الوحدة الإيمانية مقصود من مقاصد التربية الإيمانية.
ورابطة الإسلام تضبط الأحكام بين أفراد الأمة الإسلامية، لكن من أجل أن تظهر الوحدة في هذه الأمة لابد من سريان نور الإيمان، ولابد من أن يؤمَّ أهلُ الإيمان المؤمنين حتى يخرجوا عن شتاتهم وفرقتهم.
ولذلك نقرأ في حديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
ولاحظوا أن الحديث النبويّ لا يقول: (مثل المسلمين)، لكنه يتحدّث عن مثل المؤمنين.
{قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]
فالإسلام انقيادٌ ظاهرٌ لأحكام الله تبارك وتعالى الشرعيّة، أما الإيمان فهو نورٌ في القلب وحالٌ يقوّم سلوك الإنسان بسبب فيضان الأنوار في القلب.
وشتّان شتان بين من كان في مقام الإسلام وحده، ومن كان ناعِمًا ومُتنعِّمًا بأنوار الإيمان مع الإسلام.
إذ النفاقُ ظهورُ أحكام الإسلام في ظاهر المسلم مع غياب الإيمان من باطنه، لكنه حينما يتحول إلى وصف الإيمان فإن سلوكه ينطبع بحركةٍ لا يمكن أن يُشبهها حاله قبل أن يتعمَّر قلبه بالإيمان.
أقول هذا وأنتم جميعًا ترقبون حالة الشّتات والفُرقة التي يعيشها المسلمون اليوم، ولا يمكن أن يخرجوا - دُعاةً أو طلبةَ عِلم أو أفرادًا - من فُرقتهم وشتاتهم هذا إلا حينما تتعمَّر قلوبهم بأنوار الإيمان.
واليوم نشهد على مستوى ساحة الأمة الإسلامية اتجاهاتٍ فكريةً كثيرة، لكن هذه الاتجاهات مع احتفاظها بخصوصياتها لا ينبغي أن تجعل من ذلك الاختلاف الفكريّ سببًا للفُرقة والشتات، فالله سبحانه وتعالى قال:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]
وذلك من غير استثناء، فكلّ من انتمى إلى الإسلام عليه أن يسمع خطاب الله تبارك وتعالى هذا، وحبلُ الله هو القرآن الذي فيه الثوابت المشتركة.
ألا يجمعنا جميعًا أننا كلنا نوحِّد ربًّا واحدًا، ونتوجّه بالعبادة إلى الله الواحد؟!
فلا يختلف أيٌ منا مع أخيه أن ربّه الله..
ولا يختلف مسلم مع مسلم مهما كان يختلف في اتجاهه الفكري أن المصطفى صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو إمامنا وهو نبيّنا وهو رسولنا..
وكلنا يتفق على أن الكعبة المشرفة هي قبلتنا التي نتوجّه إليها في صلواتنا الخمس..
وكلنا نتفق على أن القرآن هو الكتاب الذي يُنظّم شؤوننا ويوجّه حياتنا..
وكلنا يتفق على الفرائض التي فرضها الله سبحانه وتعالى علينا، فكلنا يؤمن أن الله سبحانه قد فرض علينا صيام شهر رمضان، وفرض علينا زكاة المال بمقدار يتفق الجميع عليه، وكلنا يتفق أن صلاة الصبح ركعتان، وأن صلاة الظهر أربع ركعات، وأن صلاة العصر أربع ركعات، وأن صلاة المغرب ثلاث ركعات، وأن صلاة العشاء أربع ركعات... كل هذا من المتفق عليه.
وأزمة الشتات هذه لا تنحصر في إقليم واحد، ولا حتى في مساحة العالم الإسلاميّ، بل إن الذي يخرج خارج العالم الإسلاميّ لاسيما في دول الغرب، فإنه يرى أن المسلمين قد أخرجوا شتاتهم من عالمهم الإسلاميّ، فلا تجد في العالم الغربيّ - مع أن المسلمين هناك أقلِّيّة - إلا فُرقةً وشتاتًا.
ووالله لقد رأيت في الغرب من لا يصلّي إلا في مسجده الصوماليّ، أو في مسجده السعوديّ، أو في مسجده التركيّ، أو في مسجده الهنديّ...
فأيُّ إسلام هذا؟ وأيُّ وحدةٍ للمسلمين تلك إذا كان المسلمون - حتى وهم أقلّيّة في بلاد الغرب - يحملون شتاتهم وفُرقتهم؟!
فإذا رجعتَ إلى عالَمنا الإسلاميّ وأقاليمِه وجدتَ الفُرقة والشتات، ووجدت من يعتزّ بخصوصيته الجزئية، صوفيًّا كان أو سلفيًّا، أصوليًّا أو حركيًّا...
هذا شأنه..
لكن المظلة الكبيرة التي تُظلل الجميع، والتي ينبغي على الجميع أن يعتزوا بها، هي أنهم جميعًا تحت راية:
"لا إله إلا الله محمد رسول الله".
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]
فانتماؤه إلى الإسلام هو الانتماء الذي يعتزّ به.
