ما أزال أتساءل في نفسي وأقول:
أما واقع عالمنا الإسلامي وضعفنا
وشتاتنا فقد عرفناه، وأما انتشار الجهل والفردية واستعلاء بعضنا على بعض فقد
رأيناه...
لكن أما وأن الله سبحانه وتعالى وعدنا
أن يكون آخر هذه الأمة مفعماً بالخير كأولها، إذاً فلابد من نهضة ، ولابد لهذا
النائم الخامل الكسلان، من لحظة يستعيد فيها همته وعزيمته ويرجع إلى ما كان عليه
سلفنا الأول.
لكن السؤال: من الذي سيوقد هذه
الجذوة، ومن الذي سيحقق لهذه الأمة تلك النهضة؟.
هل نعلق آمالاً على الحكام الذين
يجتمعون في مؤتمرات القمة اجتماعاً مكروراً ليس فيه جديد !!؟
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي.
هل سيحققها قوم خنعوا وذلوا واستسلموا
حتى صاروا أتباع كل ناعق، يميلون مع الهوى أينما مال ويساقون كالخراف ...
قولهم وشعارهم وعنوانهم:
الخوفُ مذهَبُا نخاف بلا حدود
نرتاح للإذلال في كنف القيود
إنَّ الخروفَ يعيش لا يتأففُ
ما دام يسقى في القطيع ويعلفُ
نحيا وهمُّ حياتنا مَلء البطونْ
إن الخراف نعيمها ذل وهون
هل سيحققها قوم أتقنوا الكلام وتفننوا
في صناعة العبارات، لكنك إذا نظرت إلى سلوكهم وجدتهم طلاب مناصب، ومريدي مكاسب.
رحم الله من قال:
ظن الخليُّون أن مثلهم كذبوا
فما الخليُّ وذو الأشجان سيان
لا يا إخوتي لا هؤلاء ولا أولئك
فالذين سيعيدون للأمة نهضتها متألقة
مشرقة قوم وصفهم الله تبارك وتعالى في قرآنه.
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)
والخطاب لهذه الأمة وكأنه يخاطبها في
هذه اللحظة، في هذا الوقت.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)
يا من دخل في الإسلام وآمن بلسانه، يا
أيها الذين آمنوا في الظاهر ، وآمنوا في الباطن إيماناً جزئياً ..
( مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) [المائدة : 54]
( مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ)
الذي يرتد عن مهمته الكبرى، والذي
ينسى رسالته التي وجد ليؤديّها بأمانة وصدق وتفاعل.
فالإنسان لم يوجد من أجل طعامه
وشرابه، وشهوات نفسه، ولم يوجد لأغراض الدنيا العاجلة، إنما وُجد لتكون هذه الدنيا
العاجلة ممراً.
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ
الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا
أَحْسَنَ اللَّهُ إليك)[القصص: 77]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ)
يترك رسالته وينسى مهمته في أن يكون
نائباً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل النور إلى العالم ويخرج الناس من
الظلمات إلى النور.
إنها وظيفة كرام الخلق الذين اجتباهم
الله سبحانه وتعالى.
إن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم
هو أحب الخلق إلى الله ، وهو أكرم الناس على الله، لكنه صلى الله عليه وسلم لم
يتكثَّر من الدنيا، إنما رضي صلى الله عليه وسلم بالمسكن الذي يسكنه عامة الناس،
ولم يكن أحد يقدر على خشونة الطعام الذي كان يطعمه صلوات الله وسلاماته عليه.
إنه صلى الله عليه وسلم راودته الجبال
الشم من ذهب عن نفسه فأراها أيما شمم.
إنه صلوات الله وسلاماته عليه، عرضت
عليه الدنيا بزخرفها ، وخيّر بين أن يكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً فاختار أن
يكون نبياً عبداً وقال :
(أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً
فأشكر)
هذا هو الإنسان الكريم على الله، فأين
نحن من هذه الشخصية العظيمة، وقد شغلتنا أموالنا وأهلونا حتى كاد عالمنا الإسلامي
ينسى وظيفته، وحتى كاد ينسى وصف إمامه صلى الله عليه وسلم .
هذه هي صفات من سيحقق النهضة يقدمها
القرآن لنا وعلينا أن نضع أنفسنا في الميزان لنرى هل نحن منهم؟.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ (يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ)
1- (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ذاقوا محبة الله فأذهلتهم عن مكاسبهم ومناصبهم ، صار رجائهم في الله، وصار خوفهم من
تعظيم جنابه، لم يؤثروا عليه سواه، قد انجذبت قلوبهم إلى حضرته، فهو محبوبهم
الأعظم، فلا الدنيا تأكل قلوبهم، ولا الآخرة مقصودهم، فالدنيا والآخرة مملوكتان
لله، ومقصودهم مالكهما.
فهم توجهوا إلى الله، يدعونه في
الغداة والعشي يريدون وجهه.
