إن القارئ لكتاب الله تبارك وتعالى
يلحظ تفصيلًا كبيرًا في رسالة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام, وما ذاك إلا لأنها
الرسالة الأخيرة قبل رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ورسالة عيسى عليه الصلاة
والسلام هي مُصدِّقة ومُقرّة برسالة موسى عليهم جميعًا وعلى نبينا أفضل الصلاة
وأكمل التسليم.وما هذا التفصيل إلا ليكون ذكر
النماذج في تلك الرسالة نافعًا ومفيدًا للأمة التي جاءت بعدها, أعني أمة سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم. وجاء القرآن الكريم بأمثلة ونماذج
تفصيلية, وشَرَحَ مضمونات شخوصها المتعددة, التي تتباين في المعاني والمباني.وقد وقفنا فيما مضى مع نموذجين
متباينين, نموذج العبريين من أتباع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ونموذج سحرة
فرعون.ورأينا من خلال المقارنة التباين في
بناء الشخصية, والتباين في المواقف بينهما.وساقنا ذلك إلى نموذج ثالث, أراده
الله سبحانه وتعالى مثالًا لأمتنا هذه, بل وأراده مثالًا وأنموذجًا يقتدي به
النموذج الأول في أمتنا, وأكثر من هذا أن الله سبحانه وتعالى أراده نموذجًا يُقتدى
به في بيت النبوّة نفسه.هذا النموذج هو امرأة فرعون.قال تعالى:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
لِّلَّذِينَ آمَنُوا..) فلم يقل: وضرب الله مثلًا للمؤمنات. إنما قال:(لِّلَّذِينَ آمَنُوا) فعم
الرجال والنساء. (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ)وأين ورد هذا المثل؟إنه ورد في السورة التي أنزلها الله
سبحانه وتعالى مخاطبا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولينتقل من خطابهن إلى
خطاب عام لهذه الأمة بقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مكررًا إياها في سورة اسمها سورة التحريم.وقد أثنى سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم على امرأة فرعون (آسية بنت مزاحم) في الأحاديث الصحيحة.فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم:
(أفضل نساء الجنة: خديجة بنت خويلد,
وفاطمة بنت محمد, ومريم بنت عمران, وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون)وفي رواية أخرى:
(حسبك من نساء العالمين: مريم وخديجة
وفاطمة وآسيا)وفي رواية: (خير نساء العالمين أربعة..)وفي رواية:
(سيدات نساء أهل الجنة أربعة..)وإذا أردنا أن نقرأ هذه الشخصية
والنموذج, فلابد لنا من ملاحظة ذكر القرآن الكريم لها مرتين. أما المرة الأولى ففيها حديث عن
شخصيتها الإنسانية قبل أن تسمع بالمبدأ السماوي وتؤمن به. وأما الثانية ففيها يُسلَّطُ الضوءُ
على موقفها المبدئي.- التكوين الإنساني لشخصية امرأة
فرعون ورد في قوله سبحانه وتعالى:(قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا
تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) [القصص: 9]فحكى قصة الملكة الشابة التي تقف على
شاطئ البحر مُتنـزِّهة مع زوجها الملك فرعون, وترى طفلًا محمولًا في اليم.- والموقف المبدئي يذكره بعد أن كبرت,
ووصلت إلى سن الحكمة, وسمعت رسول الله موسى عليه الصلاة والسلام يأتي بالحق, فيخالف
زوجُها فرعونُ ملكُ مصر الحقَّ, وتَقْبَلُ هي بالحق وتتبناه مخالفة بذلك زوجها
فرعون.وهو مذكور في قوله تعالى:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ
بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11]1- التكوين الإنساني لشخصية امرأة
فرعون:يقُصُّ القرآن خبر امرأة فرعون الملكة
الشابة لمصر التي كانت من أعظم ملوك الأرض, فلم يكن على وجه الأرض يومها أعظم منها
