الحديث الثاني من باب الأمر برد الأمانة
درس الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع العادلية بتاريخ:2/12/2009
وعن حُذيْفَة بنِ الْيمانِ رضي اللَّه عنه قال: حدثنا رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حَديثْين قَدْ رَأَيْتُ أَحدهُمَا وَأَنَا أَنْتظرُ الآخَرَ: حدَّثَنا أَنَّ الأَمَانَة نَزلتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرآنُ فَعلِموا مِنَ الْقُرْآن، وَعلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ حَدَّثنا عَنْ رَفْعِ الأَمانَةِ فَقال: (يَنَامُ الرَّجل النَّوْمةَ فَتُقبضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيظلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ ينامُ النَّوْمَةَ فَتُقبضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيظَلُّ أَثَرُهَا مِثْل أثرِ الْمَجْلِ، كجَمْرٍ دَحْرجْتَهُ عَلَى رِجْلكَ، فَنفطَ فتَراه مُنْتبرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيءٌ) ثُمَّ أَخذَ حَصَاةً فَدَحْرجَهَا عَلَى رِجْلِهِ، فَيُصْبحُ النَّاسُ يَتبايَعونَ، فَلا يَكادُ أَحَدٌ يُؤدِّي الأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ في بَنِي فَلانٍ رَجُلاً أَمِينًا، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجلِ: مَا أَجْلدهُ مَا أَظْرَفهُ، مَا أَعْقلَهُ، وَمَا في قلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلِ مِنْ إِيمانٍ, وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بايعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلمًا ليردُنَّهُ عَليَّ دِينُه، ولَئِنْ كَانَ نَصْرانيًا أَوْ يَهُوديًّا لَيُرُدنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيه، وأَمَّا الْيَوْمَ فَما كُنْتُ أُبايُعُ مِنْكمْ إِلاَّ فُلانًا وَفلانًا) متفقٌ عليه.
قوله: جَذْر: بفتح الجيم وإسكان الذال المعجمة وهو أصل الشيء. والوَكْت: بالتاء المثناة من فوق: الأثر اليسير. والمجل: بفتح الميم وإسكان الجيم وهو تنفخ في اليد ونحوها من أثر جمر وغيره، قوله: منتبرًا: مرتفعًا. قوله: ساعيه: الوالي عليه.
وعن حُذيْفَة بنِ الْيمانِ رضي اللَّه عنه قال: حدثنا رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، حَديثْين قَدْ رَأَيْتُ أَحدهُمَا وَأَنَا أَنْتظرُ الآخَرَ:
الحديث الأول الذي رآه سيدنا حذيفة نزول الأمانة في القلوب، وتلاها نزول القرآن، وتلاها نزول السنة.
لكن الذي لم يرَه حُذيفة الزمان الذي يأتي ويقال للرجل فيه ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبّة خردل، أو مثقال حبّة من خردل من إيمان.
قال: (حدَّثَنا أَنَّ الأَمَانَة نَزلتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ) أي في أعماق القلوب, وفي أصل القلوب وأساسها، قبل أن يبنى على هذا الأساس القرآن وما فيه من علم، فلهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة يناديه قومُه الصادق الأمين، فلما أراد الله سبحانه وتعالى مُجانسة أصحابه له أنزل في قلوبهم الأمانة، فأول شيء رقّى الجاهليين الذي لم يكن في قلوبهم رادع أو وازع إلى مقام الأمانة قبل العلوم وقبل الفهوم، وقبل الأحكام... أنزل في قلوبهم الأمانة.
وهذا يشبه ما ورد من أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تعلموا الإيمان قبل القرآن ثم قال لهم: "وأنتم تتعلمون القرآن قبل الإيمان" ذلك أن الأمانة والإيمان متلازمان, فإذا وجد الإيمان وجدت الأمانة، لأن الإيمان بوجود الله تبارك وتعالى ينتج رقابة الله تبارك وتعالى على الإنسان، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام في مكة لم يكُن يدعوهم إلى أحكام تشريعية، ولم يكن يتحدث بنكاح أو طلاق لكنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تحدث فيما أسميناه فيما مضى ثوابت الفضيلة، مثل بر الوالدين وصلة الأرحام والتوحيد، عبادة الله وحده، التوحيد أن يتوجه إلى الله وحده, ويُنتج هذا التوجه إلى الله وحده مكارم الأخلاق، فترى الابن لا يكون عاقًا لأبويه، ولا يكون قاطعًا لصلة الرحم، ولا يكون مؤذيًا للناس.
