حين نتحرّر من عقد الخوف
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الكبير بحلب بتاريخ 8/10/2010م
حينما يتعلّق الإنسان بالأعلى يهون عليه أمر الأدنى، وحينما يغفل عن عظمة الأعلى سبحانه وتعالى فإنه يرجو الأدنى ويخاف منه..
هذه هي المعادلة التي إذا فهمناها نستطيع أن ندخل أبواب الإيمان دون أن نأبه بسلطنة المادية التي تحذف هذه المعادلة، فقد قال الله سبحانه وتعالى لحبيبه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ} [الأعلى: 1-2]
وقال في موضع آخر: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17]
وقال أيضًا: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]
وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]
فالأعلى هو الذي ينفرد بالخَلق، ولا يوجِد بعد العَدَم موجودًا إلا الله.
فإذا أدرك المؤمن هذه الحقيقة علّق قلبه بالأعلى، ومهما تكاثر عدد صنف الأدنى فإنه منصور حينما يكون متعلّقًا بالأعلى، ولذلك حكى القرآن الكريم قصة نصر جنود طالوت الذين قالوا:
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]
وهكذا كان الأمر حينما واجه أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كثرة المشركين يوم بدر وكان شعارهم:
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}.
وكذلك: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]
أقول هذا ونحن نعيش ذكرى مبادرةٍ تستحقّ أن يُنظر إليها بتقدير واحترام وإكبار، وذلك عندما بادر جيشنا إلى تلك المعركة الرمضانية التشرينية.
نعم، فقد كانت ثقافة المبادرة في جيوشنا (عربيةً كانت أو إسلاميةً) غائبةً عن ساحاتنا، فكنا في أحسن الأحوال ننتظر هجومًا من عدوٍّ لندافع عن أنفسنا عند هذا الهجوم، أما أن نبادر من أجل ردّ اعتبار فئة الحقّ، أو أن نبادر من أجل استرداد الأرض والذَّود عن العرض، فقد كان هذا غائبًا، لاسيما بعد النكبة عام 1948، والنكسة بعد 1967، فكانت هذه المناسبة مناسبةَ استرداد لزمام المبادرة.
واليوم يَجبُن أهل المادة شرقًا وغربًا، ولكن أهل الحقّ لا يَجبُنون، لأنهم عندما أيقنوا أن النصر إنما هو من عند الله، وعندما تعلقوا بالله، أدركوا أنهم قادرون على تلك المبادرة.
وهذه القضية حساسة، فمتى يستطيع الإنسان أن يكون صاحب مبادرة لدفع الظلم، أو لاسترداد أرضه، أو للذود عن العرض..؟
فمتى يكون قادرًا على هذه المبادرة، ومتى يتحول إلى جبان رعديد؟
هذا السؤال يجيب عنه القرآن الكريم، بل إنه سبحانه وتعالى يحدد هوية المنافقين بأنهم الذين يخافون، ويذكر القرآن هذا بلفظ: "يَفْرَقُونَ" أي: يخافون.
وهكذا يحكي رّبنا سبحانه وتعالى وهو يخاطب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم قائلاً:
- {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ}
أي: مهما كثرت أموالهم وأولادهم، ومهما كثرت زينتهم المادية.
- {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}
فبيّن ربّنا سبحانه وتعالى أن الذي يُميّز هوية المؤمن عن غيره هذا الجانب، فإذا كان منكم فإن خشية الله تبارك وتعالى تملأ قلبه، وإذا لم يكن منكم فإنه ممن يخافون وبجبُنون.
- {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًَأ أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 55-57]
وهكذا دفعهم الجُبْن والخوف والفَرَق إلى الهروب، ومثلُ هؤلاء لا يقدرون على المبادرة، بل إنهم حينما تلتحم الصفوف يهربون، وحينما يحتدم القتال يبحثون عن ملجأ يختبئون فيه.
وقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]
فعندما عظمت في أعينهم الحياة الدنيا وغفلوا عن الحياة الآخرة هربوا من الآخرة إلى الدنيا، ولكن المؤمن المعظِّم للأعلى سبحانه وتعالى، الذي أيقن أن الذي ينفع ويضرّ ويخفض ويرفع وحده إنما هو الله، يحنّ إلى لقاء الله، ويفهم أن الآخرة يُهرب إليها والدنيا يُهرب منها.
إذًا: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
إنهم مع زينتهم والأموال الكثيرة التي يملكونها لا يحصلون على السعادة، لأن السعادة لا تكون إلا في الإيمان، ولا تكون إلا بالله، ولا تكون السعادة عند أهل المادة مهما كثرت أموالهم، ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]
إنه يعيش الاضطراب والقلق وحالة الضنك.
ولما وصف الله سبحانه وتعالى هذا الصنف في موضع آخر قال:
- {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ}
وهذه هي المشكلة.
وذلك عندما يتساوى في قلبك الأعلى مع الأدنى..