منصبًا أو جاهًا.. عندها كل ما تشتهيه امرأة في العالم.. عندها المُتع كلها.. تأمر وتنهى,
وتفعل ما تشاء... لكنها كانت إنسانا.والإنسان حين نريد أن نتأمل تكوين
شخصيته هو:أ- نفس تشتهي وتطلب المحسوس.ب- وقلب يتلمَّس المعاني.ج- وعقل يتفكَّر ليصل إلى المنافع,
وإلى التمييز بين النافع والضار.د- وروح تسمو فوق حجاب البشرية, لتعيش
الملكوت الروحاني.والدراسة النفسية الإسلامية تفوق
الدراسات النفسية الغربية وغيرها, لأن الذي يتحدث عن النفس والقلب, ونحن نقرأ نصوص
الوحي، هو الذي خلق النفس وخلق العقل وخلق القلب, أما ما سوى ذلك فإنها نظريات
تحاول استكشاف الموجودات.فماذا عن تكوين هذه المرأة النموذج
الذي ضربه الله سبحانه وتعالى مثالًا للرجل والمرأة؟أ- حكى القرآن الكريم ارتقاء نفسها. وهو مذكور في قوله سبحانه وتعالى:(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ
قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ)إنه السمو فوق الأنا, ورُقيُّ النفس
فوق الأنانية, فالنفس تنحط وتنحدر, وتسبق البهائم والذئاب والسباع, حينما تعيش في
دائرة الأنا, وإذا سَمت عن الأنا, ارتقت وسمت.إن فرعون يقف عند (لي), فيقول:
(أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)
[الزخرف: 51]أما امرأته فتقول: (لِّي وَلَكَ) أي هذا سرور لي ولك.ولا يمكن لنا أن نصل إلى سُدَّة
إنسانية ترتقي فيها نفوسنا, إلا حينما يقول الواحد منا للآخر: لي ولك. ولا يقول:
لي.. وحدها..مصيبتنا اليوم أن كل واحد فينا في
انحطاط نفسه يعيش حالة: (لي) و(أنا).لكن هذا النموذج قال: (لِّي وَلَكَ)ب- حكى القرآن ارتقاء قلبها.
وذلك بقوله تعالى:(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ
قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ)إنها الرحمة الإنسانية التي يُحرم
منها الماديون اليوم, ويُحرم منها من يحكمون العالَم..اليوم غارة إسرائيلية صهيونية
بالطائرات تُوجّه لقتل قائد القوة التنفيذية, الذي عيّنه وزير الداخلية في فلسطين,
ولأن الكيان الصهيوني لا يرضى عن هذه الحكومة ولا عن من عيّنته, تأتي طائرات لتقتل
فردًا..!!إنه سَبْقٌ لكل ما لدى الوحوش من
وحشية.ألم يُقتل بالأمس الشيخ العجوز الكسيح
أحمد ياسين رحمه الله بالطائرات والصواريخ..!!لقد زالت الرحمة. وحين يزول التراحم, فعلى الإنسان
السلام.إنها ترى طفلًا فتصيح لا تقتلوه,
وتستخدم نفوذها المَلِكي, وتخاطب ملك مصر الذي ما كان أحد يجرؤ أن يخاطبه, وهو الذي
كان ديدنه القتل, وهيّأ الله سبحانه وتعالى هذا القلب الرحيم, ليكون سبب نجاة الطفل
من هذا الفرعون القتَّال, الذي حكى عنه القرآن قائلا:(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي
الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءهُمْ) [القصص: 4]الزوج يُذبّح, والمرأة التي ارتقت في
قلبها الإنساني تصيح: (لَا تَقْتُلُوهُ)وما أحوجنا أن نقول: (لِّي وَلَكَ)
وما أحوجنا أن نقول: (لَا تَقْتُلُوهُ) فإنه إنسان.ما أحوجنا أن نقول للعالم ما قاله
الله تعالى:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)
[الإسراء: 70]وهكذا كانت هذه المرأة النموذج الذي
امتلأ قلبها بالأوصاف السنية, واتسع رحمة, واتسع بمكارم الأخلاق فيه.ج- وحكى القرآن ارتقاء عقلها.وذلك في قوله سبحانه:(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ
قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا)وهل وظيفة العقل إلا التمييز بين
الضار والنافع, والبحث عن النافع.والسفيه هو الذي لا يميز بين النافع
