عالمية الرسالة الخاتمة
درس الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع أبي حنيفة بتاريخ 13/11/2009
يقول الله تبارك وتعالى مخاطبًا حبيبه سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ}[سبأ:28].
فلم يستثني ربنا تبارك وتعالى من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا من الخلق الذين كلّفهم، فالذي يسكن في الشرق أو يسكن في الغرب أو يسكن في الشمال، أو يسكن في الجنوب مكلف برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
الذين يسكنون في قارة أمريكا، أو يسكنون في قارة أوقيانوسيا، أو يسكنون في قارة إفريقيا، أو يسكنون في قارة آسيا، أو يسكنون في قارة أوربا، أو يسكنون في المدن الكبرى أو يسكنون في الأرياف والمدن الصغيرة...كلهم يكلفهم الله سبحانه وتعالى بقراءة القرآن الذي جاء به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من الله تعالى، وبدرايته وتدبره وفهمه حتى يبلغهم النور.
المولى سبحانه وتعالى كان يرسل فيما مضى لكل قوم رسولاً، وكان يرسله بلسان قومه، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يرسل سيدنا محمدًا إلى كل البشر على الكرة الأرضية، سواء كانوا في البر أو في البحر، على القمر أو على المريخ أو على الأرض، لأن العلماء الآن بدؤوا يفكرون في إنشاء مستعمرات فضائية، فهل ينقطع عنهم التكليف إذا سكنوا في المريخ أو في الزهرة؟ هل ينقطع عنهم التكليف لو سكنوا في مناطق مزودة بالهواء والماء في القمر؟
لو أصبحت الرحلة إلى القمر مثل الرحلة إلى بلد أوربي أو أمريكي، وهذا أمر جائز ممكن، يبقى التكليف كما هو.
من كان يتصور أن الإنسان يستطيع أن يقطع المحيطات في ساعات؟
كان الإنسان يتجول بين البلدان إما ماشيًا على قدميه وإما على الجمال، أو على الخيل، أو عل البغال، وقد قرأنا في سير الصالحين عن كثير من أعيان حلب من كان يخرج من حلب إلى مكّة ماشيًا على قدميه، هذا كان منه الشيء الكثير، اليوم المولى سبحانه وتعالى يسَّر الأمر، فصار الإنسان يخرج من بلاد الشام بعد ساعتين يكون قريب من مكة.
إذًا عندما نتحدث بهذا المنطق, فليس لأننا نتحدث عن شيء من صناعة الخيال، لا هذا كله ممكن.
بعض الذين بلغهم أن الإنسان وصل إلى القمر قالوا له: يقولون إنهم ذهبوا إلى القمر، قال: لا هذا من نور الله، هذا لا يمكن أن يصل إليه أحد، فلما سئل العارفون وأهل الخبرة وكان ممن سئل الشيخ الهاشمي التلمساني أستاذ أستاذنا, فقال ببساطة: هذا جائز في حقه تعالى، أي: ممكن أن يفعل المولى سبحانه وتعالى ذلك، لأن فعل الإنسان من خلق الله {لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ}[الرحمن/33]
لماذا نستغرب، الإنسان هو أكرم مخلوق على الله، ما خلق الله سبحانه وتعالى مخلوقًا أكرم من الإنسان، في زمن هارون الرشيد أقسم هارون الرشيد مرة من المرات وهو يجلس إلى جانب زبيدة, وكانت تملك من الجمال والمؤانسة ما لا يملكه غيرها، فحلف بالطلاق أنها أجمل من القمر،أي إن كان القمر أجمل منها فهي طالق، ثم بعد ذلك ندم لعله في هذا طلقها، فذهب يستفتي العلماء، ويقول: أنا تورطت وحلفت بالطلاق أنها أجمل من القمر، لعل القمر أجمل منها, وعند ذلك تكون طالقه، فقال له أحد أهل العلم والفهم: لا هي على ذمتك ولا يقع الطلاق، قال: من أين أتيت بهذا الجواب؟ قال: من القرآن، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين/4] فالإنسان أجمل من القمر، أجمل من السماء، وأجمل من الأرض.
