التغيير في الأمة مقصود؛ لأن أمتنا
اليوم لا تتناسب مع منطلقاتها ومبادئها..
ومبادئ كمبادئ أمتنا ينبغي أن تكون
بها أمتنا فوق الثريا.
فالتغيير إذًا مقصود، لا على مستوى
بلادنا وحسب، إنما على مستوى أمتنا شرقها وغربها.
والتغيير كما هو معلوم جزءان: جزء
مادي وجزء معنوي، وقد تحدثنا كثيراً في محطات كثيرة ومواقف عديدة عن التغيير
الظاهر وأحببت أن أتحدث اليوم منطلقاً من قوله تعالى:
(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد: 11
فثمة علاقة ينبغي لنا أن نعيها:
فإذا كانت الأنفس تتجه إلى الارتقاء
تكون الأمة سائرة إلى الحضارة والارتقاء، وإذا كانت الأنفس تتجه إلى الانحطاط تكون
الأمة سائرة إلى الانحطاط، ومن قرأ تاريخ الأمم يعلم أن دمارها بدأ من اللحظة التي
توجهت فيها الأنفس إلى الانحطاط.
إذًا ومن خلال هذه العلاقة نستطيع أن
نتلمس أسباب تغيير النفوس قبل أن نتحدث عن مجرد التغيير الظاهر.
وقد لفت انتباهي في كتاب الله تبارك
وتعالى مشهد في جدال سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام لقومه حين اتبعه فقراؤهم الذين
لا يملكون مالاً، ولا جاهًا، فكانوا ينظرون إلى أولئك النفر على أنهم لن يحصل لهم
تقدم أو ازدهار أبداً، فكيف يمكن لمن لا يملك جاهاً ولا مالاً أن يحصل له تقدم
وازدهار!.
وردَّ عليهم سيدنا نوح عليه الصلاة
والسلام بقوله:
(وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ)
هود:31
ما معنى هذا ؟
معناه: لو كان في أنفسهم الخير
فسيؤتيهم الله خيراً.
فإذا تغيرت الأنفس سيتغير ظاهر
الإنسان، وسيتجه إلى العمل والعلم والحضارة والبناء والتعمير.
وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا من خلال الاعتماد على فقدانهم المال
والجاه.
اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي
أَنفُسِهِمْ: فإذا كان الذي في أنفسهم خير سيكون لهم التقدم والازدهار.
ومن أين لنا أن نتحدث عن أسباب تغيير
ما في النفس، والذي في النفس شيء ليس هو من قبيل الملموسات أوالمحسوسات؟
ووجدت نفسي أبحث في كتاب الله تعالى،
لأن كتاب الله تحدث عن الأنفس كما تحث عن ظاهر الإنسان، ووجدت أنني لا أستطيع أن
أحدثكم عن طرق ارتقاء النفس وانحطاطها إلا من خلال الإحصاء والاستقراء.
فقرأت كتاب الله سبحانه وتعالى باحثًا
عن اللفظ الصريح الذي يدل الإنسان على طريق ارتقاء نفسه.
طريق ارتقاء ظاهره معلوم لديكم فهو بالتعلم
والتكسب والتدريب على العمل والبناء والتعمير، أما طريق تغيير النفس فلا بد
للإنسان أن يبحث عنه من خلال الدلالات التي دل عليها كلام خالق النفس.
فوجدت بعضاً مما أرشدني القرآن إليه
في طرق ارتقاء النفس وطرق انحطاطها، ولنبدأ بطرق ارتقاء النفس فقد سئمنا من
الانحطاط.
أولاً - وجدت أن من طرق ارتقاء النفس
ذكر الله تعالى في النفس.
دل عليه قوله تعالى:
(وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ)
الأعراف:205
وهي الحالة التي ينظر فيها الإنسان
إلى باطنه فلا يرى فيها غرائزه..
وينظر الإنسان فيها إلى باطنه فلا
فيها شهواته..
وينظر الإنسان فيها إلى باطنه فلا
يرى فيها علائقه..
وينظر الإنسان فيها إلى باطنه فلا
يرى فيها الدنيا..
بل ينظر فيها إلى باطنه فلا يرى فيها
الآخرة..
إنما ينظر فيها إلى باطنه فلا يرى فيه
إلا تعظيم الله.
(وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ) حتى
لا يكون في باطنك مساحة فيها شيء من العلائق.
لو كان هذا من كلام صوفي يتحدث
بمرائيه ومشاهده لقلنا إنما هي أذواق، لكنه كلام الله.