والضار, وهو الذي يبحث عن الضار ويتجاوز النافع, ويقع في الضار وتُفلت من يديه
المنافع.قرأت في كتاب الله عبارةَ: (خَيْرٌ
لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وتكررت في القرآن سبع مرات.يعني لو أن عقولكم وُظِّفت وارتقت إلى
سوية تكون فيها عالمة, ستُدرك الخير.فإذا كنتم في صَفِّ الجهل, فلن تدركوا
خيركم, ولن تدركوا ما ينفعكم..وستقرؤون الانحلال الخُلقي على أنه
تحضُّر, وستقرؤون الإسفاف البشري على أنه مدنية, وستقرؤون التحرر من الأخلاق
والتحرر من تعليم الله سبحانه وتعالى للإنسان على أنه دخول في التجربة الحضارية
الحديثة المعاصرة..!!يقول الله تعالى: (عَلَّمَ الاْنسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ)[العلق: 5] والإنسان يقول سأصل إلى العلم بمجرد تجربتي، لماذا لا تستفيد
من خالقك الذي يعلمك؟ ادخل التجربة كما تشاء لكن دون أن
تنسى هدية السماء إليك.واليوم تشن الحرب على العلوم الشرعية
في كل البلاد الإسلامية وبالوسائل المتعددة.يا من أحضرتم أبنائكم ليتعلموا القرآن
أبشروا فإنكم بدأتم الطريق الصحيح، فالقرآن هو منطلق الإنسان، والقرآن بمعانيه،
يدفع الإنسان إلى الرقي في الكون، والرقي في المعنى، والرقي في الأخلاق، والرقي في
الحضارة والبناء. القرآن هو الذي يقول للإنسان: انظر
ولا يقول: أغمض عينك، وهو الذي يدعو إلى التعقل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاْرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ) [لحج: 46] وهو الذي يعلم الإنسان أن يقول:
(قُلْ
هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)[يوسف: 108] ولا يقول ادعو
إلى الله على عمى. القرآن فيه أساس المنطق، وميزان
العقل. القرآن يضع الإنسان على أول طريق
الرشاد...نتمنى أن يكون في هذا المكان متسع
لألوف الأطفال. ونحن ندرس اليوم على المستوى الرسمي
إنشاء مبان كاملة لتكون معاهد تعليم القرآن، لتكون منطلق الطفل إلى الحضارة، وبهذا
نستطيع أن نحافظ على هويتنا وحضارتنا.ومن كمال تعقل امرأة فرعون أنها قالت
(عَسَى أَن يَنفَعَنَا)[القصص: 9] ولم تجزم، والله سبحانه وتعالى يؤكد هذا المعنى
بقوله: (آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ
تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)[النساء: 11]لا تدرون ! فيأتيك من الأولاد أربعة
أو خمسة أو ستة، ولا تدري من منهم الذي سيكون الأنفع لك.إنها تقول عسى أن ينفعنا فتتعقل وتسلك
طريق التدبر والرشاد، أما زوجها فرعون فيصفه الله سبحانه وتعالى بأنه مجانب للتعقل،
بقوله سبحانه: (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ
بِرَشِيدٍ)[هود: 97] أي أنه كان بعيدًا عن طريق التعقل
والرشاد. وهكذا لا ينبغي أن يقول قائل مشكلتي
من زوجتي ولا ينبغي أن تقول قائلة مشكلتي من زوجي، فأنت عبد الله، ومعك عقلك، ولا
ينبغي أن تنسب تقصيرك إلى غيرك، وسيأتي يوم تفر فيه من أخيك وأمك وأبيك وصاحبتك
وبنيك، فاحرص وأنت في هذه الدنيا على أن تمسك الطريق بنفسك، وأن تكون صاحب القرار.
ينبغي عليك أن لا تتأثر بأحد من حولك
إذا كنت على الحق.د- والقرآن يحكي عنها ارتقاء الروح.فقد ارتقت عن الانحباس للأسر البشري.
وأنتم تعرفون في التاريخ قضية
المحافظة على السلالة الملكية، فهذا هو شأن العوائل الفرعونية أو الملكية، ديدنها
المحافظة على السلالة، والانحباس في أسر العِرق. وها أنت تجد الملكة تتبنى طفلًا لا
يعلم من أبواه، تجده عائما في البحر، فمن هو أبوه، ومن هي أمه؟ إنه الانقطاع التام للعرقية.