إذًا رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة إلى كل المكلفين من الإنس والجن, وقد جمع سبحانه وتعالى كمالات الرسالات كلها بكمال الإسلام، وجمع كمالات الرسل عليهم الصلاة والسلام كلها في سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
ولذلك قال صاحب جوهرة التوحيد رحمه الله.
وَخُصَّ خَيْرُ الخَلْقِ أَنْ قَدْ تَمَّمَا بِـهِ الجَمِـيـــــــــعَ رَبُّـــــــــــنَـا وَعَمَّـــــــمَـا
بِعْثَتُـهُ فَشـــــــــــــــرْعُـهُ لاَ يُنْـسَــــــــــخُ بِغَيْـــرهِ حَتَّـى الـزَّمَــــانُ يُنْـسَـــــــــــخُ
وَنَسْـــــــخُهُ لِشَـــــرْعِ غَـــيْـرهِ وَقَــــعْ حَـتـْمًـا أَذَلَّ اللهُ مَـــــنْ لَــهُ مَــــنَـــــعْ
وَخُصَّ: أي من خصوصيات محمد عليه الصلاة والسلام.
.....خَيْرُ الخَلْقِ أَنْ قَدْ تَمَّمَا بِـهِ الجَمِـيـــــــــعَ رَبُّـــــــــــنَـا وَعَمَّـــــــمَـا
أي تمم ربنا به جميع الرسل والأنبياء ، وقال: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[الأحزاب:40]
ولما كان كل رسول من النبيين، إذًا هوخاتم الرسل، لأنه لا يمكن أن يكون الرسول إلا نبيًا، فلما قال:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وقال في موضع آخر: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح/29] فهمنا أنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وَخُصَّ خَيْرُ الخَلْقِ أَنْ قَدْ تَمَّمَا بِـهِ الجَمِـيـــــــــعَ رَبُّـــــــــــنَـا وَعَمَّـــــــمَـا
بعثته .... .....
أي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامّة للجميع لا يستثنى منها أحد, الجميع قد أرسل إليهم سيدنا محمد وعلى الجميع أن يفهموا رسالة سيدنا محمد وأن يسمعوا لرسالة سيدنا محمد وأن يقرؤوا رسالة سيدنا محمد ثم هم بعد ذلك أحرار { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]
نحن عندما نقول: إن الذي لا يدخل في الإسلام يبقى كافرًا، فنحن لا نصدِّر العداء، وقد قلت في مؤتمر في دمشق كان يحضره المطارنة، وكان يحضره أناس من مختلف الأديان والبلدان، قلت: يا جماعة, انتبهوا, فمسألة كفر أو لم يكفر مسألة عقدية لا علاقة لها بالسلوك، فعندما تقول هذا مؤمن، أو هذا كافر هذا ينبثق من اعتقاد، وإذا لم ينبثق من اعتقاد فاعتقادك فاسد، وأما سلوكك فأنت قد تتزوج الكافرة، إذا كانت من أهل الكتاب لك أن تتزوجها، والكتابي يمكن أن يكون شريكًا في التجارة، وشريكًا في الصناعة، وشريكًا في السياسة، ولو قرأتم الأحكام السلطانية الإسلامية تجدون أن الأحكام الإسلامية تبيح الاشتراك في الحكم السياسي للكتابيين.
هذه أحكام فقهنا.
إذًا قولك: كفر لا يمنعك أن تكون أكيله، وشريبه، وجليسه، وبينك وبينه من المعاملات الكثيرة، وتشترك معه في بناء الوطن، وتشترك معه في بناء الأمة، وتصنع التاريخ والحضارة، يوم القيامة ربي سبحانه وتعالى هو الذي يحاسبه، قل له: أنا أريدك أن تدخل تحت لواء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لأن موسى وعيسى تحت لواء سيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام، حتى لقد رأيت من العجب أن بعض الأولياء قد رأى عناد بعض الكتابيين فدلهم على ورد لطيف، رأيت هذا من الدخول الروحاني إلى قلوب الآخرين، قال له: أما تحب موسى، إذ كان يهوديًا، وتعتقد أن الله واحد؟ إذاً قل: لا إله إلا الله موسى كليم الله، وكررها فإن موسى سيدلك إلى شيء خير، يعني سيدلك على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، لأن سيدنا موسى تحت لواء سيدنا محمد، فإذا صدقت في التوجه إلى موسى، موسى سيأخذ بيدك, روحانيته ستأخذك إلى روحانية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، هذا دخول من طريق روحاني وليس من طريق عقلي.