ثوابت الفضيلة التي تنتجها الأمانة والإيمان تغني الإنسان عن الرقابة المادية، عندما يؤمن الإنسان بوجود الله تبارك وتعالى مهيمنًا عزيزًا برًا رحيمًا متفضلاً, فإنه يستشعر رؤية الله تعالى له, فتغنيه رؤية الله تعالى له عن دقائق التشريعات في المرحلة الأولى, لأنه يجدُ في قلبه الرادع والزاجر عن أن يكون مصدر شرور للناس أو مصدرَ غِش أو مصدر أذى.
إذًا قال: (حدَّثَنا) يعني حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه (أَنَّ الأَمَانَة نَزلتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ نَزَلَ الْقُرآنُ) فلما نزل القرآن نزل والقلوب مؤمنة، خاطبهم الله سبحانه وتعالى بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقُولُوا}[البقرة:104] فأثبت لهم سبق الإيمان قبل سماع القرآن.
(ثُمَّ نَزَلَ الْقُرآنُ فَعلموا مِنَ الْقُرْآن، وَعلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ)
الوحي الذي أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نوعان، وحي أنزل معنًا ولفظًا, وهو القرآن، ووحي أنزل معنًا وعبّر عنه رسول الله بلسانه وهو السنة. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم/3، 4]
( ثُمَّ حَدَّثنا) أي عن الذي سيؤول إليه حال المسلمين الذي سيؤول إليه حال الأمة فيما بعد، (حَدَّثنا عَنْ رَفْعِ الأَمانَةِ) أنه يأتي على الناس زمان ترفع فيه الأمانة، ما تبقى إلا صورية الدين، لكن حقيقته التي هي الأمانة والإيمان مفقودة، لذلك يكثر الغدر ويكثر الغش، ويكثر الأذى, وهذا يتناقض مع حقيقة الإيمان, فتجد الإنسان ينسب نفسه إلى الإسلام لكن ليس عنده من حقيقته شيء.
ثُمَّ حَدَّثنا عَنْ رَفْعِ الأَمانَةِ فَقال: (يَنَامُ الرَّجل النَّوْمةَ فَتُقبضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيظلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ) وهذه قضية يحتاج فيها إلى فهم، فلماذا لا تقبض الأمانة وهو يقظان؟
تقبض الأمانة منه حين ينام النومة، هذه مسألة مهمة تقتضي معرفة الإنسان وأحواله وما عليه حاله البرزخية, فالنوم أو الموت متقاربان في المعنى، وما يكون عليه الإنسان حال حركته يسكن ويستقر ويتجمع ويتكثف ويتركز عند منتهى حركته أي مبتدى دخوله في البرزخ منامـًا كان أو موتًا إنما هو مرآة تتكثف فيها حاله، فلا ينبغي أن نفهم هذا الحديث على أن المولى ينتظر الإنسان حتى ينام ليسلب منه الأمانة، لا... لماذا نوصي ونقول اجعلوا ذكر الاسم الأعظم آخر يومكم؟ نم وأنت تذكر الاسم الأعظم، ما سر ذلك؟ لأنك عندما تنام يكون وقت نومك فهمًا، يكون وقت نومك توحيدًا، يكون وقت نومك حالاً مع الله، لكن إذا كان آخر يومك وخلاصته ما تجمّع في يومك من كدورات سلوكية, فما يكون منامك أو حالك البرزخي إلا مرآة، أي عملك وسلوكك ليس فيه أمانة، فيأتي هذا المنام ليثبتك فيما أنت فيه.
دعونا نتكلم بلغة الصناعة والبناء والمهن، الذي سيصب بلاستيك أو بيتون أو أي شيء كيف سيتجمد؟ سيبقى على ما هو عليه، مستويًا كان أو مائلًا.