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) :وصف
يعني روحانية منجذبة إلى حضرة مولاها، لا مادية نفسانية تتلفت يمنة ويسرة باحثة عن
المكاسب والمنافع.
ثم أتى بالوصف الآخر :
2- (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فلا الكبرياء وصفهم ولا العجب ملازمهم لأنهم أهل التواضع والانبساط للناس، وهم
آلفون مألوفون، لا ينفِّرون الخلق، ليس فيهم الفظ ، ولا الغليظ
(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) هو
وصف الأخلاق المنبعثة عن قلب سليم.
والأخلاق محلها القلب، وأثرها يظهر في
المعاملة.
أما الوصف الثالث فهو:
3- (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
) استغنى كل واحد منهم بالله ورسوله والإسلام .
رضي الله عن سيدنا عمر وهو يخوض في
الأرض الطينية ويرفع رداءه كما يفعل عامة الناس، وأبو عبيدة يريده أن يتجمل لأهل
القدس ، فقد أتى فاتحاً يريد تسلم مفاتيحها، ، فيقول له: يا أبا عبيدة نحن قوم
أعزنا الله بالإسلام، ومهما نبتغي العزة بغيره أذلنا الله.
هكذا يكون التعزز بالله على الكافرين،
لأن الكافرين عظموا المادة أما أهل الإيمان فعظموا الله.
ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى
غنى النفس.
أن تكون عزيزاً في باطنك بربك.
هذا الصنف لا يستطيع أعداء الله
استمالة قلوبهم ليأخذوا التنازلات منهم، فهم ثابتون على مبادئهم باقون على المشكاة
البيضاء، والحق فيها أبلج.
لا تؤثر فيهم المرهبات ولا المرغبات
التي يريد أصحابها صرفهم بها عن ثوابت دينهم ، لا يركنون إلى الذين ظلموا.
(وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)[هود : 113].
إن صحبوا صحبوا مجانسهم، ولم يمنعهم
ذلك عن الاختلاط بجميع الناس دعاة إلى الله، لكن مع حراسة القلب من الميل إلى أهل
الضلالة.
حالهم يقول :
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ،
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلَا
أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) الكافرون.
فالتعزز تعزز بالله حينما لا يذل أمام
الترهيب، ولا يميع أمام الترغيب.
4- (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ)
إن الوصف الأول: (يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ) روحانية منجذبة إلى مولاها.
والوصف الثاني: (أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) أخلاق محلها القلب, وأثرها في المعاملة.
والوصف الثالث (أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ) اعتزاز النفس بالله وبالإسلام فيقول فيه للكافرين: هذا إسلامنا في
اقتصاده, فهاتوا ما عندكم، وهذا إسلامنا في اجتماعه, وهذا إسلامنا في سياسته,
فهاتوا ما عندكم.
عندنا شريعة من الله عظيمة, فهاتوا ما
عندكم.
أما الوصف الرابع (يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللّهِ) فيعني حركة الجوارح والجسد, ولا ينحصر مفهوم الجهاد في سبيل الله
في القتال, فالقتال هو نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله, له شروطه الشرعية ووقته
وظرفه, أما حياة هذا الصنف الذي يتحدث عنه القرآن؛ فإن الجهد لا يفارقه لحظة.
ألم تر فاطمة بنت الحبيب المصطفى صلى
الله عليه وسلم أباها, وقد عاد من السفر فابتدأ بالمسجد وثنىَّ بها, فوجدت اصفرار
لونه وشحوبه, وكيف اخلولقت ثيابه؛ فأبكاها ما رأت..!
هذا هو الجهد الذي استهلك ظاهر النبي
صلى الله عليه وسلم وباطنه.
ويروي ابن اسحاق, أن عثمان بن مظعون
رضي الله تعالى عنه, الذي عُذِّب في الله في مكة, وضيَّق عليه الكافرون, حتى هاجر
إلى الحبشة الهجرة الأولى ثم رجع إلى مكة, فلما رجع إليها, كان الأذى قد اشتد على
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدخل في جوار الوليد بن المغيرة, وكان إذا دخل
واحد من المسلمين في جوار أحد من المشركين, يرتفع الأذى عنه, ولا يجرؤ أحد على مسه
بسوء.
دخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن
المغيرة, فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن لا يمسه أحد بسوء؛ دخل على
الوليد وردَّ عليه جواره..
وبينما هو في مجلس لقريش, وفد الشاعر
لبيد بن ربيعة, فقعد ينشدهم شعره, فلما قال:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
قال له عثمان بن مظعون: صدقت.
ثم قال لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل.
فقال له عثمان بن مظعون: كذبت, نعيم
الجنة لا يزول.
قال لبيد لقريش: متى كان يُؤذى جليسكم
يا معشر قريِش.
فقام رجل من المشركين, فلطم عثمان
لطمة أصاب فيها عينه, حتى تورَّمت واخضرَّت, والوليد بن المغيرة جالس, فلامه على
ردِّ جواره, وقال: قد كنت في ذمة منيعة. فأجابه عثمان بن مظعون: إن عيني الأخرى لما
أصاب أختها لفقيرة.
