرام عنوانًا، فالجسم الذي تدخل إليه لقمة من الحرام يُغمس في نار جهنم، والجسم الذي ينبت من السحت فالنار أولى به.
وكان الأولياء إذا أنكروا قلوبهم يومًا من الأيام رجعوا إلى طعامهم.
وهذا السري السقطي خال الإمام الجنيد مرّ يومًا من الأيام على الجنيد وكان جائعًا فأطعمه من طعام العُرس في جواره وقد أهدي له، فلم يستطع السري في تلك الليلة أن يقوم الليل، فأنكر قلبَه وجاء إلى الجنيد وقال: من أين لك هذا الطعام يا جنيد؟
فقال: أُهدي إليّ من العرس في جوارنا.
فقال: إنْ زُرتُك فلا تطعمني إلا ما عندك.
قال: ما كان عندي إلا كسيرات من الخبز.
قال: هذه أولى وأحسن.
لقد أنكروا قلوبهم وفتّشوا عن طعامهم.
إذا كنا نريد أن نعود إلى الله يا إخوتي فهل نعود إلى الله بمجرد الدعاء؟
هل نعود إلى الله بمجرد الشعارات؟
أم أن العودة إلى الله إنما هي عودة عملية نسعى فيها معًا لتصحيح المسار؟
البِرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تَدين تُدان.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|