ما نزال في رحاب أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ورضي الله تعالى عنهم.
يقول صاحب جوهرة التوحيد: (وصحبه خير القرون فاستمع)
وربما تساءل سائل: هل يندرج هذا في العقائد؟
العقائد كما هو معلوم هي: ما يجب وما يجوز وما يستحيل في حق الله تبارك وتعالى, وما يجب وما يجوز وما يستحيل في حق الرُسل عليهم الصلاة والسلام, وما هو مندرج في السمعيات كاليوم الآخر والقدر والجنة والنار والكرسي والعرش.
فلماذا أدرج علماء التوحيد ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأفضليتهم وأفضلية التابعين من بعدهم في علم التوحيد..؟
تقول القاعدة:إن كنت ناقلا فالصحة, أو مدعيًا فالدليل.
ولما كان الذين ينقلون دين الله الذي نزل على قلب سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إنما هم أصحاب رسول الله رضي الله عنهم, وعندما نُشكك في عدالة الأصحاب رضي الله عنهم, فنحن نقطع السند بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
إذًا أولًا: لاعتبار الأصحاب الحلقة الأولى في السند والنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (خذوا عني مناسككم) والذي حضر هذا المشهد (خذوا عني مناسككم) هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم الذين سوف ينقلون إلينا.
وقال صلى الله عليه وسلم: (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) والذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهم الذين نقلوا إلينا كيفيات عبادات النبي صلى الله عليه وسلم, وكل ما يتعلق به صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم, نقلوا أقواله الشريفة, ونقلوا أفعاله, ونقلوا تقريراته, وحدّثونا عن أحواله..
فحينما نجرّح بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم, فهذا يعني أننا نقطع الصلة بين الأمة ورسول الله عليه الصلاة والسلام, هذا أولًا.
الأمر الثاني: أن أهل السنة والجماعة تميّزوا في ما يعتقدونه عن غيرهم من أهل البدع, بأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم عندهم عدول, فلا يُجرح في عدالة صحابي, فلما كان هذا من مزايا أهل السنة والجماعة, ألحقوا هذه المباحث بمباحث العقيدة, لأن عقيدة أهل السنة والجماعة متميّزة باستمدادها من الكتاب والسنة, ولما كان هناك مباحث كثيرة تميّز بها أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل الملل والنحل والأهواء والبدع, صرّحوا بما يميّز أهل السنة الجماعة, لا من كون أن هذا من العقائد, بل لكونه يميز أهل السنة والجماعة.
من هذه الحيثية تم إلحاق هذه المسائل بمسائل العقيدة, مع أنها ليست من العقائد, لكنها من مزايا من اعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وقد أفرد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الذي هو مصدر العقيدة الأكبر, أفرد حديثًا مطوّلًا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنحن حينما نقرأ شهادة القرآن الكريم, وحديث القرآن الكريم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهذا يعني أننا في الجزئيات التي نُقلت في كتاب الله تبارك وتعالى, نحن ننظر إليها على أنها جزء من السمعيات, لأننا سمعناها من خبر القرآن, فمن هذه الحيثية شهادات القرآن لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تعتبر من العقائد السمعية.
إذًا هناك عدة اعتبارات لإلحاق هذه المسائل بمباحث العقيدة.
الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم تحدّث عن أوصاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة جدًا, سنختار منها بعض الأمثلة حتى نرى هذه الأوصاف, لأن الله سبحانه وتعالى لما حضّنا على اتباعهم, فإن ذلك يستلزم بحثنا عن أوصافهم حتى نَتّبعها, قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} إلى يوم القيامة, فقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}وبعد ذلك أفرد لهم منزلة عظيمة لا يحلم أي إنسان بها, عندما قال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]
إذًا نحن أمام صنف شريف كريم طاهر مُعظَّم, نال رضوان الله تبارك وتعالى, ونال ما أعده الله سبحانه وتعالى له من الجنات ومن الفوز العظيم, وهذا النص القرآني يستلزم أو يتطلب منا بحثًا عن أوصافهم, لأن الله سبحانه وتعالى حثّنا على اتباعهم.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} إذًا ألزمنا هذا النص باتباع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, كما قال سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] أي اتبعوا سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم, هاهنا نجد أنه يقول: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}
إذًا هكذا يكون المؤمن وهو ينظر إلى القرآن فاهمًا أن الاتباع إنما هو للنماذج التي استمدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا, وليس لمجرد ما نُقِل عن الحبيب صلى الله عليه وسلم, لأن هؤلاء الذين استنبطوا وفهموا وأخذوا من معين النور المحمدي, ظهر فيهم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ألم يقل صريحًا صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) فألزمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتبعه وأن نتبع من جاء بعده من خلفاءه, ولذلك المسلمون اليوم في كل العالم يصلون صلاة التراويح وصلاة التراويح من سنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه, بل من الذي نظّم دولة الإسلام؟ أول من نظّم دولة الإسلام ومصّر الأمصار, ونظّم المدن, وأوجد الدواوين, وأوجد السجلات التي تُحصي أسماء الناس,قبل أن تظهر دائرة النفوس والسجلات المدنية وقبل أن تُخترع المعلوماتية الحديثة والإحصاء, عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أوجد سجلات من أجل حصر أسماء الأفراد في القبائل, كل قبيلة في سجل حتى يكون حاضرًا مع الجميع.