فمن يستطيع أن يفعل هذا إلا من سما عن
البشرية إلى الروحانية؟هي ملكة مصر وتقول: (أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَدًا)[القصص: 9]إنها تنسبه إليها، ليقال هذا الطفل
ابن فلان وفلانة. وهو نسف تام لكل أنواع العرقية
والانحباس في الأسر البشري وهو عين السمو الروحاني الذي أراده الله سبحانه
وتعالى لنا كأمة من خلال تشريع اسمه كفالة اليتيم فأبينا. وكفالة اليتيم مفقودة في أمتنا اليوم،
فقد أنشأنا دورا مثل ثكنات الجيش أو المدارس العامة ليعيش فيها هذا الطفل اليتيم
محرومًا من رؤية أب وأم، أو الطفل الذي لا ذنب له وقد ألقي في الطرقات.أصبحنا نتجنب كفالة اليتيم.إنني أرى أن دور الأيتام قد قضت على
تطبيق تشريع كفالة اليتيم الذي هو تشريعٌ رباني إنساني. فكفالة اليتيم تعني أن تدخل اليتيم
إلى أسرتك. ومن العجيب أننا ندخل القطة، ويدخل
الغربيون الكلب، لكننا نأبى إدخال الطفل، ندخل الكلب ليعيش بيننا ولينام على
السرير، ويحضر له الطعام الخاص به، المنتج خصيصًا له!وقد خرجت في يوم من الأيام مظاهرة
كبيرة في أمريكا احتجاجًا على صعود كلبة في سفينة فضاء، لأنه ينبغي رعاية حقوق
الكلاب، أما الإنسان فإنه يرمى بالصاروخ من الطائرة.قال لي أحد علماء الكون المسلمين، من
أطباء أمريكا: ألا تقبلون إرسال أطفالنا إلى بلادكم بشرط أن يعيش الطفل الذي نرسله
في أسرة عندكم، فقلت لا أضمن. كان يقول نرسله لتعيدوه ثانية لنا بعد
أن يتشرب روح الإسلام عندكم ويتقن العربية، وهو يعتبر من الجيل الثاني أو الثالث
الأمريكي أي الذي يحق له أن يتسلم رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. لكننا لا نضمن عيش طفل في أسرة.الملكة الفرعونية تقول:
(أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) والله سبحانه يعاتب بشدة قائلا:
(كَلاَ بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)[الفجر: 17]
ويقول: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ
بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)[الماعون: 1-2]، فالذي يزعج
يتيمًا هو في منظور الإسلام مكذب للإسلام.كم تجد من الأغنياء من يقول دلني على
مسجد، لأتبرع ببنائه. وأقول: ألا تحب أن تبني بيت الله
الأكبر الذي هو الإنسان؟ والإنسان هو بيت الله الأكبرنعم حين نبني طفلًا فنعلمه القرآن أو
نرعى يتيمًا فإننا نبني بذلك مسجدًا حقيقيًا، نبني بيتًا فيه الأخلاق. ينبغي أن يحترم الطفل، وينبغي أن
يعظم. منذ سنوات ونحن نكافح في سبيل أن لا
يضرب طفلٌ في المساجد. ومع الأسف يُضرب الطفل في بعض
مساجدنا، وهو البعد عن مبادئ هذا الإسلام الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه يداعب الطفل ويلاعبه، ويركب الحسن والحسين على ظهره فيقولان له أنت جملنا،
فيقول: (نِعْمَ الجمل جملكما، ونعم الراكب
أنتما) وقلت في اجتماع مع المدرسين في المعهد
القرآني، هل تجد من نفسك الاستعداد أن تكون جملًا للطفل الذي يأتي لتعلمه القرآن،
فقال لا، وقلت إذًا ينبغي أن تعتني بنفسك، وإذا لم تكن قادرًا على أن تكون الجمل
للطفل الذي يأتي لتعلمه القرآن فأنت لا تصلح لتعليم القرآن. إما أن ندخل الحضارة الإسلامية
الإنسانية، وإما أن نعترف بالقصور وننسحب ولا نشوه الإسلام. واختار الله سبحانه وتعالى أن يكون
أحب أحبائه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يتيمًا وأثبت هذا الوصف في القرآن بقوله
: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا
فَآوَى)[الضحى:6] وقال صلى الله عليه وسلم كما في
الصحيح: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا
وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى) وقال: (من كفل يتيمًا له أو لغيره
وجبت له الجنة).2- الموقف المبدئي في سيرة امرأة
فرعون:وموقفها المبدئي الذي حكاه القرآن
الذي حصل بعد إيمانها بسيدنا موسى، عليه وعلى نبينا وعلى الرسل جميعًا أفضل الصلاة
