طموحات أمتنا التي ترنو إلى نهضة وحضارة وسيادة وعزّ... ستبقى أسيرة الأذهان بعيدةً عن التطبيق على أرض الواقع ما لم يتحقق في أفرادها (أو على الأقل في نُخَبها الذين عرفوا وتنوّروا فكانوا نقطة تأثير وإشعاع فيها) أمران اثنان:
1- الهمّة التي ترقّي الإنسان في مراداته ومقاصده.
2- العلم الذي يُبَصِّره ويهديه.
وهكذا يتحول الكمُّ الكبير إلى غُثاء إن لم يوجد فيه هذان الأمران، ويتحوّل العدد القليل إلى نوعٍ متميز مؤثّر حينما يوجد فيه هذان الأمران.
ولماذا قال الله سبحانه وتعالى في حقّ فرد واحد: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]؟
ولماذا اعتبر الله سبحانه فردًا واحدًا من عباده مساويًا لأمة؟
ولماذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصفون بعضًا منهم بأنهم كانوا أمة؟
فقد روى الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه الكبير أن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه كان يقول: (إن معاذًا كان أمة).
إذًا: ربّنا سبحانه وتعالى كان يُزكّي فردًا، ويراه مساويًا للكمّ الكبير والعدد الذي يُوصف بأنه أمة، حين يقول: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً".
وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلماؤهم.
وحينما نتحدث عن رجلٍ كعبد الله بن مسعود، فإننا نتحدّث عن حَبرٍ من أحبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونتحدث عن عالم كبير استمدّ الفقه الحنفيّ بمدرسته العلمية والأصولية، وهو يقول في معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: (إن معاذًا كان أمة).
وهكذا يصبح النوع متفوقًا على الكمّ، لا سيما وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تحدّث عن الأمة في آخر الزمان حين قال: (إنكم يومئذ كثير)،
حينما أخبر أن الآخرين يتداعَون إلى هذه الأمة من أجل الإضرار بها وإيذائها كما تتداعى الأكَلة إلى قصعتها، وتساءَلَ أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أمِن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا.. أنتم يومئذ كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل)،
أي: وُجِد الكمّ، لكن من غير الأوصاف المعتبرة.
وهكذا حينما نتأمّل في وصف النوع المتميّز الذي يتحقّق به الطموح، وبه تنطلق أفكار النهضة والحضارة إلى تطبيقٍ على أرض الواقع... فإننا نرى هذين العنصرين: الهمّة والعلم.
واقرؤوا قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45]
وما معنى أن يكونوا أولي الأيدي والأبصار؟
أولوا الأيدي، أي هم أصحاب القوة، وهل المعتبر في هذا قوة الأبدان؟
وهل يصف الله سبحانه وتعالى بهذا عبادَه الذين تميّزوا بأنهم كانوا أقوياء في البدن، أم أن المعتبر لكلّ مَن يتأمل ويفهم كتاب الله إنما هو قوةُ الهمّة، والإرادةُ التي تتعلق بالله تبارك وتعالى؟
إنها الهمّة التي لا تنحطّ إلى المرادات الدنيّة والشهوات العاجلة، لكنها تتعلق بمعالي الأمور.
كانوا {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} فكانوا أصحاب همّة مُرَقّية، وأصحابَ علمٍ مُبَصِّرٍ وهادٍ.
نعم، إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه كان أمة، كان صاحب الهمّة العلية التي توجهت إلى الله تبارك وتعالى:
* لقد وجّه وجهه لله حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين، وكانت صلاته ونُسكه ومحياه ومماته... لله ربّ العالمين لا شريك له.
* وعندما طلب الله سبحانه منه أن يتبرأ من أبيه تَبَرَّأَ مِنْهُ: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]
فما وقفت همّته عند أبيه.
* وكذلك اختبره الله سبحانه وتعالى وأمره بذبح ولده وفِلذة كبده، مع أنه كان بارًّا، ومع أنه كان متميزًا في كل أوصافه، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُفاخر به الخلق، وأراد أن يقول للناس: انظروا إلى عبادي، كيف أطلب من خليلي أن يذبح ولده فيبادر ويحمل السكين، لأنه يقول لمن اتخذه خليلاً: يا رب أنت أحب إليّ من كل شيء.
فاختبره حين أمره بذبح ولده، فأمسك بالسكين وذهب ليذبحه.