وكذلك من تعلق بعيسى قل له: ألا تعتقد أن الله واحد؟ لأنه حتى القائلون بالتثليث يقولون: واحد، لكن هم يؤمنون بالتركيب، فهم لا يمانعون أن يكون الله واحدًا، فإن كنت تقول إنه واحد: قل لا إله إلا الله عيسى روح الله, روح الله: معناها الروح الشريفة التي خلقها الله، الكريمة المكرمة، فإن روحانية عيسى ستقودك إلى خير، وقد اهتدى كثير منهم من هذا الطريق الروحاني لا من الطريق العقلي.
المولى سبحانه وتعالى عمم بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: { وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم:52] فهو صلى الله عليه وسلم بما جاء به من البينات بالوحي القرآني وبوحي السنة هدايةٌ للعالمين، ولم يقل هداية للعرب.
إذًا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، وجاء في الحديث: (بعثت إلى الناس كافة).
وقال:
وَنَسْـــــــخُهُ لِشَـرْعِ غَيْـرهِ وَقَـعْ
أي عندما جاءت شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم نسخت الشرائع، لأن الله سبحانه وتعالى عنده دين واحد، في كل زمان اسم هذا الدين الإسلام، دين إبراهيم اسمه الإسلام، ودين موسى اسمه الإسلام، ودين عيسى اسمه الإسلام، ودين محمد عليه الصلاة والسلام اسمه الإسلام.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عمران:85] فالنسخة التي وصلت في كل زمان من الله إلى البشرية اسمها الإسلام، وآخر نسخة ليس عليها تعديل عندما نزل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] هي نسخة الإسلام الأخيرة التي نزلت على قلب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهذه النسخة التي لا تعديل فيها، وكانت هذه النسخة الأخيرة لها من القابلية والمرونة ما ليس لغيرها، فهي شريعة مرنة تعطي القواعد العامة القابلة للتطبيق وللتطور مع تبدل الأزمان، حيث تتبدل الأحكام مع تبدل الأزمان ماعدا الثوابت فالعقائد ثابتة لا تتغير، وهناك من التشريع ما هو ثابت لا يقبل التغيير، فالصلوات خمسة، ومقدار الزكاة ثابت، والمحرمات التي نص عليها القرآن والتي لا مجال للعقل أن يتدخل فيها، مثل تحريم الخمر، وتحريم أكل لحم الخنزير إلى آخر ما هنالك من الأحكام القليلة، ما عدا ذلك هناك قواعد عامة.
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} فكل شيء يتنافى مع العدل يرفضه الإسلام.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} فكل شيء يكون من قبيل الأذى يمنعه الإسلام.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} فكل شيء يقود إلى أن تكون مزعجًا وقاطعًا لرحمك وقريبك فإن الإسلام يمنعه.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] هذه قواعد.
وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا ما هو حكم ثابت، يعني افعل ولا تفعل، إنما هو قاعدة، فكل شيء يضر بالبشرية فهو منهي عنه.
زارني وفد من أكادميين إيطاليين قبل يومين ودار بيننا حوار، فقلت لهم بعد أن سألوني: هل يتحدث الإسلام في منع الارتفاع الحراري الذي يتحدث العالم به مثلاً، يعني هل تحدث الإسلام عن ضرورة المحافظة على البيئة، هل تحدث الإسلام عن خطورة الارتفاع الحراري؟
هكذا سألوني هذه الأسئلة: فقلت لهم إن الإسلام قد أوجد مع قليل الأحكام الثابتة قواعد للإنسانية تسير عليها عندما قال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:78] هناك توازن كوني، توازن حيوي، توازن حراري، توازن مناخي، توازن بيئي... إذًا عندما تكسر هذا التوازن، فإنك بهذا ترتكب منهيًا عنه، لأنك خالفت أمر الله {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) فإذا قال المختبر: إن هذا الشيء مضر يقول: الإسلام: (لا ضرر ولا ضرار) إذًا دخل في المنهيات.
