الحمد لله رب العالمين، اللهم صلّ على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الحديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديث عن النموذج الذي لم يجب لا في العقل ولا في النقل حفظُهُ من الوقوع في الخطأ، حينما نتحدث عن الرسل وعن خاتمهم وسيدهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فنحن نتحدث عن النموذج الأسوة الذي ضمن الله سبحانه وتعالى أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, فهو يعجِز عن مخالفة أمر ربه, وقد تكفل الله تبارك وتعالى بأمانته وعصمته، ليكون ميزانًا، فكما كان القرآن ميزانًا نظريًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ميزانًا عمليًا، والميزان لا يختل.
لكنـنا حين نتحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نتحدث عن النماذج الواقعية، إذ كلّنا مخاطبون بالتكليف، وليس لأحد منّا أن يقول: إن التكليف الذي خوطبت به عسير أو أنه لا يقبل التطبيق أو أنه لا يتحقق على أرض الواقع فقد جعل الله امتثال أصحاب النبي صلى الله عليه لأمر الله حجة علينا، لأنهم بمنتهى إرادتهم، وباختيارهم آثروا الله ورسوله، باختيارهم توجهوا إلى الله، باختيارهم قدّموا الله تبارك وتعالى على أموالهم وأنفسهم وأرواحهم، وأولادهم، وأزواجهم،...باختيارهم فعلوا الأعاجيب وهذا حجة علينا، نحن بشر وهم بشر لا يقولن قائل إن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أكرمهم الله سبحانه وتعالى بشرف الصحبة أي أنهم شاهدوا البشرية المحمدية، لو أنـنا نتبنى أن التكليف يتوجّه إلى قوم اجتمعوا بالبشرية المحمدية، فهذا يعني أن الإسلام صالح للتطبيق مدة ثلاث وعشرين سنة، المدة التي اجتمع فيها الأصحاب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه عندما وقف وقال: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات" أي انتقلت بشريته "ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" لأنه أبقى الذكر وأبقى مظاهر الذكر، وأبقى نموذج روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضوره المعنوي في الأمة، إذ ما معنى أنك تقول في كل صلاة "السلام عليك أيها النبي" هذا يعني استمرارية معنوية لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، نعم شرف الاجتماع بجسد رسول الله شرف عظيم، لكنه صلى الله عليه وسلم حين انتقل إلى الدار الآخرة لم تـنـزل رتبته، عليه أفضل الصلوات وأكمل التسليم، والنص القرآني صريح لأن الله تعالى قال:{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُوْلَى}[الضحى:4] ورحم الله مفتي الديار اللبنانية الذي قال: "ما للترقي انتهاء" ترقيات سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام ليس لها انتهاء.
إذًا عندما يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين) فهذا إخبار عن اختصاص رباني لا يُلغي الجانب التكليفي السببي الذي ظهر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قضية اختار أو وفق أو خذل، هذا ليس من شأنـنا، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124]
وعندما يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن نقع في أصحابه فيقول: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا من بعدي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) فهذا لا يرجع إلى بشريّاتهم إنما يرجع إلى أوصافهم.
وقد تقدم الحديث عن الأوصاف عندما كنا نعدد في القرآن شهادة القرآن بقولهم:{رَبُّنَا اللَّهُ}[الحج:40] وأنهم رضي الله عنهم كانوا قليلين مستضعفين في الأرض، وكانوا يخافون أن يتخطفهم الناس، وأنهم آمنوا، وأنهم هاجروا، وأنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأخرجوا من ديارهم بغير حق، ... وأعظم الأوصاف أنهم رضوا عن الله، رغم كل ما تقدم من إيذاء، رغم كل ما تقدم من محن، رضوا عن الله، فما كانوا في حالة التضجر، لكنـنا حينما نتحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد لنا أن نذكر خصوصية ساداتهم، فليس فضل الأصحاب رضي الله عنهم سواء، ولو كان مجرد الاجتماع بالبشرية المحمدية مع الإسلام يكفي لِشرف الصحبة, وبالتالي يحصل التساوي في الفضل, لما كنا وجدنا تفاضلاً بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا التفاضل راجع إلى النوع والوصف، وهذا يعزز ما قلته، أي لا يمكن في هذا الوقت عندما نقول: يوجد صالحون في مدينة حلب، أحدهم رجل صالح، بمعنى أنه لا يقع في المعاصي ويكثر من ارتياد المساجد، ورجل أخر صالح بمعنى أن عطاءَه يتعدى للناس، وأنه يهدف لنفع المسلمين, بل لنفع الناس في دينهم ودنياهم، فالصلاح درجات في كل وقت، وهكذا فلا يمكن لنا ونحن نتحدث عن فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، لا يمكن لنا أن نقول أنهم في الفضل سواء، وهذا ما عليه جمهور أهل السنة والجماعة.