إذًا هذا الفعل الذي أسس دولة الإسلام قام به أحد الصحابة رضي الله عنهم, فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالنص وجاء بالقواعد, وجاء بالمختصر الذي تفصيله إلى يوم القيامة, لكن رأينا أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم لاسيما الخلفاء الراشدون منهم, جاؤوا بتطبيقات لتلك القواعد التي جاء بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} ومن البديهي جدًا أن يكون في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: أبو بكر, وعمر, وعثمان, وعلي, وأبو عبيدة, وسعد.. وجمع غفير من المهاجرين, ونرى سعد بن معاذ في الأنصار, ونرى أبا أيوب الأنصاري, ونرى زيد بن ثابت, هؤلاء من شيوخ الأصحاب في الأنصار رضي الله تعالى عنهم.
إذًا {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} هؤلاء الصفوة هم خيرة الخلق الذين اختارهم الله لصحبة خير الكائنات سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وقبل أن نتحدث عن وصف {رَضُوا عَنْهُ}
لأن {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} خبر تكريمي, لكن {رَضُوا عَنْهُ} وصف, هذا أحد الأوصاف, وهو وصف الرضا عن الله, لكن قبل أن نصل إلى هذا الوصف الذي هو وصف الرضا عن الله تعالى, لنستعرض الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم في أصحاب الحبيب عليه الصلاة والسلام.
أولًا من أوصافهم أو من سماتهم التي ذكرها القرآن وأثنى عليها أنهم قالوا: {رَبُّنَا اللَّهُ} قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40]
أولًا أعلنوا انتماءهم, أعلنوا عبوديتهم, اليوم الأزمة أزمة العبودية لغير الله, العبودية للمنصب, العبودية للأصنام البشرية, العبودية للشهوة, العبودية لمدح الخلق, العبودية للشهرة, العبودية للأغيار.. لكن هؤلاء تبرؤوا من كل عبودية, وأعلنوا عبوديتهم لله سبحانه وتعالى, وهذا يُذكّرنا بأوصاف متلاحقة, قصها القرآن الكريم علينا, عندما تحدّث عن أهل الكهف, عندما تحدّث عن الرسل عليهم الصلاة والسلام, نقرأ في سورة هود عليه الصلاة والسلام, نصًا على لسان هود, وعلى لسان صالح, وعلى لسان شعيب عليهم الصلاة والسلام: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}[هود/50] ويتكرر النص: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود/61]
هذا النص الذي بدأ من الرسل, ثم بعد ذلك ظهر في أتباعهم , نقرأ في قصة أصحاب الكهف {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14]
إذًا هذا وصف متكرر في كل جيل تحقق بالعبودية لله, وجيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الجيل الذي تحقق بالعبودية وأعلن الانتماء, لا الانتماء اللفظي كما قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] يعني أصحاب الشعارات والكلام.. لا.. إنما {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] وكانوا وفق معنى {رَبُّنَا اللَّهُ} تحققوا بالعبودية لله تبارك وتعالى.
وبعد ذلك نلاحظ أن القرآن الكريم بعد أن يذكر الوصف الأول الذي هو: إعلان {رَبُّنَا اللَّهُ} هذا القول الذي له مقتضيات كثيرة, نلاحظ أنهم أعلنوا هذا في بيئة كانوا فيها مستضعفين, يعني هنالك فرق بين محاضر يدخل إلى محاضرة.. والناس معجبون بهذا المحاضر... والمدرَّج مليء.. وهو يتحدث بالأفكار وبالنقول.., وبين من يقول {رَبُّنَا اللَّهُ} في بيئة وثنية تحارب التوحيد, وتعتبر ذلك خروجًا على دين الآباء, وتعتبره خروجًا على العرف والتقاليد, وتعتبره نوعًا من أنواع الحرب.