وأكمل التسليم نقرؤه في خمسة بنود اختصرتها آية، وهي قوله تعالى:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ
بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11]هذه الآية حوت بنودًا خمسة:
1- البراءة من الحالة الفاسدة التي
توجد في البيئة الفاسدة.وذلك بقولها: (رَبِّ ابْنِ لِي
عِندَكَ) فالحال عندك مرضية والحال عند فرعون فاسدة، فهي تقول: أخرجني من الحال
الفاسدة إلى الحال المرضية، فالحال عند فرعون فاسدة، والحال عندك حال سنية نورانية
مرضية. فطلبت من الله سبحانه وتعالى أن
يخرجها من الحال الفاسدة إلى الحال المرضية السنية النورانية وتبرأت من تلك الحالة
الفاسدة.2- البراءة من المكان الفاسد. وتعرفون الحديث الذي حكاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن قصة قاتل المئة نفس وكيف نصحه العالم بالله أن يغادر المكان
الذي عصى الله فيه إلى مكان آخر.إنها تتبرأ من القصر وتطلب الجنة. تتبرأ من القصر المفعم بالاستبداد
والظلم والظُلمة والعصيان والفسوق، إلى مكان ليس فيه إلا رقي الإنسان، في الجنة
التي قال الله فيها: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم
مِّنْ غِلٍّ)[الحجر: 46] فتتبرأ من مكان فيه الحقد والغل
والظلم والاستبداد..، إلى مكان ليس فيه غل ولا حقد ولا ظلم.(رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ) 3- البراءة من القرين الفاسد. تبرأت من القرين الفاسد حين قالت:
(وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ)
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فإن القرين بالمقارن يقتدي
ألم يقل ربنا:
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، ياوَيْلَتَى
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا)[الفرقان: 27-28]
تريد إصلاح ابنك، وتريد إصلاح نفسك،
من هو القرين له ولك؟
فإن كان قرينًا فاسدًا فالأمل في
الإصلاح صعب، وإذا كان القرين صالحًا فالأمل في الإصلاح كبير.
وقال الله سبحانه:
(وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)[هود: 113].
4- البراءة من العمل الفاسد.
تبرأت من فرعون ومن عمله، وآثار عمله
في مملكته ظهرت ظلمًا وقهرًا وإيذاءً واعتداء وبغيا.
(وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ)
5- البراءة من أعوان الظالم الفاسدين.
تبرأت من أعوانه لأن أعوانه
يشتركون معه في الإثم والضلال والبغي والطغيان وقد قال الله عنه:(يَقْدُمُ
قَوْمَهُ)[هود: 98] فهو الذي أوردهم النار وهم الذين أعانوه على البغي والضلال.
حاشية السلطان أكبر بلاء في السلطان،
فإذا صلحت حاشيته صلح، لهذا قالت:
(وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ)
ومع أنهم يطيعون أمره: (فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) [الزخرف: 54]
لكن مجرد موافقتهم لبغيه وطغيانه,
تعني اشتراكهم في الإثم, وتعني اشتراكهم في الظلم, وتعني اشتراكهم في الطغيان,
وتعني اشتراكهم في العدوان....
متى يفهم الإنسان أن عليه أن يُعلن
مبدأه من غير خوف, دون أن يهُزّ برأسه لصاحب منصبٍ أو سلطانٍ ظَلَم واستبد..!!
إنه لن يكون إنسانًا حتى يتحرر من
خوفه, ويتمسك بمبدئه.
ولن يكون إنسانًا حتى يكون حُرًّا مما
سوى ربِّه.
هذه هي البنود الخمسة التي تُمثّل
موقفها المبدئي.
أليس هذا النموذج هو من النماذج التي
ينبغي على الذين آمنوا أن يفهموها وأن يقتدوا بها في الشخصية الإنسانية وفي الموقف
المبدئي.
إننا بحاجة إليه ليدخل في حياتنا
وواقعنا وسلوكنا وأخلاقنا وقلوبنا وعقولنا وأرواحنا.. وإلا فسنبقى همجًا رعاعًا, لا
قيمة لنا, وسنبقى غثائًا, يستخف بنا أعداؤنا, ويُدبّرون لنا المكائد في الليل
والنهار, ونحن ننفعل ونُساق كما تُساق الخراف..!
اللهمّ رُدَّنا إلى دينك ردًّا
جميلًا, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله. |