وانظروا على سبيل المثال هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى جَبَلِ حِرَاءٍ فَتَحَرَّكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْكُنْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ وَعَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) وهذا غير حديث أحد، عندما قال له: (اثْبُتْ أُحُدُ فَمَا عَلَيْكَ إِلا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدَانِ) عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، هذا حديث آخر، هذا ذكره الإمام مسلم في صحيحه وهو حديث صحيح والحديث الآخر صحيح، لكن هذا الحديث نجد فيه خصوصية حيث إنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يذكر سادات الأصحاب يقول: (اسْكُنْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلا نَبِيٌّ) وهو رسول الله (أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ) وعلى حراء (أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جميعًا).
لكنـنا نبقى مهما تحدثنا عن سادات الأصحاب، ومهما تحدثنا عن العشرة المبشرين بالجنة، نبقى نخص الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم، نبقى مضطرين بسبب كثرة الأدلة التي جاءت في الأربعة رضي الله عنهم، وما جاءت الأدلة الكثيرة في مثل هؤلاء الأربعة، العشرة المبشرون جاءت أحاديث فيهم، وجاءت أحاديث في غيرهم, كلها شهادات من رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن أكثر الأدلة جاءت في الأربعة، وقرر أكثر أهل السنة أن فضل الأربعة هو بحسب ترتيب الخلافة لكن هذا الأمر لم يبلغ درجة الإجماع.
وأنا والله عندما أقرأ الأدلة، كلما قرأت الأدلة في أبي بكر رضي الله عنه أقول: لا يوجد على وجه الأرض أفضل من أبي بكر، وكلما قرأت الأدلة في حق عمر أقول: لا يوجد على وجه الأرض من هو أفضل من عمر، وكلما قرأت الأدلة في حق عثمان فإنـني أمام الأدلة أقول: ما على وجه الأرض أفضل من عثمان، وكلما وقفت أمام الأدلة التي تتحدث عن سيدنا علي أقول: لا يوجد على وجه الأرض أفضل من سيدنا علي.
والذي أذهب إليه أن الأربعة رضي الله عنهم إنما هم أصحاب فضل عظيم وحسبنا أن نقرأ ما ورد في حقهم من حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني عندما نجد سدينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أما أنتم بتاركي صاحبي) وهو يتحدث عن أبي بكر، ويثني على أبي بكر، وعندما نجد أنه يقول: (ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر) وعندما يضرب بيده الشريفة ويقول: (هذه لعثمان) أي شرف أكبر من هذا الشرف، عندما يشير رسول الله إلى يده الشريفة يقول: (هذه يد عثمان) أنا لا استغرب أن يكون عثمان كريمًا، لماذا؟ لأن يد عثمان قد أناب عنها رسول الله يده، هذا أمر لو لم يكن في حياة عثمان رضي الله عنه إلا أن رسول الله جعل يده نائبة عن يد عثمان، يكفي.
تصوروا أن رسول الله سيد الكائنات يضع يده فيقول: (هذه لعثمان) ولو لم يكن في حق سيدنا علي رضي الله عنه إلا أنه قال: (أنت مني بمنـزلة هارون من موسى ) لكفته.
