قال الله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3] وقال تعالى إخبارًا عن شعيب صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88].
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} والبر اسم جامع لكل فعل يتقرب به إلى الله تعالى، هذا حين نتحدث عن البر في الأفعال، وهناك البر في الأقوال، وهناك البر في الأحوال، فقد تبرُّ بقولك {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}[الإسراء:23] هذا من الأقوال، لكن هو من بر الأقوال {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء:23] هذا نهي يندرج في بر الأقوال.
بر الأفعال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان:15] أي: افعل أفعالاً تكرم بها والديك، هذا من بر الأفعال.
وهناك بر الأحوال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}[الإسراء:24] هنا لا يوجد قول ولا فعل، هذا بر الأحوال.
فهذا مثال من بر الوالدين، إذ فيه بر بالأقوال، والأفعال، والأحوال، لكن هذا لا يقف عند الوالدين، مفهوم البر مفهوم عام، على كل سلامة صدقة، في كل كبد رطبة صدقة، فكلما اتسع ذوق الموحّد اتسع مفهوم برِّه، فيتسع بره بالأقوال، ويتسع بره بالأفعال، ويتسع بره بالأحوال حتى يسع العالم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107] وهذا من التخلق بأخلاق: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5]
ربما أَمَر الإنسان ببرٍ قولي أو ببر فعلي، أو ببر في الأحوال، لكنه غاب عن المنتفع الأول من هذا الكلام الذي ينبغي أن ينتفع به وهو نفسه، فينبغي كلما أمر أمرًا أن يُخرج نفسه ليجعلها المخاطب الأول.
متى يسمع الناس لك، ومتى لا يسمعون؟
حينما يكون المخاطِبُ للناس نفسك لا يسمعوك، وحينما تكون نفسك المخاطب، إذًا صارت نفسك معهم، وضعت نفسك معهم فهي تسمع وهم يسمعون، عند ذلك لا تكون نفسك هي المتكلمة إنما تكون في هذا نائبًا عن الحق.
أما الإشارة اللطيفة في قوله: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} فهذا مندرج في سر: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] لأن الحق تبارك وتعالى أقرب إليك من نفسك ولولا الحق لما ظهرت نفسك فبالحق ظهرت نفسك {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] وهكذا تغيب عن الاعتبار الأول وهو النفس.
وبه تفنى فتحيا .....فترى الكون اعتبارا
وكذلك ترى النفس اعتبارا.
{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} وفارق كبير بين تقرؤون وبين تتلون، فالتلاوة تكون باللسان والقراءة بالقلب {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ} [النحل:98] {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}[آل عمران:164] {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}[العنكبوت:49] فإذا أردتم الانتقال من التلاوة إلى القراءة فعليكم أن تكسروا أقفال قلوبكم {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فإذا تكسرت الأقفال عند ذلك تشرق شمس القرآن على قلبك, فتشهد الحقائق في كلام الله.
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} والتعقل محلّه في القلب، يعني فلتتعقلوا بقلوبكم بعد تكسير الأقفال ولتتدبروا حتى لا يكون حظكم من الكتاب التلاوة فقط.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}.
أول دلالة في الآية يوجِّه الله سبحانه وتعالى إلى الصدق الذي يتحقق عندما يطابق القول الخبر، والخبر نوعان: قولي وفعلي: فإذا طابق القول الخبر الفعلي صار صادقًا، فيوجه الله سبحانه وتعالى أولاً إلى الصدق.
الأمر الثاني:{لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} تكثرون من الحديث عن نهضة الأمة لكن أنتم رمز التخلف، تكثرون من الحديث عن إتقان العمل وأنتم مظهر الفشل والإهمال، تتحدثون عن التآخي في الله وأنتم رمز الحقد والعدواة والبغضاء، تتحدثون عن الإيثار وأنتم مظهر الأنانية، تتحدثون عن العلم وأنتم مظهر الجهل،....إذًا أول دلالة نستفيد منها: الصدق: وهو المطابقة بين الخبر والفعل.
الأمر الثاني: أن لا يكون الإنسان مكثرًا مما يسمى في الأوقات المعاصرة بالتنظير، لكن ما عنده من التطبيق شيء.
أما الدلالة الثالثة الخفية اللطيفة التي يقرؤها المستغرق في التوحيد: فهي إسناد الفعل إلى الله تبارك وتعالى وحده، فلا فعلك ولا قولك، ولا حركتك ولا سكناتك ولا شيء فيك إلا وهو من فعل الله، فهو فاعل فعلك، وفاعل قولك، وفاعل خطرات قلبك {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] وهذا يؤخذ منه إسقاط الدعاوي.
