يقول ربّنا سبحانه وتعالى مُعرِّفًا إيّانا على هويّتنا ووصفنا الخاصّ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} بكلّ أصنافهم: بعَرَبهم وعَجَمِهم، أبيضِهم وأسودِهم، صغيرهم وكبيرهم، مؤمنهم وكافرهم...
{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] هذه الحقيقة التي يغيب عنها الإنسان في أكثر أوقاته وهو مُستغرِق في لُجَج غفلاته.
ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى في خطابٍ عامٍّ وتعريفٍ شامل:
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} [الرحمن: 29] ؟
وبعض مخلوقاته يسأله اختيارًا، وبعضها يسأله اضطرارًا، فإذا صَمَتَ اللسان نطق الحال، لأن كل مخلوق لا قيام له ولا ظهور إلا بإمداد ربّه وإعانته.
وهنا يظهر التكليف.
فالمواسم الخيّرة تأتي إلينا من آن لآخر من أجل أن نـزيل المتراكم فوق قلوبنا، ولكي نعود إلى صفائنا وتعريفنا وتشريفنا...
وها نحن نودّع شعبان ونقبل على موسم رمضان الذي يأتي قريبًا لكي يخرجنا عن عاداتنا، ولكي نشعر بفاقتنا وفقرنا..
فلماذا الجوع في شهر رمضان، لاسيما في وقت الحر الشديد؟ ولماذا الظمأ؟
كل ذلك حتى نشعر بأننا أصحاب فقر وفاقة.
ورحم الله من قال: "فَاقَتُكَ لَكَ ذَاتِيَّةٌ" أي احتياجك ذاتيّ إلى الله تبارك وتعالى، "وَوُرُودُ الأَسْبَابِ مُذَكِّرَةٌ لَكَ بِمَا خَفِيَ عَلَيكَ مِنْهَا" أي كلما جعت تذكّرت أنك فقير إلى الله، وكلما عطشت تذكرت أنك محتاج إلى الله، وكلما ظهر لك ضعفك اقتربت من حضرة الله.
فاستشعار الضعف والفاقة اقترابٌ من وصفك، لأن وصفك الأخصّ هو أنك الفقير والمحتاج إلى الله.
فإذا أردت أن تفيض المواهب عليك في شهر رمضان (وفي غيره) صحّح شعورك بفقرك إلى الله، فإذا وجدت في كل أحوالك أنك محتاج إلى الله فقد اقتربت من حضرته، لأن الربوبية حضرة عظمة، وهي حضرة عظمة واحدة لا تقبل الشريك ولا المنازِع.
فإذا وُجد فيك شيء من التعاظم كنت بعيدًا عن حضرة الربوبية.
لكن حينما تأتي منطرحًا عبدًا لا تنازع الربوبية أبدًا تكون في عناية الربوبية ورعايتها، لأنك كلما طرحت فقرك في عتبات الربوبية أحاطك ربّك بالعناية والرعاية، وهذا هو سِرّ رمضان الذي نتهيأ اليوم له.
وكنا في الأسبوع الماضي نتحدّث من خلال القرآن الكريم عن خروج الإنسان إلى الدنيا، وذلك حينما قال سبحانه وتعالى وهو يتحدّث عن الإنسان: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}، لكنه سبحانه ردّه إلى فقره وفاقته حينما قال: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 7-8]
فقد نسب الخروج إلى الإنسان، لكنه سبحانه نسب الإرجاع إليه وحده وذكّرَنا بالقدرة، من أجل أن يستشعر الإنسان عجزه.
إذًا: يخرج هذا الإنسان من بين أضلاع أمه وعمودها الفقري، ثم إنه تبارك وتعالى على إرجاع هذا الإنسان إلى الدار الآخرة حيًّا يُبعث ويُنشر لَقَادِرٌ.
أما هذا الإنسان الذي خرج إلى الدنيا، وأراد أن يكون فيها صاحب قدرة، مُغطيًّا بذلك حقيقة عجزه الأصليّ، فقد ذكّره سبحانه بعجزه حين قال: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}
وهو القائل سبحانه وتعالى وهو يُظهر ضعف الإنسان وحاجته إلى الله، وكيف أن العناية ظهرت من حضرة الربوبية فأحاطت به، فقال:
- {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} فمن أين لك هاتان العينان؟
أنت تبصر بعينيك أيها الإنسان، فهل صنعت عينيك أنت؟
- {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8-10] أي: هديناه إلى ثديي أمّه، وهذا من أدب القرآن لأنه لا يريد أن يقول: (وهديناه الثديين)، لأن القرآن يعتمد الأدب في التعبير.
