الأزواج الثلاثة على الأرض
خطبة د. محمود أبو الهدة الحسيني في جامع العادلية بتاريخ 28/11/2003
لقد صُمتم أيها الإخوة الأحبة ، وصامت الأمة الإسلامية فهنيئاً لكم ذلك الصيام، وأفطرتم وأفطرت الأمة الإسلامية فهنيئاً لكم ذلك الإفطار.
لكن أما تفكرنا أيها الإخوة الأحبة أن على وجه الأرض من لم يصم ولم يقم ، أما تفكرنا أيها الإخوة أن هذه المناسبات التي تتنزل فيها الرحمات إنما هي هدية الله تعالى إلى الأرض، ألم يرسل ربنا تبارك وتعالى دينه هذا إلى الإنسانية جمعاء، إنه سبحانه وتعالى ما خص العرب ولا خص العجم بهذه الرسالة التي أرسلها رحمة للعالمين، وأنزل في كتابه :
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} والخطاب موجه على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يأمره تبارك وتعالى أن يقول للناس كلهم:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الأعراف (158) .
وهكذا نقف في الصلاة ممتثلين أمر الله تعالى ونمر بمَوسم الصيام وتشتاق أرواحنا إلى الحج، لكن هذا كله إذا لم يقترن بمفهوم الرسالة أصلاً، أن هذا الدين أرسله الله تعالى إلى الإنسانية جمعاء، وأن هنالك جمعاً كبيراً على وجه الأرض لم يذق ما يذوقه أهل الإيمان، لم يستشعر ما استشعره ذلك المصلي وذلك المذكي وذلك الصائم وذلك الحاج.
إن الأنانية مفهوم يعاديه الإسلام :
{لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
فكيف صام ولم يفكر في تعميم معاني الصيام ليكون هدية الله تعالى إلى الأرض، وقام واقفاً مناجياً بين يدي ربه في الليل يصلي فاحتفظ لنفسه دون غيره بذلك المعنى العظيم الذي وجده في القيام.
لا يا إخوتي المسلم جُعل العالم كله في قلبه فكان الرحمة، كما كان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
والله سبحانه وتعالى في محكم كتابه قسم العالم إلى أصناف ثلاثة؛ فقال سبحانه وتعالى جل من قائل
: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 7-11].
هذا هو تصنيف الله تعالى للإنسانية على وجه الأرض.
صنف سماه السابقين المقربين، وصنف سماه أصحاب الميمنة ، وصنف سماه أصحاب المشأمة.
وليس هذا التقسيم يا أيها الإخوة بتقسيم عرقي، لم يكن هذا التقسيم عرقياً ولا قومياً.
لم يكن هذا التقسيم يقسم العالم إلى دول الشمال ودول الجنوب.
لم يكن يقسم العالم بهذا التصنيف إلى العرق الأصفر والأحمر والأسود...، لكنه سبحانه وتعالى صنف تصنيفاً له دلالته.
ينبغي على العاقل الذي يقرأ القرآن أن يفهم الدلالة التي تعطيها تلك الألفاظ التي أطلقها الله سبحانه وتعالى على الأصناف الثلاثة، ثم هو بعد ذلك يضيف إلى أهل الميمنة لفظاً آخر هو اليمين؛ فكان أصحاب الميمنة أصحاب اليمين، ويضيف إلى أصحاب المشأمة لفظاً ثانياًُ أيضاً فهم في المصطلح القرآني أصحاب المشأمة وأحاب الشمال.
وهذه كلها يا إخوتي ألفاظ تعطي دلالات وعلينا أن نفهمها، ذلك أن الإنسان ربما ظن أن دلالة اللفظ لا تظهر إلا يوم يحاسب الإنسان يوم القيامة، وهذا مفهوم خاطئ لأنه يلغي دلالة اللفظ الواقعية، لأنه يلغي دلالة اللفظ التي يعيش الإنسان حالها وسلوكها.
ما معنى الميمنة، وما معنى المشأمة؟.
وما معنى اليمين وما معنى الشمال؟ .
وما معنى السبق وما معنى القرب؟ .