إن العين الثانية مشتاقة إلى ما أصاب
أختها..
يتلذذون بالجهد في سبيل الله..
قال له الوليد: عُد إلى جوارك. فقال:
بل أرضى بجوار الله.
هذا عثمان بن مظعون في مكة..
أما حاله في المدينة فعجيب..
جاء مرة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم, وقال: يا رسول الله, نفسي تحدِّثني أن أطلِّق خولة.
يريد أن يطلق زوجته خولة بنت حكيم,
حتى يتفرِّغ للجهد في سبيل الله.
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم,
كما يروي الحكيم الترمذي:
(مهلاً, إن من سنتي النكاح)
قال: نفسي تحدِّثني أن أَجُّب نفسي.
يعني أن يختصي.
قال: (مهلاً, خصاء أمتي دؤوب الصيام) أي المواظبة على الصيام.
قال: نفسي تحدِّثني أن أترهب.
قال: (مهلاً, رهبانية أمتي الجهاد
والحج).
قال: نفسي تحدِّثني أن أترك اللحم.
قال: (مهلاً, إني أُحبه, ولو أصبته
لأكلته, ولو سألت الله لأطعمنيه.)
أي أنا أنظر إلى قسمي, فإن أطعمني
أكلت, وإن أجاعني صبرت.
ذاك عثمان بن مظعون في مكة, وهذا
عثمان بن مظعون في المدينة.
ولما مات عثمان ابن مظعون, رضي الله
عنه, دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إليه, وسالت الدموع على خده, وانكب
عليه يقبِّله.
تقول عائشة: (كأني أنظر إلى دموعه صلى
الله عليه وسلم تسيل على خديه.)
ولما مات إبراهيم, ولد رسول الله صلى
الله عليه وسلم, دفنه قريباً من عثمان بن مظعون, وقال له وهو يدفنه:
(الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون)
هكذا كانت بداياتهم, ونهاياتهم.
5- (وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لآئِمٍ) وهو الوصف الخامس.
وما أكثر اللائمين, وما أكثر
المثبِّطين!!
فقد تلومك أمك, وقد تلومك أختك, وقد
يلومك أبوك, وقد يلومك ولدك, وقد يلومك أهل العادات والتقاليد, وقد يلومك أهل
المناصب, وقد يلومك أهل المكاسب, وقد يلومك أهل الدنيا..
فما أكثر اللائمين!!
فهل ستخاف اللوم, أم أنك ستمضي ثابتاً
متوجهاً في وجهتك, لا تحيد عن طريقك!!
إنه الامتحان..وما أكثر من يُصرَف عن
طريقه الحق باللوم, وما أكثر من لا يصرفه إلا اللوم!
رأى الصحابي خالد بن سعيد, في منامه
قبل أن يدخل في الإسلام رؤيا- كما ينقل الحاكم في مستدركه- أنه وُقف به على شفير
النار, ورأى كأن أباه يدفعه فيها, ورأى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم يمسك به حتى
لا يقع في النار, ففزع من نومه, وقال: والله إنها لرؤيا حق.
فذهب إلى أبا بكر فحكى له القصة, فقال
له: إنما أُريد بك خير، ثم أخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما قام حتى
أسلم.
فلما علم أبوه بإسلامه؛ أرسل إليه
أولاده يحضرونه, وقال له: كيف تتبع محمداً وهو يشتم آباءنا ويعيب آلهتنا.
هذه تقاليدنا, وطقوسنا, وأعرافنا..
إنه خالفها, وأنت تتبعه!
يقول له خالد بن سعيد: قد صدق والله
واتبعته.
فيشتمه أبوه, ويضربه بصريمة, والصريمة
هي القطعة من النخل التي تُصرم أي تُقطع, فهي جذع النخل الكبير, ضربه بها حتى
انكسرت على رأسه..
ثم قال: اذهب يا لُكع, والله لأمنعنك
القوت.
لوم, وإيذاء, وتهديد بلقمة العيش..
فيجيبه خالد: إن منعتني فإن الله عز
وجل يرزقني ما أعيش به.
ثم قال الأب لبنيه: لا يكلمه أحد منكم
إلا صنعت به ما صنعت به.
ولما دخل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم, أكرمه رسول الله وقرَّبه.
هذه هي البيئة التي نشأ فيها أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأين نحن منها؟
أين نحن يا إخوتي من هذه الأوصاف,
ونحن ربما يهزُّنا لوم لائم, وربما يُغيِّر مسلكنا قول قائل!
هذه هي أوصاف الذين سيحققون للأمة
نهضتها, فإن كنا قد وعيناها؛ وإن كنا نريد أن نتحقق بها؛ فنحن مرشحون لذلك.
وإلا فلن نكون إلا أصحاب ضجيج
وغوغائية.
رُدَّنا اللهم إلى دينك ردَّاً جميلاً
واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أقول هذا القول واستغفر الله |