فضل أصحاب النبي
درس الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع أبي حنيفة النعمان بتاريخ: 11/12/2009
قال صاحب جوهرة التوحيد رحمة الله عليه ونفعنا الله به آمين.
وصحبه خير القرون فاستمع فــــــتابعــــي فتابــعٌ لــــــمـــــن تبــــــــــــــــــــــــــــــع
وصحبه: أي وصحب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
كانوا يقولون:
عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينَهُ فَـــــــكُـــــــــلُّ قَـــــريـــنٍ بِالــمُــقــارِنِ يَــقــتـــَدي
فما بالك بمن صحبوا شمس الوجود صلى الله عليه وآله وسلم، ما بالك بمن شرفوا برؤية الوجه القمري، الذي أشرقت منه على العالم أنوار الرحمة؟
سر الصحبة هو سر الإصلاح، بوجود الصحبة الصالحة يمكن أن يوجد لدينا مشروع إصلاحي، وبدون وجود الصحبة الصالحة مشروعاتنا وتنظيراتنا وتخطيطاتنا أوراق تتطاير في الهواء.
الكتب التي تطبع كثيرة، الخطب التي يسمعها الناس على المنابر كثيرة، المنظّرون الذين ينظِّرون للإصلاح كل يوم كثُر... لكن حينما لا ندرك تأثير الإنسان في الإنسان، وحينما لا نضع بين المجموعة الضائعة النماذج الخيرة، النماذج النيرة، النماذج الصالحة، فلن نصل إلى نتيجة.
ماذا حمل المسلمون حينما رحلوا إلى شرق آسيا دول بروناي، ماليزيا، إندونيسيا، ما يسمى اليوم بسنغافورة وكانت جزء من ماليزيا؟ عندما دخل المسلمون إلى هناك وجدوا شعوبًا حائرة ضائعة متخبطة، تطيش فيها الموازين.
ما الذي حصل؟
رأت تلك الشعوب النماذج الصالحة، رأوا كيف يتاجر المسلم، رأوا كيف يعامل المسلم الناس، رأوا كيف تكون أخلاق الإيمان مستوعبة للناس، فتعجبوا!!
ما هذا الذي يغير الإنسان، ما هذا الشيء الذي يجعل سلوك هؤلاء سلوكًا متميزًا، يقدر أن يغش ولا يغش، يقدر أن يخدع ولا يخدع، يقدر أن يكذب ولا يكذب، يقدر أن يسرق ولا يسرق، فهو أمين متقن عليم، ما سر ذلك؟
بدؤوا يبحثون عن سر هذا التغيير؟
ولما علموا ما يفعله الإسلام وما يفعله نور الإيمان في سلوك الإنسان اختاروا الدخول في الإسلام واختاروا تعمير قلوبهم بالإيمان.
هكذا انتشر الإسلام، والآن أصبحت أندونيسيا أكبر دولة في تعداد السكان في العالم الإسلامي.
ما في دولة عربية تصل في التعداد إلى تعداد سكان أندونيسيا، وهؤلاء كلهم دخلوا في الإسلام من خلال الصحبة، من خلال رؤية النموذج.
هذا أمر يغيب عن أذهان المصلحين.
اليوم حينما يتحدثون عن مشروعات إصلاحية، ويتحدثون عن قوانين، وعندما نأتي إلى تطبيقات هذه القوانين نجد الاحتيال عليها ونجد المحسوبيات، ونجد أنها لا تعدوا حبرًا على ورق.
ما سر ذلك، لماذا لم يحصل الصلاح والنتيجة الإصلاحية مع وجود قانون إصلاحي؟
لأن الإنسان الصالح مفقود، الأوراق وجد عليها مشروع إصلاح وغاب الإنسان الصالح.
إذًا هذا السر الذي ينبغي لنا أن ننتبه إليه إن نحن أردنا الإصلاح.
إن نحن أردنا الإصلاح علينا أن نضع النماذج الصالحة بين النماذج الحائرة والتائهة والضالة، اللهم إلا إن كنّا لا نريد الإصلاح، أو كنّا نتوهم أننا نقدر على الإصلاح من غير الإنسان, فنحن عند ذلك سوف نضيّع الأوقات تضييعًا كبيرًا ولا نحصد إلا الأشواك، ولذلك لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد نماذج خيّرة نيّرة، متميزة، أرسل سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي هو مثال الأخلاق، والذي هو مثال الاستقامة، والذي هو صاحب التطبيق الأمثل للقرآن العظيم.
واختصر القضية بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21] سمعها الأصحاب رضي الله عنهم ورأوا هذا النموذج الذي اختاره الله سبحانه وسماه المصطفى، وسماه المختار، لأنه صفوة خلق الله، وخيرة خلق الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم القرآن ثم يخالف سلوكُه قوله وما ينقله إليهم, إنما كان نموذج التطبيق لما يقول ولما ينقل من القرآن العظيم.