أما السابقون المقربون يا إخوتي الذين هم الصنف الأول على وجه الأرض فهم صنف سابق في علمه، سابق في عمله، سابق في ثقافته، سابق في حاله، سابق في فهم القرآن ودعي الناس إليه، سابق في مفهوم عبوديته لله سبحانه وتعالى.
السبق لم يكن سبقاً من باب توزيع النياشيم والأوسمة، لكنه سبق واقعي عملي، صنف فهِم ما معنى أن يتعلم الإنسان فكان الأول في علمه على مستوى البحث الكوني، وعلى مستوى فهم الخطاب الذي خاطبه الله سبحانه وتعالى للإنسان، كان السابق في العلم والقرآن يقول:
{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[ طه:114].
وكان السابق في العمل، فكان عمله متقناً على مستوى ما ينظر الناس، وعلى مستوى ما ينظر الله تعالى إليه، كان السابق في علمه وعمله، كان السابق في دعوته إلى الله، كان السابق في أخلاقه، كان السابق في أحواله بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ فاستحق بذلك أن يكون مقرباً .
إن هذا التصنيف يضعنا يا إخوتي على الميزان حتى نسـأل أنفسنا أين نحن ؟ .
ثم من خلال فهم التصنيف نستطيع أن ننطلق إلى الآخر، نستطيع أن ننطلق إلى أولئك الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام.
السابقون المقربون فمفهوم القرب مرتبط بالسبق.
وقد جاء في الحديث :
{إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول}.
ذلك هو مفهوم عام لا ينحصر في الصف الأول الذي يقفه المصلي بين جموع الناس يصلي.
ويأتي المفهوم الثاني: الذي تعطيه دلالة ألفاظه الميمنة واليمين:
أما الميمنة في اللغة فإنها اليمن والبركة، وأما اليمين في اللغة فإنه القوة .
مفهوم الميمنة إنما هو مفهوم يعني اليمن والبركة، واليمن والبركة تعنيان الزيادة، وحين يكون الإنسان ميموناً مباركاً فإن هذا يعني أنه يستزيد من الإيمان ويستزيد من كل خير، كيف يكون مباركاً ميموناً وهو في خســـارة !؟ لا .
وهكذا اشتق مفهوم اليمن من الإيمان، فحين يكون الإيمان في قلبه يثمر عند ذلك يمناً وزيادة وبركة:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم :24-25].
تلك هي شجرة الإيمان التي استمرت في القلب فأثمرت ثمرات وأكلاً ، كل وقت وحين، كانت دائماً معطائة، شجرة الإيمان معطائة ، شجرة الإيمان خيَّرة، وهكذا كان أصحاب الميمنة، أصحاب اليُمن. ولمَ كانوا أصحاب اليمين، واليمين في اللغة القوة .
قال تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45].
يعني لأخذنا منه بالقوة .
وهكذا كان أصحاب الميمنة الذين أثمر الإيمان في قلوبهم يمناً وزيادة وبركة، أصحاب اليمين لأنهم قاموا بقوة يمتثلون أمر الله ، لأنهم لم يأخذوا أمر الله كما يأخذه من تثاقل، من قال فيهم :
{وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} [النساء: 142].
وقال مخاطباً يحيى عليه الصلاة والسلام :
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم :12].
ذلك هو مفهوم اليمين حين نكون جادِّين في امتنثال أمر الله سبحانه وتعالى لا نأخذه على أنه طقوس، لا نأخذه على أنه عادات، إنما نأخذه ونحن نستشعر أن الله سبحانه وتعالى الذي هو خالق العالمين وملك الملوك قد أنزله إلى الإنسان فنتسلمه من الله تعالى بقوة، نتسلمه بهمة، نتسلمه بحزم وعزم فلا نكون في تطبيق أمر الله سبحانه وتعالى الذي أمرنا فيه على مستوى المعاملة، على مستوى الاقتصاد، على مستوى الاجتماع، على مستوى العبادة، على مستوى ما يجده الإنسان في قلبه من التواصل.
وهكذا نستطيع أن نفهم بعضاً من دلالات التصنيف ، ونستطيع أن نفهم بعضاً من دلالات الصنف الثاني أصحاب الميمنة وأصحاب اليمين.