أنت لم تقرأ في القرآن عن التلوث البيئي بالبترول، لكن قال: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}[الروم:41] فأعطى الله كلمة عامة، وقال يمكن ليد الإنسان أن تدخل الفساد إلى البحر، فهذا الفساد ليس فقط بالتلوث البترولي، يجوز أن يكون تلوث شعاعي، يجوز يكون تلوثات لم نسمع بها، تخرج بها الجامعات والمختبرات القادمة، لأن الإنسان في بحوثه إذا كان يقصد الخير ينتج الخير ويمكن له أن ينتج الشر.
من المحرمات دوليًا في الحروب أن يستعمل الإنسان الغازات السامة، أن يستعمل مواد كيميائية مضرة، أن يستعمل الإشعاع النووي في الحرب، هذه محرمات لكن هم يستعملونها، هناك حرب جرثومية، يأتي بجراثيم ويعمل لها تكاثر في المختبر وينشرها بين الناس، لا تفرق بين بريء أو معتدي، لا تفرق بين طفل أو امرأة أو جندي، هذه كلها من المحرمات..
إذًا الإسلام عندما جاء بشريعة مرنة متطورة قدّم القواعد، هذه القواعد التي قدمها الإسلام إنّ نحن فهمناها وإنّ نحن عرفنا تطبيقاتها السلوكية سيكون مجتمعنا بعيدًا عن الارتفاع الحراري وبعيدًا عن تلويث البيئة، وبعيدًا عن تلويث البحر، وبعيدًا عن قتل الأسماك والثروة الحيوانية المائية، وسيكون بعيدًا عن تلويث البيئة البرية..... إلى آخر ما هنالك.
إذًا الإسلام وضع القواعد حتى إن الشيخ المرحوم مصطفى الزرقا رحمة الله عليه قد كتب في عام 1935 وثيقة وأرسلها إلى محكمة لاهاي الدولية لأن هناك نص عندهم: عندما يبحث القاضي في مسألة ما عن نص قانوني فلا يجد نصًا في المسألة التي أمامه يعدل إلى مفهوم العدالة العام.
من أين سيأتي بمفهوم العدالة العام، حار الماديون أمام هذا النص الوضعي، على القاضي أن يرجع إلى مفهومات العدالة، فأرسل الشيخ مصطفى الزرقا رحمة الله قواعد الفقة الإسلامي إلى محكمة لاهاي, وفوجئ القضاة في محكمة لاهاي أن الإسلام يملك مثل هذه الثروة الأصولية القانونية المولده للفرعيات، فنصت محكمة لاهاي على أن الشريعة الإسلامية مصدر ثري للعدالة يجب أن يرجع إليه القاضي عندما لا يجد نصًا قانونيًا في المسألة التي أمامه.
اليوم محكمة لاهاي أصحبت ألعوبة في أيدي أعداءنا, وفي نصوصها اعتراف بأن الشريعة الإسلامية مصدر ثري للعدالة.
نحن مع الأسف عندنا كنز كبير لكننا نزهد به، عندنا كنز عظيم هو الإسلام لكننا نزهد به، نحن أمة عاشت مدة طويلة وهي تقدس قانون الإسلام، وهي تعظم قانون الشريعة، لكن في الوقت الذي بدأ فيه سلاطين الأمة بتقليد الغرب بدأ الضعف، وقد اجتمعت مع بعض الباحثين والمفكرين في تركيا, وقالوا: تستطيع أن تؤرخ بدء الانحدار الحضاري ببدء تقليد القصور العثمانية للقصور الغربية، في الوقت الذي بدأت فيه قصور فيرساي تنتقل إلى النمط العثماني، وزال النمط الإسلامي، اذهب إلى استانبول و زر متحف "توب كبي" وبعد ذلك زر قصر"دولما باشا" وانظر الفارق بين النموذج الإسلامي والنموذج الغربي، بدأ الضعف منذ بدأ التقليد للغرب، لأن الأضعف يقلد الأقوى دائمًا، عند ذلك تستطيع أن تؤرخ بدء الانحدار الحضاري بتاريخ بدء تحول النمط العمراني إلى النمط الغربي، تستطيع أن تعرف أن الدولة الإسلامية وأن الخلافة بدأت في الانحسار والانحدار.
