قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1-2].
وهكذا اختصر ربّنا تبارك وتعالى مضمون القرآن العظيم الذي نتعبد الله به بعبارة موجزة تندرج تحتها كل توجيهات الله تبارك وتعالى للإنسان حين قال: "أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ".
إنها كلمات قليلة، لكنها وجَّهت الإنسان إلى وِجهةٍ قد يكون واقعًا في سُبُلٍ متعرجة وملتوية بعيدًا عنها وهو لا يدري، فقد يكون متوجهًا إلى عبادة غير الله تبارك وتعالى وهو يتوهم أنه يعبد الله، وهذه أزمة لا تنحصر في العقيدة وحسب، بل تتعداها إلى السلوك.
وأضرب لكم أمثلةً ثلاثة يعبد الإنسان فيها غير الله تعالى وهو متوهّم أنه يعبد الله.
وقد أقبل علينا شهر شعبان الذي يمهّد لشهر رمضان، وفي التمهيد وما بعده يحصل التصحيح، ويراجع الإنسان أوراقه، ويراجع سلوكه، ويراجع ما في قلبه، فقد أقبل موسم الخيرات، ولابد للإنسان من أن يستعد لتلقي البركات، وأحببت في أول الموسم أن أتحدث مع حضراتكم من هذا المنطلق: "أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ".
وحتى يتضح معنى ذلك أنقل إليكم من واقع حياة أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وتفاعلهم مع المربي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تلك الحادثة:
فقد قرأ عُدي بن حاتم (وكان نصرانيًّا) قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة: 31]
فتعجّب كيف يتخذ من دون الله ربًّا وهو في المسيحية التي تدعو إلى عبادة الله؟!
فسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك (كما يروي الترمذي وغيره)، فبيّن له الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم معنى عبادة غير الله في هذا النصّ القرآنيّ بأن أحبارهم ورهبانهم أحلّوا لهم بعض الأمور فاستحلُّوها، وحرّموا عليهم بعضها فحرّموها.
وهكذا جاء التفسير بالمعنى السلوكيّ، فأنت تطيع من؟
لقد حرّم ربّنا تبارك وتعالى بعض الأمور وأحلّ بعضها الآخر، فينبغي أن يكون نظرُك إلى ما أحلّه الله، فتكون فيه قولاً وفعلاً، لا تكون في إنكاره، ولا في استهجانه، ولا في جحوده، ولا من أهل الاستخفاف به..
فتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.
وكم حرّم الله سبحانه وتعالى أمورًا تجد فريقًا من المسلمين لا يتورعون عن اجتيازها واقتحامها دون أن يكون لهم في ذلك وازع!
وكم أحلَّ الله سبحانه وتعالى أمورًا يستهجنها الناس اليوم!
وما هذا إلا نوعٌ من أنواع العبادة لغير الله.
فالنوع الأول من عبادة غير الله:
1- الطاعة لغير الله تبارك وتعالى فيما منع الله سبحانه وتعالى تعدّيه:
فالطاعة لا تكون عند المؤمن إلا لله، ولا يكون الاقتداء إلا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وصحبه وسلم.
فإذا وجدت في حياة الإنسان حالة الاتباع والانقياد لغير الله فيما يخالف الله ورسوله فهو النوع الأول من أنواع عبادة غير الله.
2- التقليد الأعمى:
وقد حكى ربّنا تبارك وتعالى عن هذا النوع بقوله:
قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]
فنحن لا نهتدي إلا بعاداتنا الموروثة، أو بما أملاه علينا آباؤنا، أو بما ورثناه من تقاليدنا..
وكيف يمكن لمجتمعنا أن يتغير وينهض إذا لم نفرِّق فيه بين العادات التي ينبغي لنا أن نهجرها والعادات التي لا مانع منها ولا تتناقض مع تغييرنا ونهضتنا؟
وكم من العادات تحكمنا اليوم والتي يمكن لنا لو تجاوزناها أن نحقق نقلة اجتماعية نوعية؟
ألا تحكمنا اليوم عادة غلاء المهور، ومن أجل ذلك يرتكب شبابنا الزنى؟
ألا تحكما اليوم شروطٌ قيّدْنا بها شبابَنا؟
فلا يجوز في عُرفنا وتقليدنا مثلاً تزويجُ الشاب حتى يملك بيتًا وعربة وو... وكذلك الزفاف الذي تُنفق في حفله أموال كثيرة، إلى آخر ما هنالك من فواتير النكاح.
ويمكن من خلال الاقتداء بالسنة أن نغير هذه العادات، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى أن يكون عقد النكاح في المسجد، وقد رأيت من يحرص على أن يكون عقد نكاحه في المسجد الحرام، ورأيت من يحرص على أن يكون عقد نكاحه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
ولماذا لا يكون عقد النكاح في المسجد؟
لكننا نريد أن نقلد غيرنا، ولا نريد أن نجلس كما نجلس في صلاة الجمعة هكذا في حضرة سيدنا زكريا..
في بيت الله يكون الشهود في مجلس مهذّب مؤدّب يكون مجلس عقد النكاح.