لا تقل فعلت، إنما قل كما قال شعيب الذي سيأتي قوله بعد قليل: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ} [هود:88] فإن أسندت المعصية إلى نفسك فهو من باب الأدب، لكن في معرفة التوحيد تلاحظ بسرك أن هذا من الخذلان فتخاف، انتبهوا إذا تعامل الإنسان مع المعصية على أنه: لا حول لي، هل أنا الذي خلقت الطاعة، هل أنا الذي خلقت المعصية...؟ فهذا ممكور به، إذا رأيت الطاعة فاحمد الله وإذا رأيت المعصية فليفهم قلبك أن هذا خذلان لك، لأن خلق المعصية خذلان،أي أنت مخذول، حين تقع في المعصية أنت مخذول، أما تخاف؟
إذًا انطرح في أعتاب الله وقل له: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك.
سُئلت كيف يتحقق الإنسان بالاستقامة والعبودية لله تبارك وتعالى؟
فورد على قلبي: أن الإنسان يتحقق بالاستقامة والعبودية لله تبارك وتعالى بأن يفر من المظاهر الجهنمية إلى المظاهر الجنانية, وإلا كيف يقول (أعوذ بك منك) يعني: أفر من المظاهر الجهنمية إلى المظاهر الجنانية، أي شيء تراه مظهر جهنمي اهرب منه، هذه هي الاستقامة، هذه هي العبودية، الحقيقة ممدة لكل شيء، فمعنى الاستقامة أن تفر من المظهر الجهنمي إلى المظهر الجناني، فإذا هربت من المظاهر الجهنمية إلى المظاهر الجنانية عند ذلك تكون عائذًا به منه.
"وليس تنال الذات إلا بمظهر"
إذًا انسف الدعاوي وتبرأ من حولك وقوتك.
{ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وما قال إلى ما آمركم، لأن النهي لا مسامحة فيه (مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَدَعُوهُ أَوْ ذَرُوهُ) قد آمرك بشيء لتفعله ولا أفعله لأنه من غير اختصاصي، نقول لك اعمل في المعلوماتية هذا شيء جيد، لأن المؤمنين كالجسد, فالقلب يعمل غير عمل الكبد، والكبد يعمل غير عمل الرئة، لكن الكل القلب والكبد والرئة يمتنعون عن السموم، فإذا دخل السم يتأذى الكبد والقلب والرئة، والدماغ والجسم كله يتأذى.
إذًا تكامُل الأفعال جيد، كأن يعمل هذا بالقرآن, وهذا بالفقه، وهذا بالنحو، ....وكل واحد له عمله، أما المنهيات فيجب على الكل أن لا يقتربوا منها, فاجتماع فيه مخالفات شرعية لا توفيق فيه، ولا يمكن أن يرى فيه نور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباب التوفيق هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لذلك شرط الدخول في التصوف هو التوبة ، وهي البوابة التي تدخل منها إلى التصوف.
فالمخالفات التي حرمها الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يتنبه الإنسان إليها في أقواله وأفعاله، وأحواله، (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها سبعين خريفا في النار) (هل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)
في الأفعال انتبه إلى معاملاتك، لا تُدخل على جسدك من المحرم شيء، ابتعد عن الحدود لا تقع في الحدود التي حرمها الله.
في الأحوال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65] التسليم لكتاب الله وسنة رسول، فإذا رأيت شيئًا في كتاب الله أو سنة رسوله، ثم امتعض قلبك أو نفسك فقد حبط عملك، ولا قيمة لأقوالك ولا لأفعالك {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] أي شيء أحبه الله إذا كنت من أهل الإيمان تحبه، أي شيء كرهه الله إذا كنت من أهل الإيمان تكرهه، فإذا كرهت شيئًا أحبه الله فافهم أنك مخذول، وإذا أحببت شيئًا كرهه الله فافهم أنك مخذول، لذلك سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام نبه قومه: هل رأيتموني نهيتكم عن المنهيات ثم رأيتموني أقع فيها. هذا دليل على عصمة الرسل عليهم الصلاة والسلام وللأمة الحفظ، للرسل العصمة وللأمة الحفظ، للخاصة الذين اختصهم الحق سبحانه وتعالى الحفظ, فيُحفظون من الوقوع في الحدود.
|