وقال لي هؤلاء الأكادميون ماذا تنصحنا؟ ماالذي تريدنا أن نرجع به؟ ألا توجهنا إلى شيء, ونحن نحمل رسالة المعرفة المفتوحة؟ قلت لهم: اقرؤوا بإمعان وليقرأ الغربيون بإمعان كتابكم المقدس والقرآن.
اقرؤوا لأن الغرب قد أعرض عن كتابه قبل أن يعرض عن سماع القرآن، وقراءة الغرب لكتابهم تمهد لقراءتهم للقرآن, عندما يقبل الإنسان الإيمان بالله، ويقبل فكرة الأخلاق، ثم يقرأ القرآن, فإنه سيجد أن القرآن مرحلة أخيرة، أي أنه عندما يقرأ كتابه يكون في درجة من درجات السُّلم.
قلت لهم أنتم وُجدتم في مرحلة من المراحل حدثت فيها مشكلة بين مختبراتكم ومعابدكم، وبقيتم عليها, أنتم تقرؤون في الإنجيل إذا ضربك شخص على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر, لكن أنتم الآن تضربوننا بالكفوف كف وراء كف وبطائرات تحمل المتفجرات، أين الإنجيل عندكم، لم يعد له وجود عندكم.
لذلك أنتم ابتعدتم عن قيمكم، وقيمكم ممهدة لقيمنا، يعني مثل التلميذ الذي يجب أن يدرس الشهادات الابتدائية قبل أن يدرس الشهادة الإعدادية والثانوية، فأنتم الآن بحاجة لقراءة كتابكم لأن المشكلة القديمة التي حصلت عندكم، حصلت وانتهت، في يوم من الأيام حصل صراع بين معابدكم ومختبراتكم، لكن ردة الفعل التي حصلت عندكم قادتكم إلى تطرف مادي، وقلت: مع الأسف إن التدين اليوم في الغرب يعني اليمين المتطرف، أما التدين عندنا فإنه يعني الوسطية، لا يعني التدين في الإسلام أن يتحول الإنسان إلى يمين متطرف، إنما يعني: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143] فتدين الشباب والكهول والأساتذة والقضاة والمثقفين يعني بناء حضارة في مفهوماتنا.
ضربت لهم مثالاً, قلت: تركيا جربت اتجاهات يسارية ورأسمالية وتعاقبت عليها هذه الأنظمة, وكلهم كانوا كذابين ويرتشون، ويسرقون... وهكذا الاقتصاد التركي كان يسير نحو الانحدار حتى أصبحت تركيا على شفا حفرة من الخطر والدمار والخراب، فلما جاء أشخاص يخافون الله يؤمنون بالله، لم يعد هناك سرقات، لم يعد هناك غش، نسبة السرقات أصبحت قليلة، من الممكن أن يقول شخص ما: لقد أمسكو واحد من حزب العدالة والتنمية وهو يسرق، نقول له: لكن ليسوا جميعهم، من حيث الأغلب لا توجد سرقة، فالذي حصل أن التضخم زال، والاقتصاد رجع.
زوجة رئيس وزراء تتحجب أي أنها تقول: أنا أحب الإسلام، ما معنى الحجاب؟
الحجاب هو إعلان عبودية ليس أكثر، كأنها تقول أنا مندرجة في العبودية لله، هو إعلان انتماء.
إذًا هذا يدل على أن الإنسان عندما تكون في قلبه حقيقة الإيمان بالله سوف يرتقي حضاريًا, لذلك عندما نتدين سوف تزول بسبب التدين عندنا ظواهر التخلف وسوف نرقى حضاريًا.
اليوم جاء أحد أساتذتي الذين درَّسوني في الجامعة، وقال: نريد أن نقوم بندوة كبيرة لمحاربة المخدرات, ونريد أن تشترك فيها، قلت: سبحان الله, ثم حدثني عن المحاور، محور سيحكي في الطب النفسي، وآخر سيحكي في الطب العصبي، وواحد سيحكي في القانون الأمني... ويريدون شخص يتحدث بالمنطق الديني الروحي، سبحان الله، لأنها مشكلة، وبدون الدين لا يوجد حل.