فلما رأى الأصحاب هذا النموذج صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم, تأثروا وحُق لهم أن يتأثروا، لأنهم شهدوا الأمانة في أبهى منازلها وشهدوا الصدق في أبهى منازله، وشهدوا التطبيق الذي لا يميل مع الهوى والعاطفة في أبهى صوره.
من الذي وقف وقال بين الناس: (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)
هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا النموذج الذي يتجاوز العواطف البشرية من أجل المبدأ، هذا النموذج الذي لا نجد في مسلكه اتباع المحسوبيات على حساب المبدأ.
اليوم أهل الشعارات كُثر لكنهم في سلوكياتهم أصحاب محسوبيات، وأصحاب عواطف وأصحاب انحراف عما يعلنونه من مبادئ، فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النموذج المتفاعل الذي قلبه متفاعل مع القرآن العظيم في الإخلاص والصدق، وجوارحه على صراط الله المستقيم، وروحه متعلقة بالله سبحانه وتعالى، أثر فيهم حال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما تركوا نفوسهم.
رحم الله من قال:
وإذا جاء فارغًا من سوانا عاد من فيض سرنا ملآنا
فلما قدِمُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدموا بأهوائهم ولم يَقْدُمُوا بنفوسهم، إنما حيدوا نفوسهم وجعلوها جانبًا، فلما جعلوا نفوسهم جانبًا أثرت أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فلذلك قال الله لهم: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}َ [الحجرات:1]
وقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أنت أحب إلي من كل الناس.
قال: ومن نفسك يا عمر؟
قال: لا يا رسول الله.
فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، توجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له في سره فوجد عمر تغيرًا في باطنه، ووجد أن حاله لم يُقبل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ومن نفسي يا رسول الله.
أنت أحب إلي من الناس كلهم، وأنت أحب إلي من نفسي يا رسول الله، وهكذا حيد نفسه رضي الله عنه، فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم ابتسامة قبول، وقال له: (الآن يا عمر)
أنت في المقبولين يا عمر، لأنك قد حيدت نفسك، ومن حيد نفسه يقبل، ألم يقولوا: خلّ نفسك وتعال؟
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65]
فإذا جاء ومعه أنانيته ونفسه المتجبرة المتكبرة لن يستفيد من رسول الله، كما حصل لأبي جهل، التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده لكن الأنا اصطدمت، فكانت غطاء، وكانت حجابًا، فلذلك قال قائلهم رحمة الله عليهم:
رح يا أنا يا فاسد التركيب يا حائلاً بيني وبين حبيبي
فإذا قدمنا إلى القرآن العظيم بنفوسنا لا ننتفع، وإذا قدمنا إلى من ظهرت فيهم أنوار القرآن أو أنوار من القرآن لابد أن ننظر بمنظور ليس فيه النفس.
وهكذا جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورأينا أن الصديق رضي الله عنه يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا.
ورأينا خديجة رضي الله تعالى عنها الثريّة التي هي ذات الحسب والنسب والجاه والمال، تُصدِّق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورأينا زيد الذي آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيه وأمه، عندما جاء أبوه وأمه وعشيرته، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خيروه، فإن اختار الرجوع إليكم خذوه) فاختار البقاء في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا كان متخليًا عن نفسه، فلما رأى إشراق الوحي في رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من غير تردد.
وهكذا وجدنا أن الذين كانوا في تلك المنزلة العظيمة قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجدنا أن إشراقات الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام قد ملأت قلوبهم, فأشرقت بأنواره صلى الله عليه وسلم أرواحهم، وتهذّبت نفوسهم، وتزكت وتطهرت, ووجدناهم بعد ذلك تظهر منهم الأعاجيب.
كيف يمكن لنا أن نفسر الثبات الذي ظهر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أين منّا هذا الثبات؟
أعطونا نموذج في هذا الوقت مثل بلال الحبشي، أعطونا نموذج بلال الحبشي، الذي يوضع تحت الصخرة، ويعذب في الظهيرة وهو يقول: أحد، أحد، أحد...ما سر هذا؟
سر هذا صحبته لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
ما سر ثبات ياسر وسمية وهما يثبتان على الحق ويريدهما أهل الكفر والشرك أن يكونا خارجين من الإسلام ويثبتان على الحق حتى يقتلا في سبيل الله، ما سر هذا؟
سره صحبتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما سر ثبات الزبير بن العوام عندما يلف بحصير وتوقد تحت رأسه نار، والدخان يتصاعد حتى يتجمع ويخنق بالدخان وهو ثابت على إسلامه ثابت على دينه...؟
ما سر ثبات خبّاب بن الأرت رضي الله عنه، وهم يحمُون الحديد على الجمر, ثم يضعون ظهره على هذا الحديد, فيكوى ظهره بالحديد المحمي وهو ثابت على الحق، ما سر هذا الثبات؟
هذا سره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما سر ثبات عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه الذي نزل حين كان الناس يتخفّون إن أسلم أحدهم نزل إلى ساحة الحرم المكي التي امتلأت بالأصنام امتلأت بالشرك، وأعلن بين القوم إسلامه، وأعلن شهادة التوحيد فما كان من المشركين إلا أن قاموا إليه وضربوه ضربًا موجعًا حتى فقؤوا عينه.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من يقول له: قد كنت في جوار أحد المشركين فلم رددت عليه جواره؟ أما ترى ما أصابك؟ أما ترى ما أصاب عينك؟ ويجيب عثمان بن مظعون ويقول: العين الثانية بحاجة إلى ما أصاب العين الأولى في سبيل الله.
