وعن أَبِي هريرة رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: (لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاء) رواه مسلم.
الْجَلْحَاء: أي التي لا قرن لها.
إما أن تؤدى الحقوق في الدنيا وإما أن تؤدى في الآخرة، وحينما نتحدث عن الحقوق يُفتح باب عريض، فليست كل الحقوق حقوقًا مالية، وليست كل الحقوق حقوقًا عِرضية، كما أن في مال الغني حقًا للفقير كذلك في قوة القوي حقٌ للضعيف، كذلك في علم العالم حقٌ للجاهل، كذلك في حال المخلص حقٌ للمادي، فينبغي أن لا يتوهم ذو الديانة أنه سالم إن قام بعبادته، تعلمت مسألة في الفقه أصبحت هذه المسألة في عنقك وهي حقٌ لمن لا يعرفها، لا سيما حين يكون الأمر من الفروض العينية، والفروض العينية التي منها معرفة ما أخبر الحق تبارك وتعالى به عن ذاته وصفاته والرسل عليهم الصلاة والسلام، وما جاء في الخبر من السمعيات، معرفة الحلال والحرام، معرفة أحكام العبادات، فهناك حق في القول، وهناك حق في العمل، وهناك حق في العلم، وهناك حق في الحال.
فمن حقوق الأقوال: الصدق، ومن حقوق الأقوال: التزام الحد فيها وعدم الطغيان، فمن نهش عرض أخيه فقد طغى، والأدب مع الله تعالى ومع عباده في الأقوال من حقوق الأقوال، وهناك حق في العمل لأن الله سبحانه وتعالى حين خلق الخلق أظهر حكمته في خلقه ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا، ليكون بعضهم مسخرًا لبعض هذا حق في العمل، إذا كنت طبيبًا، كنت مهندسًا، كنت نجارًا، كنت حدادًا، أيًا كنت فللعباد حق في دربتك وخبرتك، لا تقل: يعني أخدم بدون أجر، لا هذا ليس مطلوبًا منك, ولكن المهم أن تكون في خدمتك ناصحًا لهم، الدين النصيحة، أي: إذا رأيت جاهل فعرِّفه, قل له: هذا ينفع وهذا لا ينفع، إذا كنت نجارًا فاختر له الخشب الأجود وانصحه به, وإياك أن تنصحه بما هو الأنفع لجيبك بقطع النظر عن الأنفع ديانة، هذا حق، حق للمسلمين تأكله أنت غشًا، عليك أن تبين له ما هو الأنفع له, وإلا فإن هذه الأبواب التي تصنعها ستحاسبك يوم القيامة هي وصاحبها، هذه حقوق عملية.
باب الحقوق مخيف، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا العناوين الكبرى التي تتفرع عنها الحقوق وهي وظائفه صلى الله عليه وسلم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] إذا كان قد ورد أنه (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وأنت تعلمت تجويد فاتحة الكتاب, وأحسنت قراءتها حقوق كل من لا يعرف قراءة فاتحة الكتاب في عنقك، لأنك تعلمت وما تسعى من أجل أن تعلم مقدار وسعك، لا تتكبر وتقول كيف أعلم الناس الفاتحة؟ إذا لم تعلمهم فسيأخذون الحق منك يوم القيامة.