* واختبره بإبعاد محبوبته عنه، عندما أمره أن يضع هاجر ووليدها في وادٍ لا ينبت الزرع فيه:
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]
فتركها هناك امتثالاً لأمر الله.
* ووقف وحده يعادي عَبَدَةَ الأصنام وعبدة النجوم، ووقف وحده يواجه الملك الذي تجبر وتكبر... فكانت همته متعلقة بالله.
ومِن أجل هذا كان فردًا واحدًا، لكنه كان يساوي أمة، فكان بهمته يساوي همة أمة، فلو جمعت همّةُ أمة فيها من المقاصد ما فيها، وفيها من التعلقات ما فيها... ستجد أنه يتفوّق عليها.
فكان صاحب همّة.
وكان صاحب علم مبصّر:
* ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَْ} [الأنعام: 83]؟
* ألم يواجه بالعلم الذي وهبه الله إياه وتمكّن منه فلسفةَ الوثنية التي تسجد للصنم، وفلسفةَ عبّاد الكواكب والأجرام السماوية، ودعاوي نمرود الذي قال: أنا أحيي وأميت، فأجابه: ربي الذي يحيي ويميت، وعندما قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}
مماثلاً ومحاكيًا، قال له: {فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]؟
ألم يواجه ذلك كله بالعلم؟
إذًا: هذان الأمران بهما يتميز النوع، وبهما يتحول الفرد إلى أمة.
قال ربّنا تبارك وتعالى:
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]
- {لَمَّا صَبَرُوا}: فلولا الهمّة التي ما ضعفت عند المرغّبات والمرهّبات ما كانوا أئمة، ولولا أنهم كانوا أصحاب همّة ما صبروا عند المرغّبات والمرهّبات.
- {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}: لأنهم كانوا يمتلكون العلم.
فبهذين الأمرين يظهر النوع المتميّز الواعد الذي نهضة أمتنا مستندةٌ إلى وجوده، وبهذين الوصفين يظهر النوع الذي يحمل بيده لواء العزّة والنصر.
ومهما مَلَكْنا من العلم سنبقى ضعفاء من غير همّة..
ومهما ارتقت هممُنا سنبقى متخبّطين من غير علم..
والهمّة وقودُها: التوجّه إلى الله، ويدعِّم وجودَها وجودُ حقيقة التوحيد.
وهكذا قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (جدّدوا إيمانكم).
فقالوا: كيف نجدّد إيماننا يا رسول الله؟
قال: (أكثروا من قول: لا إله إلا الله).
وهذا الإكثار لا يعني أن نردّد ذلك بلساننا وحسب، إنما يعني أن يتحول معنى "لا إله إلا الله" إلى قلوبنا، فإذا نظرَتِ القلوب لا ترى أعزّ من الله، ولا ترى أعظم من الله، ولا ترى أكبر من الله، ولا ترى مُعزًّا إلا الله، ولا ترى نافعًا إلا الله...
فإذا استقرت هذه الحقيقة في قلوبنا دخلنا أسواقنا ونحن نثق بالله، ودخلنا أصعدة الحياة المختلفة واستطعنا أن نواجه عوائقها وعقباتها ونحن نتسلح في قلوبنا بحقيقة التوحيد التي إمدادها "لا إله إلا الله".
هذه مدعّمات الهمة التي تتوجّه إلى الله تعالى وحده.
وأما مدعّمات العلم فإنها:
- البحث عن العلماء الربّانيّين.
- مطالعة الكتاب المعتمد، بأن تتلقّى معلوماتك من المصدر الموثوق.
واليوم مع الأسف أصبح الكثير من أبناء أمتنا يتلقى معلوماته من مصادرَ لا تُعرف درجة موثوقيتها، فبمجرد أنه استمع من قناة فضائية إلى رجلٍ لا يُعرف عمّن تلقى هذا العلم يصبح متبنّيًا للمعلومة.
وما هذا بعلم..
العلمُ: كتابٌ معتمَد، وربّانيٌّ يستند في علمه إلى كتاب الله وهديِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، دون أن يغشّ الناس بأهوائه وأمزجته ومآربه التي تتشعب به وبالناس الذين يتبعونه.
إذًا: حينما نقرّر أننا سنغير أنفسنا سنغير مجتمعنا، وسنغير وصف أمتنا... فلابد أن يبدأ كلُّ واحد منا بنفسه، وليختبرْ نفسه في هذين الأمرين: الهمة والعلم.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|