وهكذا فإنه من المعيب أن نتطاولَ إلى درجة نجعل فيها أنفسنا حكامًا ونحكم على مثل هؤلاء الرجال، هذا ليس لنا، نحن نـنظر إلى هؤلاء السادة الغُرر الكبار ونقول: إن الله تعالى أكرمهم بكرامة عظيمة، وهذه الكرامة راجعة للنوع، لو كنا نتحدث عن الرسل عليهم الصلاة والسلام نقول: الله سبحانه وتعالى أظهر آية من آياته، وعندما يُظهر الله آية من آياته, من يستطيع أن يعترض؟ لكن عندما نتحدث عن أبي بكر، عندما نتحدث عن عمر، عندما نتحدث عن عثمان، عندما نتحدث عن علي، عندما نتحدث عن أبي عبيدة، عندما نتحدث عن الزبير...فنحن نتحدث عن نوع، ونحن جميعًا في التكليف مطالبون أن نرتقي لنقترب من هذا النوع، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قبل منّا أن نحقق عشر وصفهم ، فلو أنك في الوصف حققت العشر فإن الله سبحانه وتعالى يجعل لك نيابة عن هذا المقام الذي كانوا فيه.
إذًا عندما نقرأ الأحاديث النبوية نجد أنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يذكر أصحابه ويعدد، أحيانـًا يخص في الأحاديث, هناك نصوص كثيرة خص فيها رسول الله رجلاً واحدًا سلط الأضواء عليه، لكن أحاديث كثيرة، كنا نلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نجمع رؤية الفضل.
اقرؤوا على سبيل المثال الحديث الذي رواه أحمد عن سعيد بن زيد في كتاب العشرة المبشرين بالجنة يقول عليه الصلاة والسلام: (رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ زَوَّجَنِيَ ابْنَتَهُ وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَأَعْتَقَ بِلالاً مِنْ مَالِهِ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا تَرَكَهُ الْحَقُّ وَمَا لَهُ صَدِيقٌ رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ تَسْتَحْيِيهِ الْمَلائِكَةُ رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا اللَّهُمَّ أَدِرْ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ) لماذا يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن الأربعة؟
لأنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يريد أن يؤسس لنا منهجًا.
اليوم ليت المسلمين يتعلمون هذا المنهج، مشكلة المسلمين اليوم ضيق الرؤية، وكثيرًا ما نجد شباب يتحدثون بلغة مخجلة، جماعتي أحسن من جماعتك، وشيخي أحسن من شيخك، وحركتي أحسن من حركتك.... يتحدثون بهذا المنطق الضيق الذي تضيق فيه مساحة الرؤية، والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى وسّع لنا الرؤية عندما علمنا فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنـني مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33] أتمنى أن تتبنى كل التجمعات الإسلامية هذا الشعار حتى تتسع الرؤية.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} وما دعا إلى حزب، وما دعا إلى جماعة، وما دعا إلى تجمع، وما دعا إلى شيخ، وما دعا إلى نفسه، وما دعا إلى شخصانيات، دعا إلى الله.
وعندما تكون الدعوة فانية في رؤية تعظيم الله سبحانه وتعالى وتغيّب كل شيء في هذا المشهد تـنجح الدعوة.
رحم الله محمد إقبال: أذكر قوله دائمًا الذي يقول فيه: تجمعنا ساحة الإخلاص.
فإذا انتفى الإخلاص لا يمكن لنا أن نجتمع أبدًا.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}
ثانيًا: {وَعَمِلَ صَالِحًا} ميزان العمل الصالح ميزان واضح، العمل الصالح هو العمل الذي يتقرب به الإنسان من باب الشريعة، أي: هو مستحسن شرعًا، قد جاء الثناء عليه في النص النبوي أو في نص القرآن الكريم على أنه عمل صالح.
{وَقَالَ} ها هنا تأتي الدعاوي {إِنـني مِنَ الْمُسْلِمِينَ} هذا أعلى انتماء يمكن للإنسان أن يرقى إليه.
وجاء في حديث رواه الترمذي عن سيدنا علي رضي الله عنه في كتاب المناقب ورواه أحمد عن أنس كما رواه الترمذي أيضًا عن أنس من غير طريق سيدنا علي يقول صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان) وزاد ابن ماجة في روايته ( و أقضاهم علي بن أبي طالب) رضي الله عنهم جمعًا لكنـنا نحتاج إلى أن نقترب، لأن الحديث في التعميم حديث جميل، لكن عندما نقترب أكثر وأكثر يكون أجمل.