ما الذي يمنعنا أن يكون حفل الزفاف بين المغرب والعشاء في مجلس مهذّب ومؤدّب؟
ولماذا نصرُّ على أن نبني حياتنا على أساسٍ من الفوضوية؟
ولماذا العرسُ الدمشقيّ الإسلاميّ الإيمانيّ يُكتب في بطاقة الدعوة إليه: ندعوكم لسماع قصة المولد النبويّ، وتجد الجميع من غير حركة واحدة في أدبٍ مع الله ورسوله في المسجد؟
ولو كان هذا محققًا لسمعتم ورأيتم أن كل عقد وكل حفل لا يكون إلا في مساجدنا، ونرخّص للجميع.
لكن مع بقاء العادات، ومع وثنية العادات، ومع الإصرار على أن لا نتغير وأن نتمسك بعاداتنا الموروثة.. إذًا: لابد لنا أن نبقى في أزماتنا الاجتماعية وفي التفلت، ولابد لنا أن نضيّق على الشباب وأن نصرف الأموال.
واليوم لو أننا استقرأنا واقع الأغنياء في مدينتا هذه لوجدنا أموالاً تصرف بطريقة مدهشة، فتُصرف أموالٌ في ليلة تغني مئات الأُسر.
واللهِ لا أتحدث إلا عن يقين، وإلا عن معرفةٍ بتفصيلاتٍ في حوادث.
وكل ذلك ينشأ عن عنوان التقليد.
إذًا: حتى نعبد الله وحده لا بد من أن نجعل العنوان الأول: الطاعة لله وحده.
فإذا انتقلنا إلى العنوان الثاني (التقليد) فلن يُسمح لنا بالتقليد مطلقًا إلا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله سبحانه وتعالى لنا في حقّه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]
فلا يسمح بالتقليد لأب ولا لجد ولا لأم ولا لزوج ولا لزوجة... فالتقليد المطلق لا يكون إلاّ لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي قال للناس في الحجّ: (خُذُوا عَنِّيْ مَنَاسِكَكُمْ)
، وقال: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي).
فإذا وقفنا مع غير هذه الشخصية الكاملة المفردة شخصيةِ محمد صلى الله علية وسلم التي لا تتكرّر ينعدم التقليد بعدها، وأنت حرٌّ بعد ذلك، فاختر لنفسك ما يكون الأنسب، ويختار المجتمع له ما يحقق له رغد العيش بعيدًا عن وثنية العادات والتقاليد.
وبعد هذا يبقى النوع الثالث الذي أردت أن أحضره مثالاً وهو:
3- الاعتماد:
قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 7]
أي: كان مخلوقٌ يعتمد على مخلوق ويلتجئ إليه، والأصل أن المخلوق لا يعتمد إلا على خالقه.
وربما تكون المقولة اليوم التي تناسب ما نحن فيه: "أن رجالاً من الإنس يعوذون برجالٍ من الإنس"..
فالضعيف يعوذ بالقويّ، والذي ليس له سندٌ في العادة يعوذ بمن له سندٌ في العادة، والذي له جاهٌ وسلطانٌ يعوذ به من لا جاه له ولا سلطان... وهذا هو النوع الثالث الذي لا ينفيه إلا توكّل القلب على الله.
فاستعن بأخيك وخذ بالأسباب، ولكن لا تنتقل إلى حالةٍ نفسيةٍ يعيشها كثير من الناس اليوم وهي حالةٌ من الرَّهَق والخوف... لأنه يتوهم أن زيدًا أو عَمرًا بيده حياته ومماته وخفضه ورفعه.
لا والله.. لا يكون هذا إلا من الله، فلا يخفض ولا يرفع، ولا يعطي ولا يمنع، إلا الله.
هذه حالة الإيمان.
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعٌ تحت الشجرة، وأصحابُه قد ابتعدوا عنه، وسيفُه معلّقٌ على الشجرة، ويغتنم الفرصةَ أعرابيٌّ يتوهّم أنه في هذه الحالة يستطيع أن يجتز الإسلام، لأنه يرى سيف رسول الإسلام بعيدًا عن يده، ويرى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا من غير سلاح ولا حارس.
ويأتي الأعرابيّ فيمسك سيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول بلغة العادة مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يمنعك مني يا محمد؟".
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يجيبه بقلبٍ ساكن وبنفسٍ مطمئنة دون أن يرتجف قلبه، ودون أن ترتعد فرائصه: (الله)، فهو الذي يمنعني.
وإذا بيد الأعرابيّ تيبس، وإذا بالسيف يسقط من يده، ويمسك النبي صلى الله عليه وسلم السيف ويقول للأعرابي: (من يمنعك مني؟)، فيقول له: "كن خير آخذ".
فيقول له صلى الله عليه وسلم: ادخل في الإسلام.
ويقول: لا حتى لا تقول العرب أنني دخلت الإسلام خوفًا.
فيُطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتوجه بعيدًا ويغتسل ثم يعود ويقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلن الشهادة: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله".
إذًا: هي عناوين ثلاثة:
تطيع من؟ وتقلّد من؟ وتعتمد على من؟
فإذا استطاع الإنسان أن يجيب على هذه الأسئلة الثلاثة إجاباتٍ إيمانيةً سيكون ممن لا يعبد إلا الله.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|