وهكذا جعل الله سبحانه وتعالى النهار أو اليقظة للحركة السلوكية، أما الجفاف والاستقرار للقالب الذي اشتغل فيه فيكون بالنوم، فلذلك إذا كان يمضي يقظته في سلوك يتراوح بين الغش والمكر والغدر ينام فتستقر هذه الحالة، وعندما يستيقظ يستيقظ على الغدر.
عندما ينام على الإيمان يستيقظ على الإيمان، لماذا قال: (يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا)؟ لأن منام الإنسان هو ختم معنوي لحركته السلوكية، أي انتقل سلوكه إلى حال في قلبه.
وهكذا لما كثر في سلوكه، عدم المراقبة لله، لا يوجد حال بينه وبين مولاه, فلما نام النومة ثبت هذا الحال في قلبه, فلما استيقظ بني سلوكه على البواعث التي في قلبه وهي ضعيفة، فازداد مكرًا وغدرًا واحتيالاً وخداعًا وغش وكذبًا ثم نام على هذا الحال.
لماذا جاء في الحديث: (إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ) يعني قبل أن تنام، لا تنم حتى تتوب لأنك إذا نمت قبل أن تتوب تستيقظ على الحال الخبيث الذي نمت عليه, وهكذا قال: (يَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ) فأول ما يستيقظ يتوب وقبل أن ينام يتوب، حتى يكون في وقت تثبيت الأحوال البرزخي الروحاني على طهارة باطنة.
قال: (يَنَامُ الرَّجل النَّوْمةَ) وهنا ليس المقصود بالرجل, الرجال فقط, دائمًا في القرآن والسنة عندما يذكر الرجل: فالمقصود الرجل والمرأة، أي: من يمشي على رِجل، وهذا معروف في اللغة العربية.
{يَأْتُوكَ رِجَالاً} يعني يمشون، وهذا في نص القرآن، فيتضمن الذكر والأنثى، وإذا أراد القرآن أن يفرق قال: الذكر والأنثى، فلا يحتمل لفظ الذكر إلا الذكر، والأنثى إلا الأنثى، أما إذا قال: الرجل, فيحتمل الذكر والأنثى, أي: من يمشي على رجلين.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] أي يمشون أو راكبين، فمن الناس من يذهب إلى الحج راجلاً، ومنهم من يمشي على المركوب.
قال: (فَتُقبضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيظلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ) في شيء ما يزال منطبع لكن يسير (ثُمَّ ينامُ النَّوْمَةَ فَتُقبضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيظَلُّ أَثَرُهَا مِثْل أثرِ الْمَجْلِ) كما إذا كان رجل جديدًا على العمل وأصبح يمسك بيده الفأس والقدوم بكثرة, فيظهر على يديه اندفاعات تحتها شيء من السائل المصلي.
ثم أتى رسول الله بمثال: ( كجَمْرٍ دَحْرجْتَهُ عَلَى رِجْلكَ) وهذا فعلاً ما يحصل، إذا سقطت جمرة ومرت على الجلد مرورًا, لأنها إذا وقفت تعمل حروق، وتسبب أذى في الخلايا، لكن إذا تدحرجت الأثر الحراري يعمل هذا الشكل من الاندفاعات الجلدية ويخرج السائل المصلي (كجَمْرٍ دَحْرجْتَهُ عَلَى رِجْلكَ فَنفطَ فتَراه مُنْتبرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيءٌ) يعني ما فيه أذى، لم تحترق اليد، لم تحترق الرجل.
(ثُمَّ أَخذَ حَصَاةً فَدَحْرجَهَا عَلَى رِجْلِهِ) أي استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوسيلة الإيضاحية حتى يُشرك الحواس فيسمع الناس ويروا (فَيُصْبحُ النَّاسُ يَتبايَعونَ) يعني بعد رفع الأمانة (فَلا يَكادُ أَحَدٌ يُؤدِّي الأَمَانَةَ) لم يبق أحد يؤدي الأمانة، إذا ائتمنته على كلمة يفشيها، إذا ائتمنته على مال يضيعه، إذا ائتمنته على عهد يفرط فيه، إذا ائتمنته على علم لا يستعمله فيما أعطيه، إذا ائتمنته على حال يضيعه، هذه كلها أمانات {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ}[النساء:58] أمانات في الأقوال، أمانات في الأموال، أمانات في الأعمال، أمانات في الأحوال... كلها أمانات.