ولا يمكن لنا أن نتحرر من شتاتنا وفُرقتنا حتى نقف جميعًا مع الثوابت، أما المتغيرات الاجتهادية فليحتفظ كلٌّ منّا بها في الغرف الضيقة العِلمية.
فساحات الدعوة ينبغي أن يُذكَر فيها ما اتُّفق عليه في الأمة الإسلامية، أما الجزئيات الهامشية فينبغي أن تبقى في الغرف البحثية العِلمية المغلقة، لأننا بحاجة إلى ما يوحِّد الصف وإلى ما يجمع القلوب والعقول، وبحاجة أن ننظر إلى مجتمعنا على أنه مجتمع إسلاميّ واحد.
هذا على المستوى العِلميّ.
لكنني أضيف وأقول: لا يكفي أن نتحدّث في الثوابت نفسها، فنحن نعاني اليوم من أزمة تربويّة، ذلك أننا أصبحنا نتمسّك بالحديث عن الأعمال ونُهمل أحوال القلوب، وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَظهر فيهم ما ظهر من التضحية وبذل الجُهد والوحدة والاجتماع على "لا إله إلا الله محمد رسول الله" إلا لأن قلوبهم تعمّرت بالإيمان.
فينبغي أن نعترف أن أمراضنا الباطنة تسري اليوم، والعدوى فيها كبيرة، فكم منا من يحسد أخاه! وكم منا من يبغض أخاه! وكم منا من يحمل في قلبه الغِلّ لأخيه! وكم منا من يتحرك بالغيبة والنميمة على أخيه..!!
وما هذا إلا لضعف الإيمان..
وما هذا إلا لأننا قد غفلنا عن رابطة الإيمان..
أولوياتنا أصبحت بعيدة عن أولويات سلفنا الصالح.
وما هو حال شبابنا اليوم؟
هل يتشوّفون إلى رؤية اليومِ الذي يُفكُّ فيه الحصار عن غزة، أم إلى معرفة الفائز في كأس العالَم؟
وما هي أولويات تُجّارنا اليوم؟
هل أولوياتهم أن توجد سوق قوية مُكتفية ليس فيها تبعية للأجنبيّ، أم أن الأولوية هي المصلحة الشخصية؟
طالب العِلم.. الخطباء والأئمة.. ما هي أولوياتنا؟
هل نترفّع في حالنا اليوم عن أن يكون بعضنا خصمًا للآخر؟ وهل نسعى جميعًا لنكون يدًا واحدة تُبايع سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]
أيها الإخوة، نحن بحاجة حتى نخرج من فُرقتنا وشتاتنا إلى خطوتين:
1- ألا نكثر من الحديث في الجزئيات:
بل نتحدّث في الثوابت الكبرى التي تجمع الأمة، فالحديث في الثوابت يجمعنا، والحديث في الجزئيات يُفرِّقنا، وتبقى قصة الجزئيات لغُرف البحث العِلميّ المغلَقة التي يبحث فيها أهل الاختصاص.
2- أن نأخذ بأسباب ارتقاء الإيمان:
وأسباب ارتقاء الإيمان كثيرة، منها:
- تلاوة القرآن:
فاسأل نفسك: هل تقرأ كل يوم من كتاب الله جزءًا أو حِزبًا؟
- ذِكرُ الله:
فاسأل نفسك: هل بينك وبين ربك كلّ يوم جِلسة تجلس فيها تبكي دامع العينين، تسجد بين يديه؟
ألم تسمع حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، الذي أخبر فيه عن السبعة الذين يُظلَّلون تحت عرش الرحمن، ومنهم: (وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)؟
أين نحن من أسباب رفع الإيمان، وأسباب رفع مستوى الأحوال..؟!
أيها الإخوة، إذا لم نُحدث مراجعةً ذاتية فسنبقى في القِشرية والسطحية التي تزيدنا فُرقة وشتاتًا وتباعدًا، وسيبقى عدوّنا يحتقرنا ويدوس على كرامتنا... ونحن مشغولون بشَخْصَانياتنا وجزئياتنا، وما هذا بحال أهل الإيمان، فأهلُ الإيمان يستنجدون بالله.
وعندما أراد المشركون يوم أُحُد أن يقولوا قولة - بعد انكسار شوكة المسلمين عندما خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالوا للمسلمين: "لنا العُزّى ولا عُزّى لكم".
فأمرهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجيبوهم فقالوا: "الله مولانا ولا مولى لكم"، أي: الله ناصرنا ومُنجِدنا ولا مولى لكم.
وعندما قالوا: "اُعلُ هُبَل".
أجابهم المسلمون بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلى وأجلّ".
فأعيدوها على قلوبكم أيها الإخوة الأحبة: "الله مولانا ولا مولى لعدوّنا".
فإذا كان القلب ينطق بها لا اللسان سوف تتحول أحوالنا، وسنكون الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وذلك عندما يكون هذا من نُطق القلب لا من حركة اللسان.
إذًا: بهاتين الخطوتين: الاجتماعِ على الثوابت، والأخذِ بأسباب ارتقاء الإيمان، تتغيّر أحوالنا.
لكن إذا بقينا مهملين هذين الأمرين فلا مستقبل لنا، حتى تظهر أجيال من بعدنا تأخذ بهما وتُعيد للإيمان والإسلام مجده.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|