كان الناس أيام زمان يعملون حلقات يسمونها حلقات تعليمية يقرؤون فيها سورة الفاتحة, وسورة الإخلاص, وسورة الكوثر, وسورة النصر, وسورة المسد, وسورة الكافرون و...بقية قصار السور، فهذا العمل مع بساطته عظيم، فكيف إذا وجد طلبة علم يحرصون على قراءة القرآن، هذه حقوق {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ} إذا تعلمت شيئًا يجب أن تعلمه لغيرك، كلما سلمت على واحد قل له: أسمعني الفاتحة لأن صلاتك بدون فاتحة لا تصح، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} لأن القرآن الكريم وجَّه إلى الاستقامة، وجَّه إلى إحسان المعاملة وإتقانها، فتندرج كل الحقوق العلمية والعملية تحت {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} كل الحقوق العلمية والعملية مندرجة تحت قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
وأما قوله: {وَيُزَكِّيهِمْ} فإنها أصل للحقوق التي في الحال، وهناك حقوق في الأقوال، وهناك حقوق في الأعمال، والعمل لا يصح إلا حينما يخرج عن علم، كل عمل لا يحصل عن علم لا قيمة له حتى ولو كان العمل مخلصًا، العمل حتى يقبل يحتاج فيه إلى صورة شرعية علمية، أي أخذ توقيع العلم وموافقته وأن يكون خالصًا لله، إذًا هذه كلها حقوق، فليس الحق المالي فقط هو الحق الذي يقاد الناس بسببه إلى العتاب والحساب والعقاب، لذلك المولى سبحانه وتعالى قال:{فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24، 25] ولكن هذا الغني ما مد يده على جيب المحروم ولا السائل هذه الأموال التي في جيبه جمعها من عمل يده، ومع ذلك نقول له: في جيبك مال مسروق، يقول: من أين جاء المال المسروق؟ فنقول له: ينبغي أن تتنبه إلى حق الفقير في جيبك،إذا لم تخرجه فهو مال مسروق, فهل يكون حق الفقير في جيبك ولا يكون حق الجاهل في علمك؟ ولا يكون حق الضعيف في عملك؟ ولا يكون حق الغافل في حالك؟ هذا الذي ينبغي أن تنتبه إليه لأن الحقوق بابها واسع، وهذا حديث مخيف (لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا) فيه قسم (يَوْمَ الْقيامَةِ حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاء) فالقرون ليس من الضروري أن تكون قرونًا للشاة فقط، ممكن أن يكون واحد عنده قرون بعلمه، واحد عنده قرون بقوته، عنده قرون بجاهه، لهذا لا يُوقف عند ظاهر الحديث فقط, بل يؤخذ منه اعتبار، فكم نحن مقصرون في الحقوق؟
لا يتعلم اثنان متكبر ومستحي، واليوم الناس ينقسمون إلى هذين القسمين متكبر ومستحي ، القضية مخيفة، حتى أصبح الإنسان إما يتكبر أو يخجل من التعلم والتعليم في الدائرة القريبة، يعني ضمن أسرته، ضمن أصحابه, خصوصًا في الجلسات العائلية والمناسبات.
هناك تقابل بين كلمتين: الحقوق، والواجبات، فكل ما عليك من الواجبات يقابله عند الناس حقوق لهم عندك، باختصار كل ما عليك من الواجبات تقابله حقوق للناس.
والحق سبحانه وتعالى خص كل واحد من البشر بخصوصية ليست عند غيره، فكلٌ من المخلوقين يتميز بشيء، فهذا من أخص الحقوق للناس، الشيء الذي تميز به عن الناس هو من أخص الحقوق، لأن ما اشترك فيه صار على وجه الكفاية, وما لم يشترك معه به غيره صار عينيًا، لذلك جاء في الحديث: (ليعلمن أقوام جيرانهم، وليتعلمن أقوام من جيرانهم، ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم، ليتعلمن أقوام من جيرانهم، ويتفقهون منهم، وليعلمن أقوام جيرانهم وليفقهونهم، أو لأعاجلنهم بالعقوبة) أصبح الموضوع لا يختص بالأموال فقط، الأموال يعرفها كل الناس، إياك ثم إياك ثم إياك أن تمتد يدك إلى مال غيرك، وأخرج من مالك حق الفقير, لكن الحقوق الأخرى التي جعلها الله للعباد في عنقك إذا أعطاك علمًا أو عملاً أو قوةً أو جاهًا أو سلطانًا أو..... إلى آخره.
فإن أنت لم تقم بهذه الحقوق، إذا لم تقم بهذه الواجبات, وتؤدي للناس الحقوق فالأمر مخيف، لذلك لا أجد وجهًا شرعيًا للخلوة والعزلة عن الناس إلا وجهًا واحدًا وهو أن تكون دواء علة، أردت أن أجد وجهًا للعزلة عن الناس والتفرغ للعبادة فلم أجد، لأن للناس في عنقك حقوق كيف ستؤديها؟ فإن كنت تداوي علة لفترة مؤقتة، نقول لك: هل تداوي العلة بهواك أم سألت الخبير؟ فلا يجوز لك أن تستعمل الدواء إلا بعد سؤال الطبيب.
فلذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا أداء الحقوق كلها، وعلينا أن ننتبه إلى لفظ الحق، والاشتراك اللفظي بينه وبين اسم الحق، فما جعل الحق هذا الاشتراك اللفظي إلا لينبهك حتى تخرج من الباطل {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس:32].
|