قال: (فَلا يَكادُ أَحَدٌ يُؤدِّي الأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ) أي بعد أن ترفع الأمانة إلا قليلاً (حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ في بَنِي فَلانٍ رَجُلاً أَمِينًا) يعني يصير الأمين نادرًا، يشار إليه بالبنان، الأصل كلهم كانوا أمناء الآن حفّاظ السنّة كثر، حفاظ القرآن كثر، والأمناء قليل.
(حَتَّى يُقَالَ لِلَّرجلِ: مَا أَجْلدهُ) يجد فيه همّة على العمل، جَلود، صابر على عمل شاق، (مَا أَجْلدهُ مَا أَظْرَفهُ) يحفظ أساليب التعامل جيدًا, لطيف في المجاملة والمؤانسة (مَا أَعْقلَهُ) يعني ينظِّر على الناس، ينبغي وينبغي... (وَمَا في قلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلِ مِنْ إِيمانٍ) إذا نظرت إليه يعجبك عقله، يعجبك جَلَده، يعجبك ظُرفه.
يقول حذيفة رضي الله عنه وهو أمين سر رسول الله (وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بايعْتُ) أعامل الناس وأنا غير مهتم، بعت من، من اشترى مني، من استقرض...(لَئِنْ كَانَ مُسْلمًا ليردُنَّهُ عَليَّ دِينُه) إذا كان الذي اشترى مني، أو اشتريت منه، أو بيني وبينه معاملة، سيؤدي الحق بسبب ما في قلبه من الإيمان، وما في قلبه من الأمانة، فهذا مرتبط بوصفه الأول لأنه كان ممن نزلت الأمانة في جذر قلبه قبل أن ينزل القرآن والسنة (ولَئِنْ كَانَ نَصْرانيًا أَوْ يَهُوديًّا لَيُرُدنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيه) وهذا فيه أدب عظيم، حيث لم يتحدث في أحوال أهل الكتاب، القرآن الكريم فصّل وقال: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}[آل عمران:75] فصل في نوعين من أهل الكتاب، منهم أمين، ومنهم خائن، لكن أدب الإسلام الذي منع المسلم من أن يكون له أي تدخل في أحوال أهل الكتاب أو شرائعهم، فلو أن مسلمـًا كسر كأس خمر في يد مسلم لا يأمره القاضي بتعويض ثمنها للمسلم، لكنه لو كسر كأس خمر لذمي أو كتابي يأمره القاضي بأن يعطيه ثمنها, لأن هذا الكأس في دينه مال متقوم, وقد اعتدى على ماله، لكنه لما كان في الإسلام لا يعتبر مالاً فلا يطالبه القاضي، فمنع الإسلام المسلم من الحُكم على أحوال أهل الكتاب، هل هو أمين أم خائن؟ ومنع المسلم من الاعتداء أو التدخل في شرائعهم، فما كان في شرائعهم فإن الإسلام يأمر كل مسلم أن يكون في حالة الابتعاد التام عنه لأنهم لهم حريتهم في شرائعهم، ومن اعتدى على حريتهم في شرائعهم فقد خالف الإسلام، فما كان جائزا لهم في شرائعهم لا دخل للمسلم به.
وهكذا وجدنا أدب سيدنا حذيفة، قال ما لي شغل في الحكم على الكتابي كان يتحدث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تحدث فيه عن نزول الأمانة في قلوب الأصحاب ثم نزول القرآن ثم نزول السنة، فلما التفت للحديث عن غير المسلمين، قال: أنا أتعامل مع ولي أمره، إذا كان بيني وبينه فالقاضي أو الحاكم هو الذي يرد إلي حقي, فلا شأن لي به إذ القاضي هو المسؤول عن أداء الحقوق.
قال: (وأَمَّا الْيَوْمَ) هذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ما كنت أبالي عندما أعامل أي شخص, قال: (وأَمَّا الْيَوْمَ) أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتغير الأحوال، وقدوم الدنيا واختلاط الغريب بالقريب، وتحول القلوب قال: (وأَمَّا الْيَوْمَ) لأنه كثر الذين لم يجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثر الذين دخلوا في الإسلام حديثًا.
