{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23]
هكذا وصف الله سبحانه وتعالى نخبةَ أهل الإيمان الذين تمكّن الإيمان في قلوبهم.
- {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} والصدق في الوفاء أن يكون موافِقًا لربّه، مقرًّا له بالوحدانية والسلطان، منطرحًا في عتباته تعالى عبدًا ذليلاً.
- {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} غادر هذه الحياة بعدما جاهد في الله حق جهاده، واستهلك جهده واستفرغ طاقته في طاعة الله تبارك وتعالى ومرضاته.
- {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} ينتظر ساعة اللقاء، وينتظر التحية التي يحيّيه بها ربُّه بالسلام، وينتظر اللحظة التي ينتهي فيها اختباره في هذه الحياة.
- لكن الصنفين (الذي فارق الحياة صادقًا ثابتًا وفيًّا، والذي ينتظر مجتهدًا في موافقة ربّه وتحقيق مرضاته)، مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً، فقد تنوعت عليهم الأحوال واختلفت الظروف، لكنهم ما بدّلوا وفاءهم، وما بدّلوا صدقهم، وما غيروا إخلاصهم، فلم تصرفهم المرغّبات، ولم ترعبهم المرهّبات، إنما ثبتوا على صراط الله تعالى المستقيم.
{وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} إنما كانوا على عهد الله تبارك وتعالى يلاحظون الظرف الذي أوقفهم فيه مولاهم، فيوافقون ذلك الظرف من خلال مقتضياته الشرعية: فإذا أفقرهم صبروا، وإذا أغناهم شكروا، وإذا أعطاهم وظَّفوا ذلك العطاء في مرضاة الله تبارك وتعالى، وفيما يُنهض الأمة ويعمّر الأرض...
واختبار الله تبارك وتعالى للإنسان في هذه الدنيا أنه لم يكن في طبقة واحدة على المستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ، فهو في منـزل من منازل تلك الدرجات التي أقام الله سبحانه وتعالى فيها عباده، واقرؤوا في سورة الأنعام قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165].
إنها المنازل التي أقام الله سبحانه وتعالى فيها عباده، فقد أعطى سبحانه وتعالى الدنيا للمؤمن والكافر، لكنه سبحانه لم يجعل ذلك التفاوت الاجتماعيّ والاقتصاديّ علامةَ تكريم منه سبحانه لعباده، لكن العباد مختبَرون في الحالات كلها، سواء كانوا في درجات رفيعة أو وضيعة (اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا).
إنه الاختبار... فإذا كنت رفيع الدرجة هل ستبقى عبدًا لله؟
وإذا كنت وضيعًا (اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا) هل ستلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أراد منك أن تستشعر عبوديتك له تعالى وحده ولا تلتفت - مع هذا الذي أقامك الله سبحانه وتعالى فيه - إلى الناس؟
ولماذا سلّط الله سبحانه وتعالى البلاء على نبيه أيوب؟
ولماذا أعطى سبحانه وتعالى سليمان مُلكًا ما أعطاه غيره؟
ومع ذلك فقد وصف سبحانه وتعالى أيوب عليه الصلاة والسلام بوصفٍ مماثلٍ لوصف سليمان عندما قال فيهما معًا: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
أي لا يرجع في كل الحالات إلا إلى الله.
ففي حقّ أيوب الصابر يقول ربّنا تبارك وتعالى: "نِعْمَ الْعَبْدُ"، فكان عبدًا لله، صابرًا على البلاء، لا عبدًا للأغيار.
وقال في حق سليمان النبي الملك: "نِعْمَ الْعَبْدُ"، فما أخرجه ملكُه عن انطراحه في عتبات الله تبارك وتعالى عبدًا، وما رجع لحظة واحدة إلى نفسه، لكنه في كل الحالات كان يرجع إلى الله.
فقال فيهما: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
وقال سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}
أي لا تفاوت بينكم، فأنتم متماثلون في الوصف، ومتماثلون في الاستعداد.
{وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]
فالخيرات موجودة حيث تكون.
فإذا كنت فقيرًا فستجد من الخيرات ما به تتقرب إلى الله..
وإذا كنت غنيًّا فستجد من الخيرات ما به تتقرب إلى الله..
وإذا كنت صناعيًّا فستجد في صناعتك من الخيرات ما به تتقرب إلى الله..
وإذا كنت تاجرًا فستجد من الخيرات ما به تتقرب إلى الله..
وإذا كنت عالمًا أو معلمًا أو متعلمًا فستجد من الخيرات ما به تتقرب إلى الله..
فاستبقوا الخيرات، لكن تذكّروا مع استباقكم للخيرات ذلك النموذج: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.
تسابَقوا حيث أنتم باستعداداتكم المتنوعة التي أقامكم فيها ربكم.
واقرؤوا سورة يوسف وتأمّلوا ذلك الشاب الجميل الذي وهبه الله سبحانه وتعالى كل النضارة والجمال، وها هو أمام الاختبار يلتقي قي قصر حاكم مصر بامرأة ذات منصب وجمال.