إذًا يختلف هذا القول عندما تقول {رَبُّنَا اللَّهُ} وأنت جالس في المسجد, وبين من يقول {رَبُّنَا اللَّهُ} في بيئة الأصنام, في بيئة هو فيها مُستضعَف, وقد قرر القرآن هذا الوصف وهذه الحقيقة عندما قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: 26]
لذلك لا حُجّة لنا اليوم أن يقول من يتمسك بالحق: نحن قلّة.. لا شأن لنا.. لا اعتبار لنا بالمنظور المادي.. ليست عندنا أجهزة الإعلام.. ليست عندنا كل الوسائل المتاحة لمن يتبنى النِحل والأهواء والدعوة إلى تحليل الأخلاق, ما عندنا الذي هو عند غيرنا, فنحن ندعو إلى القرآن, وندعو إلى التمسك بالاستقامة والطهارة, ندعو إلى الفضيلة, ندعو إلى العدالة, ندعو إلى المساواة, وغيرنا يظلم, وغيرنا يفعل الأفاعيل, لكن نحن لا نملك من الوسائل شيئًا.. نقول له: لكن تذكر الذين أمرك الله أن تتبعهم {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}
تذكر أن الله سبحانه وتعالى قال لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ}
علينا أن نثق أن الله تبارك وتعالى مُظْهِر دِينَه, هذا أمر ليس فيه جدال, كانوا في مرحلة من المراحل يتحدثون عن الحتمية الشيوعية, وبعد ذلك ظهر أن هذه فكرة كاذبة لا تحقيق لها على وجه الأرض وسقطت, فاصطدمت النظرية بالتطبيق, وتوهم العقل البشري أنه يمكن أن يصل إلى رتبة العلم الإلهي, عندما قالوا بالشيوع ونسفوا خصوصية الفرد, الإسلام جاء بمنهج متوازن, لا هو المنهج الرأسمالي الذي يلغي الفقير, ولا هو بالمذهب الذي يجتس الخصوصيات, إنما هو المنهج المتوازن الذي يعطي الخصوصية للفرد ولكن يحمله المسؤولية أمام الله, ويقول للفقير لا تخف المجتمع يتكفل بك, يقول للغني عليك أن تنتبه أن الفقير مالُه في جيبك, حق الفقير في عنقك, وعندما ينفق الغني يُحبّه الفقير, فتنشأ صلة من التراحم ما كان لها أن تنشأ لو كان الجميع مثل بعضهم في المستوى المادي, وهكذا يتحقق التكافل الاجتماعي وتنشأ معه علاقات المحبة والمودة والتعاطف,بخلاف الشيوعية التي دعت إلى إلغاء مبدأ الغني والفقير,فقضت بذلك على العلاقات بين الناس.
إذًا في الإسلام إنسان اشتغل واجتهد وقسم الله له مالا كثيرًا, ولكنه كان يراعي حق الله في المال, فأكثر من رعاية الفقراء, فوجدت الرحمة في قلب الغني, ووُجِد الحب في قلب الفقير, وعاش الجميع في حالة من السعادة والسرور, هذه خصوصية المنهج الإلهي.
في الاتحاد السوفيتي, حاربوا الدول التي نشأ الإسلام فيها وانتشر, فمثلًا الإمام البخاري رضي الله عنه نشأ في بخارى في طاجكستان وهي من هذه الدول التي حاربوا الإسلام فيها, وكان الذي يُرى عنده مصحف يعتبر مرتكبًا لجريمة من الجرائم, ووجدت في تلك البلاد ثلاثة أو أربعة طوابق تحت الأرض لتعليم الأطفال قراءة القرآن, ولما اندحرت الشيوعية وتحلَّل الاتحاد السوفيتي, عاد الإسلام من جديد أقوى مما كان فيما قبل, وظهرت الأجيال التي تعلن بكل قوة أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أينما ذهبت أينما أسافر أجد الإسلام أينما تحركت.. يا سبحان الله! هذا مسلم من السويد, وهذا مسلم من سويسرا, وهذا مسلم من بريطانيا, وهذا مسلم من أمريكا.. وكلهم دخلوا في الإسلام من جديد.. هذا دخل في الإسلام من ثلاث سنوات.. وهذا من خمس سنوات.. وهذا من خمس عشرة سنة.. ثم أصبحوا في تفاعلهم مع الإسلام أحسن بكثير من تفاعلنا.