تعالوا بنا ندخل إلى حضرة جناب سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، الذي هو أول الخلفاء، ثم ندخل بعد ذلك ونجثوا ونجلس بين يدي عمر، ثم نجلس بعد ذلك بين يدي عثمان، ثم نجلس بين يدي علي رضي الله عنهم جميعًا، حتى نستمد من هذه النوعية التي أصبحنا بحاجة إليها.
أصبحنا بحاجة إلى رحمة أبي بكر، أصبحنا بحاجة إلى شدة عمر في الله، أصبحنا بحاجة إلى حياء عثمان في زمن قلة الأدب وقلة الحياء، أصبحنا بحاجة إلى الموافقة والامتثال لأمر الله ورسوله في سيدنا علي، فعندما نخصص مجلسـًا لنجلس فيه بين يدي واحد من هؤلاء الأعلام الأربعة, فإنـنا ونحن نقترب من مقام هؤلاء السادات لا نقترب بأهوائنا وأمزجتـنا لكنـنا نقترب بتقريب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي عرّفنا، هو الذي بين لنا (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)
أولاً وقبل أن نتحدث عن شهادات الحبيب عليه الصلاة والسلام لابد أن نذكر حينما نجلس في حضرة سيدنا أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن القرآن ذكره قال تعالى: {إِلا تـنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنـزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة:40] وهاهنا يشهد الله تبارك وتعالى بصحبه سيدنا أبي بكر رضي الله عنه للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وكفى بها من شهادة.
الله سبحانه وتعالى يشهد بصحبة سيدنا أبي بكر لذلك أجمعت الأمة أن من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه كفر، لأنه أنكر نصًا صريحًا في كتاب الله.
هناك صاحب حقيقي وصاحب مجازي، كل إنسان ينبغي أن يفهم هذه النقطة، الصاحب الحقيق هو الله، وكان صلى الله عليه وسلم في دعائه يقول: (اللهم أنت الصاحب في السفر) الصاحب الحقيقي هو الله تبارك وتعالى {إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] فإذا أكرمك الله سبحانه وتعالى بصحبته عند ذلك يكفيك أن تكون روحك مستأنسة بهذا الصاحب سبحانه.
اجعل الله صاحبا, وذر الناس جانبا.
أما الصاحب المجازي فهو من تختاره مجانسـًا لوصفك أو تختاره فترى فيه وصفـًا ترجو أن ينتقل إليك.
عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينَهُ فَـــــكُـــــلُّ قَرينٍ بِالــمـــُقارِنِ يَقتَدي
فأكرم الله سيدن أبا بكر بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعد النبوة، وبعد ذلك نجد في سورة الليل قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلا الاشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الاتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل:14-21] نجد أن سيدنا عبد الله بن عباس الذي هو حبر الأصحاب يقول: هو أبو بكر رضي الله عنه.
أهل السير عندما ينقلون قضية البيعة ومتى بويع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هناك خلاف، بعضهم ذهب إلى أن سيدنا علي رضي الله عنه بايع في الأيام الثلاثة الأولى، وبعضهم يقول: تأخرت بيعته لانشغاله بخدمة السيدة فاطمة حيث كانت مريضة، لكن المتفق عليه أن سيدنا عليًا مع آل البيت الذين منهم سيدنا عبد الله بن عباس بايعوا مع سيدنا علي، فكان هناك خصوصية آل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يمثِّلون المظهر الطاهر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم الخصوصية المعلومة، فها هنا من الذي يقول: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} الأتقى هو أبو بكر في هذه الآية في سورة الليل، الأتقى هو أبو بكر، من الذي قال هذا؟ هل قالها عمر؟ هل قالها سعد؟ هل قالها أبو عبيدة؟
قالها عبد الله بن عباس الذي هو حبر الأصحاب، والذي هو أحد أكبر أعلام آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: هو أبو بكر رضي الله عنه، وذكر سبب ذلك, كما يروي عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: عذب المشركون بلالاً وبلال يقول: أحد أحد، فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أحد ينجيك) يعني الله الذي تذكره سوف ينجيك، ثم قال لأبي بكر: يا أبا بكر إن بلالاً يعذب في الله، فعرف أبو بكر الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانصرف إلى منـزله فأخذ رطلاً من ذهب، يعني تقريبًا 2كغ ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف, فقال له: أتبيعني بلالاً؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه، وكان أمية ينتظر أن يبيع بلالًا, ولو بدراهم، لكن سيدنا أبا بكر رضي الله تعالى عنه أخذ هذا المال حتى لا يبقى له حجة، فقال: المشركون ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده، فنـزل قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} فهو ما أعتق بلالاً لأن بلالاً له يد عنده إنما أعتق بلالاً لأن الله يريد ذلك ورسوله.
{الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل/18-21]
الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول لحبيبه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام { وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[الضحى/1-5]
يقول في حق أبي بكر {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فهو يخصُّه، هو مندرج في الوصف العام {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[البينة:8] لكنه يخصه، رضي الله عنه بقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}
وبعد ذلك اقرؤوا الحديث المتفق على صحته الذي رواه الإمامان الكريمان البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ, وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا؟) يعني من السهل أن يدعى أحد ما من باب الصلاة، أو من باب الصيام، أو من باب الجهاد... فهل يمكن أن يُدعى أحد من كل هذه الأبواب؟
قال صلى الله عليه وسلم: (نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ)
وعندما يقول رسول الله (وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) رجاء رسول الله لا يخيب، أرجو من الله يا أبا بكر أن تكون منهم.
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة في الصحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟) الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يظهر سرًا من أسرار الله، يعرف الخلائق به إلى يوم القيامة.
قال: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا. قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا. قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ)
في يوم واحد كلما تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضيلة تكون في أبي بكر رضي الله عنه، وروى البخاري رحمة الله عليه في صحيحه (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا) هذا الشقي عقبة يريد شنق النبي صلى الله عليه وسلم بردائه، يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم بردائه.
يعني عندما يوضع الثوب على الشرايين الأساسية التي تغذي الدماغ، هذا معلوم عند كل دارس إذا لم يصب بالموت يصاب بالآفات الدماغية القاتلة أو المخلّة، فيضع رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويمسك به ويخنق رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصحاب ما أحد منهم من شدة الهول يقترب: من الذي يقترب؟ من الذي يتصدى؟ من الذي يقوم للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو بكر رضي الله عنه.
(فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم}
وهذا القول من الذي قاله قبل ذلك؟ مؤمن آل فرعون الذي شهد القرآن بإيمانه، قام سيدنا أبو بكر وردد ما قاله مؤمن آل فرعون ودافع ونافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما هذه الحادثة فرواها أبو نُعيم في حليته بسنده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها قالت: أتى الصريخ آل أبي بكر فقيل له أدرك صاحبك، أي أن أبا بكر لم يكن حاضرًا، فلما قالوا صاحبك يخنقه المشركون, تقول أسماء: فخرج من عندنا وإن له غدائر، يعني شعره طويل ومضفر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر، تركوا سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام لما وجدوا هذا الإقبال من أبي بكر رضي الله عنه ومنافحته، وأنه يعلن الإسلام في المسجد اشتغلوا بأبي بكر رضي الله تعالى عنه، فرجع أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه، يعني قطّعوا شعره، الغدائر الطويلة تقطعت، من كثرة ما شدوا شعر سيدنا أبي بكر، ما كان يمسكه إلا وهو يخرج بيده وهو يقول: تبارك يا ذا الجلال والإكرام.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: تجهز أبو بكر مهاجرًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك، سمع سيدنا أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالهجرة، فأراد أن يشرف بِشرف الهجرة، الصحابة أمامه يهاجرون، وأبو بكر رضي الله عنه يريد أن ينفد أمر رسول الله فتجهز كما تجهز الأصحاب, وكانوا يهاجرون واحدًا بعد الآخر، فاستأذن رسول الله بالهجرة، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام قال له: على رسلك، عجيب يا رسول الله أنت تأمر بالهجرة وتقول لي: (على رسلك) قال: (على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي) أرجو أن يأذن الله لي بالهجرة.