قال: (وأَمَّا الْيَوْمَ فَما كُنْتُ أُبايُعُ مِنْكمْ إِلاَّ فُلانًا وَفلانًا) أي أثق ببعض الناس فأعامله.
هذا رجل أدرك رسول الله وعايش الجيل الأول ورأى البون الشاسع بين الجيل الأول ومن جاء بعده, فماذا نقول نحن؟
ونحن نعيش صورية الدين, ونراها قد غلبت على حقيقته، واقع الأمة الإسلامية لا يعبّر عن الإسلام، واقع من ينتمي إلى الإسلام لا يعبر عن الإسلام.
لو أردنا أن نصدق مع أنفسنا نجد أننا نقرأ القرآن, والذي في القرآن غير موجود في المسلمين، يقول الله في القرآن: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] أين العدالة في الأقوال؟ يقول: { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]أين الذين صدقوا الله؟
يقول: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة:165] فهل هذا هو حال المسلمين؟
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}[الأحزاب:23]
لو لمْ نخرج من هذه القاعة، لو تحدثنا عن الذين يجلسون، أتحدث عن نفسي وإخواني، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[الإسراء:24] فيأمر الولد أن يخفض جناح الذل لأبويه، أتمنى أن كل واحد منا بعد هذا المجلس يخرج ويسأل نفسه: هل أنا ممن يذِل لأبويه؟ فقط هذا ميزان بسيط، لن نقول: هل كنت أمينًا في معاملاتك البنكية والمرابحات والشركات والمضاربات...
نبدأ بكلمتين: وصى القرآن بالذل للأبوين، ووصى القرآن بالذل لأهل الإيمان {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[المائدة:54] إنه توظيف التواضع.
ثانياً: وصى القرآن بالجار {وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}[النساء:36]
هذه بدهيات، الناس يتسابقون في حفظ كتب الفقه الحنفي والشافعي والمالكي وهم محتاجون إلى مرحلة ما قبل التشريع.
يحسب الإنسان نفسه قد نجح عندما يحفظ كتابًا في الفقه، فيقول: أنا حفظت الكتاب المالكي الفلاني, والكتاب الحنفي الفلاني، والكتاب الشافعي الفلاني، وهو بحاجة إلى أخلاق ما قبل التشريع، التي منها ذلّه لأمه وأبيه ورحمته لجاره.
الآن لو أحصينا كم يوجد ممن يؤذي جاره لرأينا أن كلّ عمارة في مدينتنا الآن فيها على الأقل شخص يؤذي جيرانه.
إذًا قبل أن يتحدثوا عن فروع، قبل أن يتحدثوا عن تفصيلات، قبل أن يتحدثوا عن تشريعات نحن بحاجة إلى بدهيات وأبجديات، نحن اليوم نعاني من ضياع تربوي، وضياع اجتماعي.
ينبغي أن يدرب الشاب والطفل على الكلمة الحسنة، والله سبحانه يقول في القرآن: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة/83] وصف القول بالحُسن، لم يقل: وقولوا للناس قولاً حَسَنًا، هذا من التعبير العجيب القرآني قال: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} يعني الحُسن والجمال ينبغي أن يكون مختصرًا في قول، وهذا أبلغ، كما قال: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْق}[الزمر:33] وكما قال البوصيري: والصدق في الغار والصديق، فوصف رسول الله بالصدق لم يقل هو الصادق، قال هو الصدق. فالصدق في الغار والصديق وهذا أبلغ من أن تقول الصادق في الغار لأنك إذا بحثت عن الصدق فمظهر الصدق هو الذي في الغار صلى الله عليه وسلم.