فالطريق الأول لارتقاء النفس هو ذكر
الله تعالى في النفس، وكيف لا تسمو نفس يذكر فيها الله ولا يذكر فيها سواه!.
ونفسٌ لا يذكر فيها الله ستبقى تابعة
للعلائق والأغيار متتبعة للشهوات والغرائز.
الطريق الثاني: ذكر آيات الله تعالى
في النفس:
وقد وجدت ذلك في قوله تعالى:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ
وَفِي أَنفُسِهِمْ:) فصلت: 53
ففي الأنفس شيء مرئي يمكن أن يُرى..
يمكن في لحظة من اللحظات أن يراه
الإنسان، فإذا كان الإنسان يستطيع أن ينظر إلى آيات الله في الآفاق ألا يستطيع أن
ينظر إلى آيات الله في الأنفس؟
وهل آيات الله تعالى في الأنفس شيء
محسوس مرئي حتى يرى..؟
وأسعفني القرآن، فقد قال سبحانه
وتعالى وهو يتحدث عن حديث الآيات المرئي في النفس، بقوله سبحانه:
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي
أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا
بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء
رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ
رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى
أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون) الروم: 9-10.
آيات الله في الأنفس هي دمج لرؤية
آيات الله في الآفاق والتفكر فيها مع رؤية العاقبة.
فالنفس تبحث عن منافعها وتخشى
مضارها، وقد جبلت على إرادة كل لذيذ، والابتعاد عن كل مؤلم.
ينظر الإنسان في نفسه ويتفكر فيجد أن
هذه الآفاق التي رآها صنعة صانع، قادر على فعل ما يريد، ومما فَعَلَهُ أنه عاقب
المسيئين، وكافأ المحسنين، وحين تشهد النفس أن كل من أحسن كوفئ، وأن كل من أساء
عوقب، ترتقي بمشهد آيات الله تعالى فيها .
فمن منا يبحث عن طريق الارتقاء؟
ومن منا يسلك طريقًا من طرق ارتقاء
النفس هذه.
الطريق الثالث: طريق حركي.
وهل يمكن للإنسان أن يرقي نفسه بحركة
؟ نعم؛لأن الظاهر ينعكس على باطن الإنسان.
فمن طرق ارتقاء النفس أن يندفع الإنسان
لخدمة دين الله، لأن اندفاعه إلى خدمة دين الله سبحانه وتعالى سيكون له أثر في نفسه
لأنها ستعاني فيه.
وهذه المعاناة تكون كالنار المحرقة وهي
تنتج عن أمرين اثنين:
- الرغبة في هداية الكافرين.
- والرغبة في تعليم المؤمنين
وتزكيتهم وتهذيبهم.
وكلا الأمرين خدمة لله سبحانه وتعالى
في دينه تنعكس على النفس بمعاناة.
عبَّر عن ذلك قوله تعالى, وهو يخاطبه
حبيبه صلى الله عليه وسلم, ويصف معاناته:
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ
عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)الكهف: 6
وعبَّر عنها بقوله:
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْمُبِينِ، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)الشعراء:
2-3
وعبَّر عنها بقوله:
(فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)فاطر: 8
فمن منا يشعر بهذه المعاناة؟
من منا يشعر بالمعاناة وهو يطمع في
هداية من لا يؤمن قلبه, فتنعكس المعاناة التي في نفسه عليه, فيصفو ويرتقي..
يطمع في هداية الكافرين, ولا يهتدي
الكافرون..ويعاني.., ويعاني.., فيصفو ويرتقي..
أما معاناة النفس في تعليم المؤمنين
وتزكيتهم فقد عبَّر عنها قوله تعالى:
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)الكهف: 28
إنها حالة ننفر منها.. ونقول: من
تعلَّم فليتعلم, و من لم يتعلَّم لا يهمني أمره!
إن تزكَّى, أو لم يتزكّ, أو تأدب, أو
لم يتأدب..!
إننا لا نعرف هذه المعاناة التي عانى
فيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أصبحنا نعاني حين نجد نقصاً فيما
تحويه جيوبنا من الأموال..!
وأصبحنا نعاني حينما لا نجد ما نطمح
إليه من التجارات..!
أما هذا النوع من المعاناة, الذي به
ترتقي النفس, وهي تطمع في هداية الكافرين, وتجد الصدّ, و الردّ ، أو تطمع في تعليم
المؤمنين وتزكيتهم فلا نعرفه!
الطريق الرابع الذي به يحصل للنفس
الارتقاء:أن |