الصحابة هاجروا إلى الحبشة، وها هو يأذن لهم بالهجرة إلى المدينة لكن ما أحد كان يتصور أن الإذن يأتي بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مكة أم القرى, وفيها المسجد الحرام, وكل الناس يتوهمون أن المقر المستقبلي للدعوة سيكون مكة، وما كان أحد يتصور غير ذلك.
قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟
قال: نعم، أرجو أن يؤذن لي، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، كان يتمنى أن يؤذن لرسول الله بالهجرة ليكون خادم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمُر أربعة أشهر، وعندما أذن لسيدنا النبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة, قدم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال صلى الله عليه وسلم: بالثمن. أي:اشتري واحدة منك. ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الراحلة بدون ثمنها, لأنه يريد أن يعلمنا.
كان هناك رجل من الصالحين اسمه ابن محيريز، ذهب ليشتري من بائع ولم يكن هذا البائع يعرف ابن محيريز وفضله، قال: بكم هذا المتاع؟ قال: بكذا. وأغلى في الثمن، وكان عند البائع رجل يعرف ابن محيريز ويعرف فضله ومقامه, فقال: ويحك هذا ابن محيريز، فلما سمع ذلك ابن محيريز قال: لا نشتري بدينـنا، وتركه ومضى.
سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يعلمنا، يقول: (بالثمن).
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ).
وروى البخاري (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ)
وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلامُ أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ, فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ).
لكن اسمعوا الرواية في الحلية التي يرويها أبو نعيم، نفس القصة "كان لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مملوك يغل عليه فأتاه ليلة بطعام فتـناول منه لقمة، فقال له المملوك: مالك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني، فلما أن كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني، قال: إن كدت أن تهلكني، فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ، وجعلت لا تخرج، فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ ويشرب ويتقيأ حتى رمى بها، فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة"
ماذا نقول في هذا الزمان؟
ندخل الأسواق ونحكي لهم عن هذه اللقمة، ولكن الناس لا يتورعون عن أكل الحرام بل يبحثون عن الحيل حتى يأكلوا الحرام, أما أبو بكر رضي الله عنه يكاد أن يزهق نفسه من أجل هذه اللقمة.
الحديث عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه حديث لا ينتهي لكنـنا نختصر.
وأختم بحال سيدنا أبي بكر الذي ترويه عائشة كما ينقل البخاري في صحيحه.
كان رضي الله عنه رجلاً بكّاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، بل إنه كان يبكي وهو على المنبر ، لا يبكي فقط في الصلاة وفي قراءة القرآن.
يقول رفاعة قام أبو بكر على المنبر ثم بكى, فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ثم بكى.
حال النبي عليه الصلاة والسلام لبسه أبو بكر، رسول الله صعد المنبر فبكى، فصعد أبو بكر المنبر فبكى، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ثم بكى, قال: (اسألوا الله العافية فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية).
فتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم وحاله، وكما بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر بكى أبو بكر رضي الله عنه.
لو أنـنا أتينا للحديث عن أبي بكر رضي الله عنه وأردنا أن نـنقل كل ما ورد من الشهادات في حقه لوجدنا أن هذه الشهادات تتجاوز الدكتوراه، والعالمية، ونوبل، والجوائز الأولمبية... بل لو أنـنا جمعنا جوائز الدنيا كلها لا يمكن أن ترقى إلى ثناء القرآن, وثناء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
والحديث طويل لكنـنا أردنا أن نقطف ثمرة من هذا البستان الكبير.
الشيخ عبد الغني النابلسي رحمة الله عليه في شعره يقول:
بشائر التوفيق تشير للتحقيق ورتبة الصديق تلقيك في الأعتاب
الحديث عن الصديق حديث ذو شجون لكن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه، فنسأل الله أن يملأ قلوبنا بحب رسول الله عليه الصلاة والسلام ونسأله أن يملأ قلوبنا بحب أبي بكر، ونسأله أن يملأ قلوبنا بحب عمر، ونسأله أن يملأ قلوبنا بحب عثمان، ونسأله أن يملأ قلوبنا بحب علي، ولعلنا نقف إن شاء الله في كل مرة بين يدي واحد من هؤلاء العمالقة الأربعة رضي الله عنهم.
|