والله سبحانه وتعالى يقول: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي إذا أراد الإنسان أن يبحث عن الحسن ينظر إلى أقوالكم، هل هذا هو الحال، إذا ذهبنا إلى الأسواق وسمعنا أقوال الناس فيها؟
إذًا نحن بحاجة إلى تدريب، الإنسان يجب أن يسأل نفسه إذا كان يرى أحواله سيئة لماذا؟ هذه الأحوال لها أسباب: قوله قبيح، فعله قبيح، سلوكه قبيح... فكيف يكون حاله حسن؟
الأمر متكامل، الحُسن متناغم، لذلك جاء في الحديث: (المؤمن آلف مألوف) هذا يعني أن كلّ الخلق بسبب الحسن في الأقوال والأفعال والأحوال يألفونه، وأنا قلت مرارًا وتكرارًا توظيف الوصف: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29] لا يكون إلا في الحرب.
لكون القرآن فصل في الإحسان إلى الكافر عندما قال سبحانه وتعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8]. فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمن بالإحسان إلى المخالف وبره، وهذا نص.
إذًا { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} ليس لها في ديننا توظيف إلا في ساحة المعركة، حين يأتي عدو يريد أن يغتصب أرضك وعرضك، طبعًا لن تقول له: تفضل وخذ أرضي وإلا ففي هذا الموطن يقول الشافعي: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، لأن القطة تغضب لصغارها.
ولذلك هذا التوظيف له محلّه، وتوظيف الشيء في محله خير، لكن عندما ترجع إلى ما في القرآن من توجيه تجد الحسن في الأقوال، وتجد الحسن في الأفعال، وأحسن كما أحسن الله إليك، يعني في الأفعال، ففي الأقوال قال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} في الأفعال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[القصص/77] في الأحوال:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}[الأحقاف/15] وهذا البر من الأحوال.
إذًا حتى ينتهض حال الإنسان لابد له من متابعة، لابد له من اجتماع الجنس إلى الجنس، لابد من أن يواظب على صحبة المجانس، لأنه حين يقصر في صحبة المجانس، فإن الجنس الآخر المخالف يغلب طبعه عليه، فإذا لم يصحب إلا أبناء الدنيا يصير دنيويًا، لكنه عندما يجلس كما جلس الأصحاب, وكانوا يقولون: تعالوا بنا نؤمن ساعة، أي تعالوا بنا حتى نغير المقصد، حتى نغير الوجهة.
نحن دائمًا نشتغل بالأشياء, فإذا لم يكن للإنسان تطييب في الحال, وإذا لم يكن للإنسان متابعة ووزن وحساب قبل الوزن والحساب يوم القيامة، وتدقيق قبل التدقيق عليه يوم القيامة، فإنه مُعرَّض للخطر "تشرع في نفسك" يعني دقق على نفسك، "وتحقق في أبناء جنسك" يعني انظر إليهم بعين الحقيقة.
نصيحة: قد سمعت مرارًا وتكرارًا تدقيق بعضهم على بعض، وهذا سببه الوسواس، دقق على نفسك، وانظر إلى إخوانك على أنهم خير الناس، فإنهم بصدق تدقيقك على نفسك يصدقون، هذا التغيير بالحال، إذا رأيت أخًا يذم إخوانه لعيوبهم, فاعلم أنه خزينة عيوب، وإذا رأيت الأخ مشغولاً بعيبه, فافهم أن فيه سرًا عظيمًا، وأن هذا السر سوف يسري إلى إخوانه، مَن رأيته يدقق على نفسه فهذا فيه خير، ومن رأيته يدقق على إخوانه فهو وسواسي وهو أداة للشيطان، فإياكم أن تجعلوا الشيطان وليكم.
وربما يدخل الشيطان على الإنسان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أول أمرٍ بالمعروف وجهه إلى نفسك، أول نصح وجهه إلى نفسك، ماذا يستفيد الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟
فلذلك هذه كلها من القضايا الدقيقة، لأنه إذا اختلطت الأمور ببعضها عند ذلك لا نجد إلا النفوس، ونجد الإنسان فاسدًا، ومع كونه فاسدًا, فإن لسانه متسلط على إخوانه، لم يكتفي أنه فاسد، بل سلط لسانه على إخوانه، ولو كان ذا عقل وفهم وفطنة، لكان وجه لومه إلى نفسه، لاتهم نفسه، ولام نفسه وعاد بقلبه إلى الله، ودعا لإخوانه في ظهر الغيب، هذه هي وسائل أهل الله وهذا هو طريقهم.
|