وينقل القرآن الكريم لنا هذا النموذج لنفهم على المستوى العمليّ ذلك الصنف الذي ما بدّل تبديلاً، لكنه كان موافقًا لربّه، فوقف مع برهان ربّه، ولم يتحول قلبه عن رغبته في إرضاء ربه، مع أن النفس تهتز في مثل هذه الأحوال.
ولماذا تنتشر المخدرات في هذه الأيام؟
أقول: بسبب الفراغ الروحيّ.
وعندما نتحدّث عن أزمة المخدرات فإنه حديثٌ عن أزمة روحية.
إنه يريد أن يغلق منافذ حسّه، وأن يرحل إلى وهم كاذب..
لكن يوسف عليه الصلاة والسلام وقف في محنته تلك فالتذَّ بمواصلة روحه لربّه.
هذه هي اللذة الحقيقة التي نجدها في أحوال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين ثبتوا في كل الظروف والمتغيرات.
وإنه لمن المؤلم أن يلجأ شابٌّ في ريعان شبابه إلى المخدرات هاربًا..
- وانظر إلى ذلك الشاب يوسف عليه الصلاة والسلام وهو في قصر الحاكم مُنَعّم مُكرّم، تَعرِض عليه سيدة القصر أن يكون ضجيعها، فيأبى إرضاءً لربّه ومراقَبةً له.
- وتأتي الفتنة الثانية، فتنةُ نسوة المدينة، وفتنة القيل والقال: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30]
وما أدراك كم تؤثر فتنة القيل والقال في صناديد الرجال!
وبدأ الحديث ينتشر وتتداوله النسوة، لكن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يلتفت قلبُه في الفتنة الثانية، وكان موافقًا لربّه، وتوجّه إلى الله قائلاً: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33].
- ثم جاءت المحنة الثالثة، فانتقل من قصر الحاكم، من الفتنة الأولى والثانية، إلى فتنة ثالثة:
سجنٌ طويل، وظلمةٌ لا أنيس فيها ولا صديق ولا مُكرِم، لكنه جعلها خلوةً يتوجه فيها إلى ربّه، وجعلها فرصة دعوةٍ يدعو فيها رفيقيه في السجن.
إنه مشغول في كل حالاته بالله، فإذا وجد أحدًا من الخلق دعاه إلى الله، وإذا انفرد في خلوته في سجنه ذاك توجّه بقلبه ولسانه إلى الله، بلسانه مناجيًا، وبقلبه مُواصلاً ومتذلّلاً.
- وتأتي بعد ذلك الفتنة الرابعة، فيعود من سجنه إلى نفس القصر الذي خرج منه خادمًا ليعود إليه حاكمًا، فقد خرج منه خادمًا موافقًا لربّه وعبدًا له، وعاد إليه حاكمًا، لكنه لم يبدّل ولم يغيّر.
عاد إليه حاكمًا فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]
هكذا تتبدّل الظروف على الإنسان المؤمن، لكنه ما يبدّل تبديلاً.
فلا يضير الإنسان (إذا كان على أرضٍ ثابتة متوجهًا إلى الله تبارك وتعالى) أن تتغير الظروف، لكنه يراقب قلبه وسلوكه، أمّا أننا نضجر من تغير الظروف أن ننحرف عن الصراط بسبب الشدائد، أو بسبب المرغبات أو المرهبات... فليس هذا وصف من ثبتوا ولم يبدّلوا تبديلاً.
يا من يتضجّرون من أزمة سكن، ومن أزمة بطالة.. ويا من يتضجرون من الأزمات... يروى في الآثار أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام كان مرّة يسير بين الجبال ويبحث عن مأوى له، وكان الجو شديد البرد والسماء ماطرة، فدخل إلى كهف، فقال له في الكهف ابن آوى: لماذا تدخل إلى منـزلي؟
أريد أن أكون آمنًا في منـزلي.
فخرج من الكهف وقال: إن الله هيّأ بيتًا لابن آوى، أفلا يهيئ بيتًا لابن مريم؟
هكذا يكون أهل الصدق..
هكذا يتوجه في كل الظروف أهلُ الإيمان إلى الله..
هكذا تكون الموافقة لله مهما تبدلت الأحوال، ومهما تغيرت المؤثرات..
إمامُكم محمد صلى الله عليه وسلم..
داعمُكم بين أيديكم قرآنُ ربّكم..
ها نحن في شهر رجب، شهر الله، الذي يتوجه فيه المخلصون إلى الله.
إن لله لَخواص، في الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
فلنراجع أنفسنا مراجعة صادقة.
في لمحة تحصل الصُّلْحَة.
ولربما ينظر الله تبارك وتعالى إليك في لحظةٍ نظرةً لا تشقى بعدها أبدًا: (إن لله في دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها)،
فلا تفوّتوا فرصة نفحات الله.
وجّهوا قلوبكم إلى الله، فنحن بحاجة والله - في هذا الحال الذي أصبحت فيه الأمة الإسلامية آخر الأمم، والذي أصبحنا فيه في حالٍ مزرية - إلى صحوة جديدة وإلى عودة جديدة.
من الإيمان كان مبتدانا، وإلى الإيمان يكون مرجعُنا، ومن الإيمان مرّة ثانية تعود نهضتنا من جديد.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|