إذًا نحن التدين عندنا هو حل، التدين عندنا ليس يمين متطرف، التدين مع الأسف الآن يفهم في الغرب على أنه تعصب، وتدمير, وتخريب... لكن عندنا التدين هو بناء حضارة، وارتقاء، ونهضة.... هذا هو الإسلام، وهذه هي الشريعة الخاتمة التي جاء بها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
لذلك عندما نقول:
وَنَسْـــــــخُهُ لِشَـرْعِ غَيْـرهِ وَقَـعْ ........ .........
أي أن الإسلام نسخ ماقبله من الشرائع بأحكامه التي خفت على العالم وهي أحكام يسيرة ليس فيها شدّة.
الحاخامات الذين ظهروا في فلسطين المحتلة كتبوا كتاب عن جواز قتل الأطفال الرضع, هذا لا يسمح به في الإسلام، وقد التقيت أحد الأشخاص المتمكنين جدًا في ثقافة الكتاب المقدس, فقال: قد أخذوا هذا من نصوص التوراة، وقد يكون هذا من الكتابات الكثيرة التي أضيفت.
إذًا عندما جاء الإسلام المحفوظ الذي يمنع قطع الشجرة، الذي يمنع قتل المرأة الذي يمنع قتل الطفل، الذي يقول في الأسير {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] أي: يمكن أن يقدم الأسير فداء، ويمكن أن تمنّ عليه وتعفي عنه، هذه الشريعة التي فيها الارتقاء الإنساني والحضاري...
إذًا عندما نقول: نسخت شريعة الإسلام غيرها.
فلأن الإسلام جاء بشرع محفوظ، وجاء بقواعد مرنة، وجاء بقانون يمكن أن يغطي التطورات والمستجدات، أما الكتب القديمة, فمع كوننا نؤمن بالتوراة والإنجيل، والزبور ونؤمن بكل الرسل لكننا لا نرى شريعة حفظت من التبديل والتحريف وحفظ كتابها من التبديل والتحريف إلا الإسلام، إذًا عندنا كنز كبير، لكن مع ذلك نحن لا نكتفي فقط بقراءة الصراع الذي حصل في الغرب بين المعابد والمختبرات، لكننا ننقل إلى بلادنا الإسلامية هذا الصراع، كنا ندرس في كتاب البيولوجيا قالوا: أن الحياة تفاعلات كيميائية، هذه ترجمة للكتب الغربية التي لا تؤمن بوجود روح الإنسان.
وهكذا صُدّر الخطأ الشنيع الذي وقع الغرب فيه إلى عالمنا الإسلامي الذي لديه كنز من العلم، كنز من العدالة، كنز من الحضارة، كنز من المرونة، كنز من التطور...وأصبحنا نزهد في هذا الإسلام وأصبحنا لا نحب دراسة الإسلام.
وكنت أقول مرارًا وتكرارًا ليت الذين يدرسون الإسلام أو يُدرسونه يجمعون بين العلمين الكوني والشرعي، لأن الذي يدرس العلوم الشرعية بدون دراسة الكون لن يكون أُفُقُه العلمي على مستوى فهم القرآن، لأن القرآن تحدث عن الكون وتحدث عن الأحكام، فإذا نظر الإنسان إلى العلم الذي دعا إليه الإسلام يجد أنه يدعوا إلى زيادة في العلمين الكوني والشرعي، لا أعني بالشرعي الأحكام الثابتة، الأحكام الثابتة هي معدودة لكن القدرة على توليد الأحكام الفرعية من خلال القواعد، وهذا لا يستطيع أن يدخل إليه إلا من فهم القواعد والأصول التي جاء بها الإسلام، من خلال القرآن وحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام.
إذًا عندما نقول:
وَنَسْـــــــخُهُ لِشَـرْعِ غَيْـرهِ وَقَـعْ حَتْمًـا أَذَلَّ اللهُ مَـنْ لَــهُ مَـنَـعْ
أي نحن سنبقى في الذل طالما أننا نتحدث عن الإسلام على أنه لعبة مثل المسيحية أو اليهودية.