وهكذا خرج هذا الإنسان، الذي اعتنت الربوبية به في بطن أمه، وقد فتح عينيه.
وحينما أراد هذا الإنسان أن يبتلع الماء كان الحق تبارك وتعالى مُشبِعًا له، ولم يكن في بطن أمه محتاجًا إلى طعام وشراب، فلما ألهمه الله سبحانه وتعالى أن يبتلع شيئًا من الماء الذي يحيط به في بطن أمه، إذا هو يشعر بالحاجة إلى الطعام والشراب، وبدأ يزحف من رَحِمِ أمه إلى الدنيا يريد الطعام والشراب، فلما خرج فتح عينيه، وحرّك لسانه وشفتيه، وهداه الله إلى ثديي أمه.
وهذا وجه من وجوه التفسير الذي يتناسب مع سياق الآية، ذكره العلماء رضي الله تعالى عنهم.
إذًا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي: هديناه وهو طفل صغير لا يعلم شيئًا: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] فمن الذي علّم هذا الطفل أن يزحف نحو ثديي أمه؟
إنها العناية التي تحيط بك من كل جانب، وأنت في حالٍ يظهر فيها ضعفك.
فالأم التي تستشعر واجبها أمام الله لا تجعل طفلها الذي يزحف إلى نجديها (أو ثدييها) مُعتمِدًا على حليب البقر، ولا تجعله محرومًا من حليب البشر الذي هدى الله سبحانه وتعالى الطفل إليه.
إنها المسؤولية..
وحينما بدأت المادية تقلب الموازين، وقالت للأم: اخرُجي بعيدًا عن بيتك، وغادري ولدك وابتعدي عنه.. أُهمل الطفل وأُهملت رعايته.
إنه سبحانه وتعالى القائل:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]
وهذا استشعار عبودية، وذلك حينما تشعر الأم بواجبها أمام الله.
وقال سبحانه: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وذلك حتى يبقى.
والله سبحانه هداه إلى مصدر مناعته، وإلى مصدر قوته، وإلى الصدر الحنون.
وبعد هذا وضع الله سبحانه وتعالى الحنان في قلب أمك التي ترضعك، إذ يخرج منك الأذى فتزيحه عنك وتضمك إلى صدرها، فهل الأم هي التي صنعت حنانها، أم أن الله هو الذي صنعه؟
ومن الذي اعتنى بك فبقيت في طفولتك نظيفًا؟
ومن الذي ألزم هذه الأم حتى سعت إليك وأنت في أسوأ حالاتك، حيث يخرج الأذى منك والفضلات من بطنك، فتزيحها عنك بحبٍّ وحنان، ثم تضمك إلى صدرها؟
هذا حنان الله.. وهذه رحمة الرحيم الذي أعطى تجليًّا من تجلياتها لأمك.
ولماذا قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] ؟
حتى تفهم أن كل ما جاءك من والديك إنما هو من الله.
وكذلك خرجت وأنت لا تعلم، لكنه سبحانه وتعالى علّمك البيان.
قال تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4]
وقال: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]
وحينما صرت في وصف الرجال، نسيت من أعطاك؟! ونسيت أن القوة التي تتمتع بها هي عطاؤه؟!
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] فالذي أنت فيه من القوة (ماليةً كانت أو ماديةً أو بدنية) هي مجعولة من الله سبحانه وتعالى وحده.
وهكذا فإن سجودك في شهر رمضان في القيام يُذكّرك بفقرك وحاجتك، وجوعَك وظمأَك يُذكّرك بفقرك وحاجتك.
وهذا سيّد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم - الذي لا يوجد مخلوقٌ خلقه الله سبحانه وتعالى منذ أن خلق أول مخلوق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يوجد من هو أحبّ إلى الله منه، فلا يوجد محبوب عند الله أعظم من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم - يُسلّط الله سبحانه وتعالى عليه الصبيان في الطائف.
