تعلمون وتسمعون وتشاهدون.. كيف يعيش العالم حالة من الاضطراب الخُلقي والفوضى الإنسانية، لأنه أصبح يتحرك بباعث المصلحة المجردة.
انتشر الكذب، وأصبح الإعلام مسيرًا بمصالح الأفراد والقوى..
أمام هذا الواقع يتحتم على من اهتدى بهدي الله، وعلم أنه مكلف من الله تبارك وتعالى بحمل الرسالة الربانية إلى هذا العالم المضطرب على مستوى القريب والبيئة المحيطة، وعلى مستوى أولئك الذين وصلت إليهم صورة الإسلام مشوهة خارج بلاد الإسلام.
وإن هذا يقتضي إعدادًا صحيحًا لأولئك اللذين سيحملون هذه الأمانة، يتناسب مع حجم المسؤولية، وهكذا تجدون أننا نتلمس من آن لآخر ما في كتاب الله تبارك وتعالى من مفاهيم الدعوة، لأننا نجد الحاجة الماسة إلى هذه المفاهيم.
مجتمع وأمة فيها إعدادُ الدعاة ستكون أمةً خيِّرَة معطاءة، لأن الدعوة لن تفرز مجرد إصلاح إنساني بل إن الإصلاح الإنساني سيثمر إصلاحًا ماديًا أيضًا، والإصلاح المادي تابع للإصلاح الإنساني، فإذا تخرب الإنسان وحاول أن يعمِّر المادة ستكون تلك المادة قاتلة له، وراجعة إليه بالخراب، وحينما ينطلق الإصلاح المادي مع الإصلاح الإنساني ستكون تلك المادة معمِّرة وفاعلة فعلاً خَيـِّرًا في المجتمعات.
(إِنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وفي سورة الشعراء نجد وصايا خمس توجهت من الله تبارك وتعالى إلى الدعاة، أردت أن أجعل هذه الوصايا التي يوجه الله سبحانه وتعالى بها الدعاة، محورًا في حديثٍ مجمل يكون كالعناوين التي يتدبرها كل واحدٍ منا فيما بعد.
وهي مجموعة في قوله تبارك وتعالى:
(فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ، وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الشورى (213-220).
الوصية الأولى:(فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ).
الوصية الثانية: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).
الوصية الثالثة: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
الوصية الرابعة: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ).
الوصية الخامسة: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
أما الوصية الأولى فهي: قوله سبحانه وتعالى:
(فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ).
إن الذي يريد أن يدعو إلى الإسلام، ويريد أن يدعو على الخير، ويريد أن يدعو إلى الرسالة الربانية التي أنـزلها الله تبارك وتعالى لتُصلح الإنسان، لا بد أن ينطلق أصلاً من حقيقة التوحيد التي استقرت في قلبه.
وهكذا تجدون في سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه أول ما دعا: دعا إلى حقيقة التوحيد، وأراد أن يثبتها في القلوب قبل أن يرسلهم في مشارق الأرض ومغاربها، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (قولوا لا إله إلى الله تفلحوا).
(فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ).
ما الصلة بين التوحيد والخروج من العذاب؟
هل تعني الآية مجرد العذاب الأخروي الذي يقع فيه من كان التوحيد غير متحقق حقيقة فيه، أو من كان في قلبه مع التوحيد الشوائب؟
هل ينحصر مفهوم العذاب في عذاب الآخرة؟
لا...
إن أي شائبة تدخل إلى قلب الإنسان فيكون فيها متوجهًا ولو للحظات إلى غير الله سبحانه وتعالى، سوف يثمر ذلك عذابًا في باطنه وفي ظاهره..
- سيكون معذبًا في روحه لأن الروح خلقها الله سبحانه وتعالى لا تقبل إلا التوحيد، ومنذ خلقها أشهدها: (ألست بربكم قالوا بلى)، فالروح التي نفخها الملك بأمر الله سبحانه وتعالى في الإنسان روحٌ لا تقبل إلا التوحيد، وحين يتوجه الإنسان إلى غير التوحيد تتعذب تلك الروح، (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) طه (124).
ولن يعرف راحة الباطن، لأن روحه فطرت وجبلت وخلقت على التوحيد، وشهدت منذ خلقها باريها بالتوحيد.
- وإن قلب الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى لن يجد في باطنه وفي قراره مستقرًا إلا للكلمة الطيبة.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) إبراهيم (24).
وثبات ذلك الأصل هو في القلب، فأرض القلب لا تقبل إلا الكلمة إلا الكلمة الطيبة، لا تقبل إلا (لا إله إلا الله).
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) إبراهيم (24).
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)فاطر (10).
لأنه ثمرات كلمة التوحيد، أي ثمرات الكلمة الطيبة.
(وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ – وهي كلمة الشرك – كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لهَا مِنْ قَرَار) إبراهيم (26). أي ليس لها قرار في أرض القلب.
وهكذا فإن الذي يضع في قلبه غير كلمة التوحيد سيعاني من الاضطراب، لأن الثبات لا يكون في القلب أبدًا إلا بحقيقة التوحيد.