إذًا الإسلام الآن.. كالشمس في أول طلوعها.. تنظر إلى الأفق فتشاهد القرص بدأ يطلع, الآن شمس الإسلام بدأت تطلع في الأفق, لكن الضحى.. حتى ترتفع مقدار رمح ونصلي صلاة الضحى..مازال الأمر يحتاج إلى قليل من الوقت.. لكن هل يا ترى نحن نتناسب مع هذه الحالة من التأييد الذي نراه أينما نتحرك, نرى أن العالم الذي فقد كل شيء يبحث عن منقذ, ولا يوجد أمامه إلا الإسلام, ونحن نفرح, يعني مهمتنا أن نفرح, لكن أن نكون سبب..لا.. نحن لا نرى أننا سبب, لأننا دائمًا نقول لهم: فرقوا بين الإسلام والمسلمين...لا تنظروا إلى المسلمين, لأن حال المسلمين لا يُعبّر عن الإسلام, أنتم قرأتم الإسلام وسررتم من الإسلام, ابقوا على قناعاتكم وعلى تعلقكم بالإسلام, ولا تنظروا إلى واقع المسلمين, لأن المسلمين تخلوا عن إسلامهم, المسلمون يحاربون الإسلام اليوم, الهيئات الرسمية تحارب الإسلام اليوم, مع الأسف الشديد, شيء يَتفطّر له الفؤاد, بلاد الإسلام ويُحارب فيها الإسلام, لكن تذكروا قوله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي تحملوا, الذين أوذوا, الذين ثبتوا: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} انظر إلى هذا التعبير, كيف النسور تتخطف العصافير الصغيرة, كيف تتخطف ما تراه من الهوام الضعيفة, هكذا يُشبِّههم القرآن, حيث لا يملكون قوة مادية.
إذًا أولًا: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}
ثانيًا: قالوها في بيئة كانوا فيها مستضعَفين.
ثالثًا: يقول سبحانه وتعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} أين نحن.. يجب أن نخجل من أنفسنا.. ونبكي على حالنا عندما نذكر أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وجعفر رضي الله عنهم.. لأننا نكتفي بأن نمسح على وجوهنا ونتبرك بذكرهم ونترضى عنهم ,ما هذا الذي يُراد منا, الذي يُراد منا أن نفهم هؤلاء, أن ننفُذ إلى بواطنهم, أن ننفُذ إلى أوصافهم, لعلنا نقترب من الأوصاف, حتى نلتحق بالذين يتبعون بإحسان.
{هَاجَرُوا} ما معنى هاجروا؟
اليوم الرجل لا يصدق كيف يملك شقة.. شقة سكنية غرفتين وصالون.. ثلاثة وصالون.. لا يصدق.. حلم اليوم عند الشاب.. هؤلاء عندهم بيوتهم وثرواتهم, لكن تركوها من أجل الله.
صهيب الرومي كان يصنع السلاح, وكان من أمهر الصناع, فجمع ثروة ذهبية كبيرة, فلما أراد أن يهاجر, خرج المشركون خلفه وقالوا: أتيتنا صعلوكًا فأعطيناك من أموالنا, ما قاطعنا صناعتك, اشترينا من عندك.. قال: تعلمون أني أرماكم, أنا الذي أصنع السلاح.. أنا الذي أصنع السهام.. والكنانة هذه مليئة بالسهام.. كل سهم برجل منكم, لكن إذا كنتم تريدون مالي, فمالي هو في المكان الفلاني, اذهبوا وخذوه, وخلوا سبيلي..
ترك ثروة العمر.. تعال إلى أغنى رجل في مدينة حلب من غرفة الصناعة أو غرفة التجارة.. من أينما تريد.. اذهب إليه واسأله هل يضحي بثروة العمر التي جناها من أجل أن يلتحق بمحمد صلى الله عليه وسلم,كما فعل صهيب الرومي,ما أعظم هذه التضحية..!
اليوم عندما تقول لرجل: يوجد مشروع جيد يخدم الإسلام,تجده يفكر مليًا,ثم يخترع لك ألف عذر ليتخلص من الموضوع,بينما تجده ينفق الملايين على مائدة واحدة في حفلة من حفلاته.
هذا هو حالنا..
قال لهم صهيب: تريدون المال؟ خذوه, ولما وصل إلى المدينة, وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسّم فرحًا به, لأنه رأى فيه المسلم الناضج.