ما سر هذه الأعاجيب التي نراها؟
مصعب بن عمير المنعّم الذي لا يلبس إلا الحرير الذي يؤتى به من أقاصي الدنيا، يأخذ لنفسه أحسن الحُلل، يضع أحسن الطيوب والعطور الهندية الفاخرة، تبذل له الأموال، أمه ثرية ذات مال، وتعطيه من الأموال وهو متنعم حتى كان إذا مرّ بطريق من الطرق يعرف أنه قد مر مصعب بن عمير، لكثرة ما كان يضع من الطيوب والعطور على جسده، وكانت الفتيات يتسابقن من أجل أن ينظر إليهن مصعب بن عمير، ولما دخل في الإسلام جردته أمه من كل ماله، وحبسته وأغلظت له، وأوقعت عليه العذاب، وهو ثابت في الحق، حتى وجد فرصة من أجل أن يخرج خارج هذه البيئة التي تحيط به من كل مكان وتريد صرفه عن الحق، فسمع بهجرة الأصحاب إلى الحبشة وإذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فهاجر إلى الحبشة.
هذا المكي المنعم، هذا الشاب الأنيق يهاجر إلى البلاد الحارة التي أهلها من الزنوج، التي فيها بيئة خشنة لما رجع رضي الله عنه إلى المدينة رجع وقد اخشوشن، ما عدتّ تعرف مصعب، هذا مصعب؟ هذا مصعب الشاب الذي كنت إذا نظرت إليه رأيت مظهر النعومة, ومظهر الأناقة, ومظهر الإتيكيت كما يقولون في هذا الوقت، هذا مصعب بن عمير، أيعقل أن يكون هذا هو مصعب بن عمير؟
عاد مخشوشنًا ليس عنده من المال شيء، جلده أصبح خشنًا، بشرته أصبحت خشنة، وعندما كانت غزوة أحد قاتل رضي الله عنه وكان فيمن قتل شهيدًا، فلما أرادوا تكفينه ما وجدوا ثوبًا يغطي جسده، كان ثوبه الذي يلبسه قصيرًا، فإن هم وضعوا الثوب على وجهه ظهرت قدماه، وإن هم وضعوا الثوب على قدميه ظهر وجهه، فما كان منهم إلا أن وضعوا الثوب على وجهه ثم وضعوا بعد ذلك على قدميه من نبات الأرت.
هذا ما سره، ما سر هذا التغير، يا شباب، يا من يقرأ، يا من يتفلسف، فلسفات كثيرة نسمعها اليوم، ومناقشات وجدالات، وكل واحد يضع رجل على رجل، ويناقش في الإسلام ويقول: الإسلام، والإسلام، والإسلام... وينظِّر على الناس، كفى كذبًا، نكذب على أنفسنا ونكذب على الناس، أين التفاعل، أين التفاعل القلبي؟
إذًا سر الصحبة هو الحل، النماذج الصالحة في كل زمان موجودة، لا يقولن قائل: ذاك الذي صحبوه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نقول قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، وفي رواية لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله).
إذًا الصحبة موجودة لا يقولن أحد في ذلك الزمان كانت الصحبة موجودة، وفي زماننا لا توجد صحبة، لا...الصحبة الصالحة موجودة في كل زمان، وأنوار رسول الله صلى الله عليه وسلم باقية في كل زمان، لكن أين الذي تظهر فيه أثار هذه الصحبة.
أولاً أين من يحرص على الصحبة.
ثانيًا: أين من تظهر فيه أثار هذه الحصبة؟.
هذا الأمر هو المعضلة الكبرى وهو مفتاح إصلاح المجتمعات.
لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إصلاح المدينة المنورة أرسل إليها مصعب بن عمير، فكان أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير سر صلاح المدينة المنورة.
لا يقولن أحد: الواحد ماذا يعمل؟ الاثنان ماذا يعملان؟ لا... هذا الكلام لا يقبل، عندك سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصدق في التفاعل معه، لو صدقت في التفاعل معه تؤثر، لكن نحن لا نتأثر ولا نؤثر ونكتفي بالأقوال، ونكتفي بالتنظير بالنظريات، بالتخطيط، بالكلام الفارغ، لكن التفاعل الذي يوقفك ذلك الموقف الذي وقفه خبيب رضي الله عنه حين أرادوا قتله وصلبوه على جذع الشجرة فوقف وقال:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنب كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإلــه وإن يشــأ يبارك على أوصـــــال شــــــــــــــــــــلو ممــــــــــــــزع
هذا الحال الذي نبحث عنه، هذا التفاعل الناتج عن الصحبة.
|