وعندما يتساوى في قلبك السيد مع المسيود..
وعندما يتساوى في قلبك المالك مع المملوك..
وعندما يتساوى في قلبك الخالق مع المخلوق، فتتوجه إلى الخالق كما تتوجه إلى المخلوق..
فتراه يُعظِّم الأشياء، فإذا دخل إلى المسجد رفع يديه وقال: يا الله، فإذا خرج من المسجد رأيته يتوجه بقلبه إلى غير الله، فقد تساوى عنده التوجّه إلى الله والتوجّه إلى غيره، ثم قال:
- {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}
فقد يكون تعظيمهم للمربوب أشد من تعظيمهم للرب، وقد يكون تعظيمهم للمخلوق أشد من تعظيمهم للخالق.
- {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77]
وعندما تحدث عن رسله الذين اصطفاهم واختارهم قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]
وعندما اختار الله سبحانه أصفياءه وأحباءه تحدث عنهم فقال:
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]
وهذا هو الوصف الذي من خلاله نستطيع أن نعيد المبادرة مرات ومرات، حتى تتحرّر فلسطين كلها.
إذًا: نستطيع أن نعيدها ثانية وثالثة ورابعة.. عندما نحافظ على هذا الوصف:
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}
وهكذا يرتقي الإنسان إلى هذه الرتبة التي لا يرى فيها قلبُه إلا الله، والتي لا يكون فيها التعلُق لروحه إلا بالله، وحتى نفسه تقارن بين الدنيا والآخرة، فترى أن الذي في الدنيا زائل ومنعدم، والذي في الآخرة خير وأبقى وأعز وأكرم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]
فنفسه تقارن من حيث المنفعة بين الدنيا والآخرة، وقلبه مملوءٌ بالمحبة، مُعظِّم لله سبحانه وتعالى، لا يرى قيمةً للمخلوق وهو متوجه إلى حضرة الخالق، والروح مستغرقة ومنجذبة في حضرة الله.
هذا هو النص الذي من خلاله نستطيع أن نكون أصحاب المبادرة.
وبعد أن تحدث سبحانه وتعالى عن رسله تحدث عن أهل الإيمان الذين رفعوا شعار الإيمان واعتزوا بالإسلام، ووضعهم أمام الامتحان، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54]
وهذه هي الأوصاف التي إن وجدت في أمتنا تكرّرت الحرب الرمضانية والتشرينية مرات ومرات، ورُفع لواء النصر، ورجعت الأرض إلى أصحابها.
إننا اليوم بحاجة إلى أن نعرض أنفسنا وقلوبنا وأرواحنا على هذه الأوصاف والمعايير:
- {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
عندما توجد خصوصية المحبة لله.
- {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
ينتشر التواضع بينهم، فلا يستكبر المؤمن على أخيه.
- {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}
فإذا وقفوا في ساحة الحرب كانوا الأسود والضياغن.
- {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
يريدون رد الأرض وإعادة المقدسات، فنحن لا نعتدي على أحد، لكننا أمة لا تقبل العدوان، ولا تقبل الذلّ إلا لله.
- {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}
وذلك مهما كان هذا اللائم قويًّا، ومهما كان مالكًا لأسباب القوة.
إننا نتحدث كل يوم مع من يواكب الواقع الاجتماعيّ، والذي نلاحظه إنما هو الانحدار الخلقيّ، أهذا يعقل؟
أيعقل أن تكثر الجريمة في أمةٍ تزعم أنها أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
تكثر الحوادث الأخلاقية، ويكثر الانحلال الخلقيّ، ويصل الأمر إلى مستوياتٍ يندى لها الجبين، من العلاقات الجنسية الشاذة وغير الشرعية، ومن الغش والسرقة والاحتيال...
ولو أن حقائق الإيمان وجدت فينا يا أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن توجد مثل هذه الحوادث إلا نادرًا.
ولا يمكن للمجتمع أن يخلو من بعض الاستثناءات التي يظهر فيها الانحراف، لكنني أخشى أيها الأخوة المؤمنون، يا من يُصلّي ويصوم، ويا من يُكثر الصلاة على رسول الله، ويا من يتمنّى فريضة الحج، ويا من يتحدث عن الزكاة، ويا من يتحدث في الثقافة الإسلامية... أخشى أن يتحول الانحدار والانحلال إلى ظاهرةٍ في مجتمع شعارُه الإسلام والإيمان.
لابد لنا من عودة جادّة نأخذ فيها بأسباب الإيمان، ونقوّي فيها جذوة التعلق بالله، ونشعل فيها جذوة المحبة في القلوب، ونحثّ فيها الشباب على السجود لله لا لغيره..
عندها، وبوجود حقائق الإيمان، ستعود المبادرات من جديد، وعندها سترتفع وجوهنا إلى السماء متعلقين بالله، ناظرين إلى نصره، منتظرين الساعة التي تتغير فيها أحوالنا وتتبدل فيها نفوسنا.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله. |