النبي عليه الصلاة والسلام فرح به, لأنه أصبح مالكًا لنفسه, لأن الله عنده هو أحب من المال, لأن الله عنده هو أحب من النفس, لأن الله عنده هو أحب من الروح.. لذلك فرح عليه الصلاة والسلام وقال له: (ربح البيع أبا يحيى) البيعة رابحة..
هذه هي النماذج, {هَاجَرُوا}, تركوا كل شيء من أموال, تركوا كل شيء من ثروات, تركوا بيوتهم, تركوا أهليهم, {هَاجَرُوا}
{وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} لم تكن هجرتهم هذه لأن البيئة التي سينتقلون إليها مريحة أكثر, لا.. إنما أخرجوا إخراجًا {هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}
{وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} كان منهم من توضع فوقه الصخرة في وقت الظهيرة, وكان منهم من يُطعن وتُبقر بطنه, وكان منهم من يُحمى على الحديد ثم يوضع على ظهره, وكان منهم من يُلفُّ بحصير ويوضع الدخان فوق رأسه ويُعلّق من رجليه, وكان منهم من يُسجن, كان منهم من يجوع في الله, وكان وكان وكان.. {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} من أجل الله.
هذه النماذج التي يجب أن يخجل الذين يُصغّرون من أصحابها , عليهم أن يخجلوا, لأن القرآن يُثني عليهم, وكيف لا نُثني على من أثنى القرآن عليه!! {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي}
{وَقَاتَلُوا} عندما أذن لهم {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] لم يقل: أذن لكم أن تقاتلوا..بل قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} نحن لا نُصدّر عنف, لا نُصدّر عدوان, لا.. إنما ندافع عن الأرض والعرض, ندافع عن الدين, نحن لا نُصدّر إيذاءً للآخرين, قال تعالى وهو يُبيّن موقف الإسلام ممن يخالفنا في العقيدة {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8]
الله سبحانه يأمرنا أن نُحسن إلى المخالِف في العقيدة, الذي يخالفنا في العقيدة نُحسن إليه, حتى يرى وصف الإسلام في الإنسان, لأن الإسلام عندما يكون في الإنسان, يُصدّر إحسانًا.
{هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا} يعني عندما قوتلوا {وَقُتِلُوا} يعني كان منهم الشهداء في سبيل الله {لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا} وهذا هو تفسير لما بدأنا به {إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} فلم يكن جهادهم بالنفس فقط, إنما بذلوا الجهد بالمال والنفس.
{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} {وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا} الأنصار.. (لو سلك الناس فجًّا وسلك الأنصار شعبًا, لسلكت شِعْب الأنصار) (لولا الهجرة لتمنيت أن أكون من الأنصار) هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفخر بالأنصار, ويُبيّن أن من علامات إيمان الإنسان محبته لهم, ومن علامات نفاق الإنسان كراهيته لهم {وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا}
سعد بن الربيع قصته مشهورة, عندما جاء عبد الرحمن بن عوف مهاجرًا, وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينه, قال له: أنا عندي زوجتان وعندي مال كثير, أَقْسِم نصف المال بيني وبينك, وانظر أي زوجتيّ تريد, أطلقها لك ولتتزوجها. قال: بارك الله لك في مالك وأهلك, دُلّني على السوق.
ما هذا الاستعداد.. الذي من خلاله يضحي الإنسان بنصف ماله وبإحدى زوجتيه.. هذا سر الأخوة, سر الحب في الله..
ما الذي يفعله الإيمان.. إذا كنا لا نرى الثمرات السلوكية في حياتنا, علينا أن نُشكك في إيماننا, مسألة مخيفة, أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كان بعضهم يدعو بعضًا لتجديد الإيمان, ويقول بعضهم لبعض: تعالوا بنا نؤمن ساعة..
نحن ما الذي ينبغي أن نقوله, إذا كان هؤلاء الذين هم بهذا الوصف, يجددون إيمانهم, وهؤلاء الذين تظهر منهم الأعاجيب, إذًا نحن ما الذي يجب أن نفعله..؟
{وَالَّذِينَ آَوَوْا} قسموا بيوتهم..
لما وقعت المصيبة في إخواننا في لبنان, ولما وقعت المصيبة التي قبلها في إخواننا الذين قَدِموا من فلسطين, ما سمعنا أحدًا قَسَم بيته بالنصف,وقال لأخيه المصاب: تفضل.. لأننا لسنا مستعدين لهذا, ما عندنا هذا الاستعداد,يقول أحدنا:هذا بيتي أنا.. هذا حصيلة العمر..وقد تعبت كثيرًا في تهيئته وإعداده وترتيبه.. فكيف أقسمه بالنصف؟هذا سيفسد الديكور...