ويناسب حال أولئك أن يتسلَّموا يوم القيامة كتابهم بيمينهم، أن يتسملوا كتابهم حين توزع الصحف بأيمانهم، ذلك أن هنالك تناسباً، اللفظ يدعوا اللفظ.
أما الصنف الثالث يا إخوتي الذي صنَّفه الله سبحانه وتعالى ولم نصنفه نحن من أفكارنا، ولا من عقولنا ولا من آرائنا، إنه صنف أصحاب المشأمة، والمشأمة تعني الشؤم، فالذي غش في بيعه، كان يجلب إلى نفسه وإلى مجتمعه شؤماً، والذي سرق يجلب إلى نفسه وإلى مجتمعه شؤماً، والذي خان يجلب إلى نفسه وإلى مجتمعه شؤماً، والذي ارتشى رشوة يجلب إلى نفسه وإلى مجتمعه شؤماً ...
أصحاب الأعمال الخبيثة يجلبون إلى أنفسهم وإلى العالم من حولهم شؤماً ، ففاعل الخير صاحب الميمنة، وفاعل الشر إنما هو صاحب المشأمة، لأنه كان شؤماً على نفسه وعلى غيره.
وما معنى أن يكون من أصحاب الشمال؟
العرب يا إخوتي في لغتهم يشيرون بالشمال إلى المنزلة الخسيسة، فإذا قالوا فلان عندي بالشمال يعني هو عندي في منزلة خسيسة، وهو عكس مفهوم المُقرب.
وإذا أردنا أن نستعرض بعض نصوصهم يقول قائلهم :
يحرسون سهمي دونهم في الشمائل إي ينزلونني في المنزلة الخسيسة
ويقولون لمن خست منزلته أنت عندي بالشمال .
فإذا قالوا وقع في الأرض شمل من مطر أي قليل لا نفع فيه ولا يعتد به .
وإذا قالوا ذهب القوم شماليل ، أي تفرقوا فرقاً .
وإذا قالوا جمع الله شملهم أي جمع ما تشتت من أمرهم.
فمفهوم الشمال في لغة العرب مفهوم يشير إلى الشتات، يشير إلى الفرقة ، يشير إلى المنزلة الوضيعة والخسيسة، فكان غير الممتثل لأمر الله صاحب المشأمة، صاحب الشؤم وكان صاحب الشمال لأنه كان بعيداً بسبب شؤم خبث عمله عن مكانة القرب التي كان فيها السابقون المقربون.
وهكذا فإننا ومن خلال هذا التصنيف يا إخوتي نرتب لأنفسنا مفهوم الدعوة؛ فمن كان سابقاً مقرباً ينبغي عليه أن يوجه رسالة إلى الآخر الذي لم يفهم مفاهيم الإسلام، ليقول له إن رسالتي إليك أن أخرجك من محل البعد إلى محل القرب، من البعد عن الله، من البعد عن الخير، من المنزلة الوضيعة، إلى مكانة القرب.
إنني حين أقدم إليك الإسلام لا أقدمه لأنني أرغب في التجميع، ولكنني أقدمه إليك لأنني أرغب في الخير لك، تلك هي رسالة السابقين المقربين إلى العالم، أما رسالة أصحاب الميمنة وأصحاب اليمين فإنها إخراج أصحاب الشؤم من شؤمهم ليكونوا في محل اليمن، ليكونوا في محل الاستزادة من كل خير، وليكونوا أصحاب القوة.
القوة ليست مفهوم إيذاء الآخر، ليست القوة في الإسلام معناها أن تؤذي الآخر، إنما مفهوم القوة معناها أن تكون الأقوى في الخير، أن تكون الأقوى في النفع، أن تكون الأقوى في الفهم، وعندها تستطيع أن تقدم من خلال مفهوم الميمنة ومفهوم اليمين، من خلال مفهوم اليمن الإيماني ومفهوم القوة، الخيرية تستطيع أن تقدم رسالة إلى العالم.
تلك هي رسالة من صام وقام فكان سابقاً مقرباً، فكان من أصحاب الميمنة وأصحاب اليمين.
تلك هي رسالة يرسلها على العالم راغباً في خيره راغباً في نفعه.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله .
|