فكيف يُسلّط الحبيب على حبيبه من يؤذيه ويخدشه ويُسيل دماء قدميه؟!
لكنه صلى الله عليه وسلم أظهر عجزه، فلم يقل: يا ربّ كيف تفعل هذا بي وأنا أعلم أنني أَحَبُّ المحبوبين إليك؟ لكنه سجد في عتبات الله وهو يُعلن فقره وحاجته ويقول: (اللّهُمّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبّي وَرَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَوْ إلَى قَرِيْبٍ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ سَخَطٌ عَلَيّ فَلا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي) فأنا أحتاج إلى سعتك، وأحتاج إلى فضلك، وأحتاج إلى كرمك...
ألم يرد في الحديث عن الله: (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ) ؟
هكذا ينطرح عبد الله في عتبات الله.
وهذا خليل الرحمن إبراهيم، عندما أراد عدو الله نمرود أن يلقيه في النار جاء إليه جبريل، وجاء إليه مَلك السحاب، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي: يكفيني ربيّ، فأنا مخلوق وأنتم مخلوقون ولا أحتاج إلا إلى الله.
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
أين أهل الإيمان الذين يُظهرون فاقتهم وعجزهم؟
البلاء يحيط بالأمة الإسلامية من كل جانب، وعدو الإسلام يتربص بالمسلمين من كل جانب، ولكن أين الانطراح في عتبات الله؟ وأين إظهار الفاقة والعجز؟ وأين إظهار العبودية..؟
نستغني.. ونكتفي.. ونفخر.. والمطلوب في هذه المرحلة أن نَذِلّ لله، وأن نُظهر فقرَنا لله، وأن نُظهر عجزنا واحتياجنا إلى الله..
هذا سِرّ الإيمان الذي بسببه تتغيّر الأمم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]
هذا سِرّ التغيير.
سِرّ التغيير: ما الذي نحمله.
ويَحسُنُ إظهارُ التجلّدِ للعِدا ويَقبح غيرُ العجزِ عند الأحبّةِ
ولهذا إن كنت تتوهم أنك تحب الله فأظهِر عجزك بين يديه.
وأَحسنُ أحوالي وثُوقي بِفَضْلِكمْ وأَنِّي على أَبْوَابِكُم أَتَملَّقُ
فَلِلّهِ مَا أَحْلَى السؤالَ لِوَاهِبٍِ عظيمِ النَدَى مِنْهُ العَطَاءُ مُحَقَّقُ
فَلُذْ بالذي يَسْتَحْقِرُ الكونَ كُلَّهُ عَطَاءً إذا القُصَّادُ بِالبَابِ حَلَّقُوا
وعُذْ بِالذي يَبْغِي المُلِحَّ بِبَابِهِ ويَغْضَبُ إِنْ عَنهُ العُفَاةُ تَفَرَّقُوا
فَذو فَاقَةٍ والله لَيْسَ بِنَافِعٍ لِذي فَاقَةٍ إِذْ فَقْرُهُ بِهِ مُحْدِقُ
وهكذا نستطيع دخول شهر رمضان لا بالطقوس، ولا بالعادات، ولا بالممارسات، ولا بانتظار المسلسلات، ولا بانتظار المُسلِّيات.. إنما ندخله بعبودية، وندخله كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ساجدًا.
ندخل الباب سُجّدًا ونقول: حِطّة..
ندخل رمضان سُجّدًا..
ندخل رمضان عبادًا لله..
ومهما أكثرنا من العبادات بحركاتنا البدنية لن نفهم شهر رمضان، لكن إذا دخلناه ونحن نعلم أن المقصود من هذا الشهر هو أن نستشعر فقرنا وحاجتنا وذُلَّنا لله وعبوديتنا له، فإننا عندها نُعتق من النار.
وكيف لا يُعتِق ربّنا من كان له عبدًا؟!
إنه سبحانه الذي حضّنا على إعتاق العبيد، فمَن كان عبدًا لنا أعتقناه، فإذا أردت أن يعتقك سيّدك فكن له عبدًا.
البِرّ لا يبلى، والذنبُ لا يُنسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تَدين تُدان.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله. |