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]
وقال: {وَرَضُوا عَنْهُ} وهذا وصف لا ينبغي أن ننساه, يعني هذا المستضعَف الذي هاجر وأُخرج وأوذي.. ما هو متضجر من الله, ولا معترض على أحكامه يقول: يا رب آمنت بك.. ونصرت دينك..لماذا يحدث لي هذا؟
هل قال هذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا.. لا.. لا.. إنما كانوا يتلقون البلاء بالوجه الضاحك {وَرَضُوا عَنْهُ}
لو أن الله سبحانه وتعالى اختار خمسة آلاف إنسان أو ستة آلاف إنسان حول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم, وأعطاهم من الأموال والبساتين, وبعدها قالوا له: رضينا عنك.. لكان الأمر عادياً بالنسبة لنا,لكن أن يُنـزل بهم البلاء,ويُنـزل بهم الإيذاء, ويُنـزل بهم كل أنواع الشدة, ويقولوا بعد ذلك: رضينا عنك يا رب,هذا هو الإيمان, هذا هو الثبات {وَرَضُوا عَنْهُ}.
بقي وصف لا ينبغي أن ننساه {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} وهذا الجزء يشير إلى صلتهم بالله.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} وذكر مثلهم هذا في التوراة, لأنه عَلِم أن اليهود قد قطعوا الصلة بينهم وبين الله, اليهود تسمكوا بقوانين توراتية, وقطعوا الصلة بالله, فأشار المولى إلى وصف الأصحاب, ليُنبّه اليهود إلى الصلة بالله.
{وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} فأشار إلى وصف التماسك والوحدة, ومؤازرة المؤمن للمؤمن, ومؤازرة المسلم للمسلم, وذكر ذلك في الإنجيل ليُنبّههم, وقد تفرقوا, وقد عَلِم أنهم يتفرقون إلى مذاهب شتى, وكأنه يقول لهم: انظروا الأمة التي أباهي بها, انظروا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, كانوا جسدًا واحدًا.
لكن واقعنا الآن صار أصعب من واقع النصارى, واقعنا واقع شتات.. خصومات.. القواسم المشتركة بيننا خمسة وتسعون بالمئة, والخلافات الفكرية خمسة بالمئة, ومع ذلك تُسلّط الأضواء على الخمسة بالمئة حتى لا نتحد, خصومات سياسية.. خصومات مذهبية.. خصومات طائفية.. خصومات.. خصومات.. خصومات.. وإذا انتفى كل هذا, جاءت الخصومات الشخصية, شيخي فلان.. شيخك فلان.. جماعتي وجماعتك.. وجامعي وجامعك.. إنه واقع مقيت..
رحم الله العلامة محمد إقبال,عندما قال: تجمعنا ساحة الإخلاص.
في ساحة اسمها ساحة الإخلاص, كل مُخْلِص تجرّد عن الهوى, يأتي إلى هذه الساحة ويجتمع مع أهل الإيمان فيها, فإذا رأينا شتاتًا, ورأينا فرقة, ورأينا أن الدعاة إلى الله لا يوحدون صفوفهم, فهذا يُشكك في السِرّ الكبير الذي هو السِرّ المجمِّع, وهو سر الإخلاص, لأن المكاسب والمنافع والعلائق عندما تنتفي يحصل إخلاص, ما الذي يُفرّق بيني وبين أخي في الله, ما الذي يُفرّق بين من يدعو إلى الله ومن يدعو إلى الله, هذا يدعو إلى الله وهذا يدعو إلى الله في الظاهر, لماذا يتفرقون.. إذًا هناك عِلل.
{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح: 29]
هذه الأوصاف يا إخوتي لا نذكرها على وجه ذكر القصة, إنما نذكرها لتكون منهاجًا, نذكرها حتى نتبع بإحسان.
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج التطبيقي الواقعي الذي تربّى في أنظار سيد الكائنات الأسوة الأكمل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, ينبغي أن نستفيد من أوصافهم, وأن نجعلها نُصُب أعيننا.
وسوف أتحدّث عن الخلفاء الأربعة واحدًا واحدًا, حتى نعرف من هو أبو بكر, ومن هو عمر, ومن هو عثمان, ومن هو علي رضي الله عنهم, هؤلاء الذين هم صفوة الأصحاب, وأخص الخصوص من العشرة المبشرين بالجنة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بهم في الفردوس الأعلى.
|