فرقوا بين أن نقول للمسيحي حرمته, وله أن يذهب إلى كنيسته ويصلي فيها ما شاء له أن يصلي، وله أن يدعو وله أن يتعبد, ويحرم على المسلم الاعتداء على حرماته, ولا يجوز للمسلم أن يجبره على شيء يخالف شريعته, وللمسيحي أن يشرب الخمرة في بيته، وله وله... فرقوا بين هذا وبين أن نقول: إن الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أكثر تطورًا ومرونة وملائمة للحياة، فنحن عندما نقول هذا لا نقول بمنطق العداء، بل نقول بمنطق: تعالوا اقرؤوا، تعالوا افهموا إذا كان عندكم شيء من القوانين أحسن من القوانين التي جاء بها الإسلام تفضلوا أعطونا، الآن في الغرب تعدد الزوجات جريمة ، لكن كل واحد عنده مئتي صاحبة يخون زوجته ليلاً ونهارًا، إذًا هذا تناقض, عندما جاء الإسلام قال: ربما الإنسان يتزوج وبعد ذلك يجد نفسه غير مكتفي, يجد ظروف ما فله شرعًا أن يعدد، وهذا هو أقرب إلى التحدد منه إلى التعدد، لأن الأصل أن النفس لا تشبع ولو أعطيتها مئتين تقول لك: هات ثلاثمائة.... الإسلام ضبط القضية, وقال: إلى هنا ويكفي، أنت لست في الجنة، في الجنة يوجد حوريات كثير لكن في الدنيا إلى هنا ويكفي، لكن في الغرب لا يوجد واحد إلا وعنده مئتي صاحبة، بالحرام, وبالخيانة، وبالكذب...
إذًا هناك تناقضات على المستوى الوضعي، على المستوى المادي... ونحن عندنا كنز كبير نعتز به عندما نقول:
وَنَسْـــــــخُهُ لِشَـرْعِ غَيْـرهِ وَقَـعْ حَتْمًـا أَذَلَّ اللهُ مَـنْ لَــهُ مَـنَـعْ
أي الذي يساوي بين الإسلام وغيره سيقع في الذّل ، لأن الإسلام هو سبيل العز، هو سبيل الارتقاء، هو سبيل النهضة...
ولابد أن نعود ثانية لنقرأ الإسلام قراءة متدبرة واعية.
لنقرأ الإسلام, ماذا يعني أن يصلي المسلم؟ لماذا يصلي؟ لماذا يزكي؟
تعالوا حتى نفهم التوازن الذي يعيده الإسلام إلى المجتمعات بتشريع الزكاة.
لماذا نصوم؟ ما سر تشريع الصيام وما حكمة ذلك؟ ما الذي يمكن أن نفهمه؟
من الممكن أن لا نفهم بعض الأمور لكن أشياء كثيرة ممكن نفهمها, وهذا يعطينا زيادة تعلق بالإسلام.
لماذا الحج ؟
الحج: القصد.
تعال وانظر أين قصدك، أين نيتك، أين إرادتك...؟
إذًا هذا فهم الإسلام في عباداته، قبل أن نفهم معاملات الإسلام، قبل أن نفهم قانون الإسلام، قبل أن نفهم علم الاجتماع الإسلامي، ونفهم علم السياسة الشرعية الإسلامية، أين هذا؟
اليوم الشباب بحاجة إلى إعادة قراءة، ونحن بحاجة إن كنّا قد فهمنا الإسلام أو قرأناه أو قرأنا شيئًا منه بحاجة أن نتلطف.
عملوا إحصاء لكلمات القرآن من أولها إلى آخرها فوجدوا منتصف القرآن كلمة:{وَلْيَتَلَطَّفْ}[الكهف:19] فمنتصف القرآن {وَلْيَتَلَطَّفْ}.
إذًا علينا أن نخاطب باستيعاب، وأن نستوعب جيل الشباب ونحاول الوصول إليهم وتعريفهم بالإسلام .
وهكذا بهذا المنهج الاستيعابي نستطيع أن نفهم كيف أننا عندما نقول: الإسلام ناسخ للشرائع وللقوانين, نفهم أنها ليست كلمة عدائية، لا إنما هي كلمة تدعوك أن تحظى بالأفضل، وتحظى بالأنسب، وتحظى بالأحلى، وتحظى بالأغلى، وتحظى بالأسمى...
إذًا هذا من أجل أن تمسك بمفتاح المجد، بمفتاح النجاح، بمفتاح الحضارة.
|