واقرؤوا قوله تعالى:
(يثبت الله اللذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) إبراهيم (27).
يعني يثبت الله قلوبهم على الحقيقة، يثبت الله سبحانه وتعالى قلوبهم على الحق فلا يثبت القلب أبدًا إلا بالتوحيد.
(فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) في روحك.
(فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) في قلبك.
- (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) في عقلك:
لأن عقلك لن يقبل إلا أن يكون هذا الكون المنظم المنسق مسيرًا بقدرة واحد، فإذا حاول العقل بشيء من طرقات استدلالاته أن يوجد مخرجًا ما فإنه لا يقدر، ولن يكون منسجمًا مع ذاته إلا بالتوحيد، ولا يمكن أن يقبل إلا الوحدانية، وإن العقل الذي ينصرف إلى الأهواء، والمألوفات والمحسوسات معرضًا عما تقتضيه جبلته سيكون عقلاً مهيَّمًا في الشكوك مضطربًا لا يعرف استقرارًا في التفكير أبدًا.
(فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) في روحك وفي قلبك وفي عقلك.
- (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) في نفسك:
لأن الله سبحانه وتعالى أعطى نفس الإنسان ما تحتاج إليه بميزانه الشرعي، فإذا أخذت النفس من غير ميزان الله سبحانه وتعالى فستكون معذبة، ستكون الأسرة معذبة، وسيكون الولد معذبًا، وسيكون الوالد معذبًا، وستكون الأم معذبة، وسيكون المجتمع معذبًا، لأن الله سبحانه وتعالى خلق للنفس ميزانًا وأنـزله، فإن هي أخذت من غير ذلك الميزان المستند إلى حقيقة التوحيد ستكون معذبة، وشتان شتان بين النفس اللوامة المضطربة، وبين النفس المطمئنة الراضية، وشتان شتان بين النفس الأمارة بالسوء التي تعيش حالة القلق والاضطراب، وتعيش حالة الفوضوية والعشوائية، فلا تعرف الراحة أبدًا ولا تعرف إلا الإجرام، وبين النفس الكاملة التي توجهت في سلوكها إلى ذلك الميزان فاستقرت وكانت في حالة من الطمأنينة والرضوان.
- (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) في جسدك:
لأن الجسد لا يمكن أن يكون في حالة من الاستقرار والسلامة إلا حينما يكون على صراط الله.
هل يمكن لذلك الجسد أن يكون في حالة من السلامة وهو يرتكب الزنا؟
لا، والله.
هل يمكن لذلك الجسد أن يكون في حالة السلامة وهو يتناول الخمر المحرم؟
لا، والله.
وهكذا تجدون أن ميزان الشريعة حمى الجسد وحمى النفس وحمى العقل وحمى القلب وحمى الروح من العذاب، فإذا استند الإنسان إلى حقيقة التوحيد كان في حالة من الراحة.
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا هل يستويان مثلا) الزمر (29).
مثال يضربه القرآن الكريم ليبين حالة الاضطراب التي يعيشها الإنسان حينما يحيد عن التوحيد: عبد اشتراه نفر فكان كل واحد منهم يأمره بأمر وهو في حالة من الحيرة لا يدري سيرضي أي سيد منهم، وعبدٌ آخر لم يتوجه إلاّ إلى سيد واحد هل يستويان مثلاً؟ فهو يبحث عن مرضاة سيده ولا يهمُّه بعد ذلك أي شيء، تلك هي حالة التوحيد التي يخرج فيها الإنسان من العذاب.
والعذاب الذي يعيشه العالم اليوم هو لبعده عن حقيقة التوحيد، فلو أن التوحيد استقر في باطنه لحصلت له الراحة ولكنه ابتعد عن حقيقة التوحيد والتفت إلى الجواذب التي بقي فيها معذبًا.
فإذا كنت تريد أن تحمل الدعوة، وتريد أن تحمل الرسالة ثم أنت لا تعاني ذلك التفاعل الباطن مع حقيقة التوحيد فلن تكون ناجحًا، وستبقى في كلماتٍ أو شعاراتٍ تحملها.
فالمنطلق في الدعوة استقرار حقيقة التوحيد في القلوب.
الوصية الثانية:
(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)
وهذه الوصية تنبه الداعي حتى يدعو أولاً في الدائرة القريبة منه.
فالدائرة القريبة ينبغي أن تأخذ اهتمامه الأول قبل أن ينظر في دعوته إلى الدوائر البعيدة.
فلا بد أن يعي الإنسان بيئته، وأن يتدرب في بيئته، والبيئة القريبة بيئةُ تدريب، ولها حق على هذا الداعية، وعلى الإنسان أن يعيرها اهتمامه حتى وإن أنكرته كما حصل عندما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدائرة القريبة، فلم تستجب له تلك الدائرة القريبة، ولم يجبه منها إلا الأفراد، وكانت استجابتها متأخرة وتالية لاستجابة الدائرة البعيدة، وقوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) لا يعني أن على الإنسان أن يمضي عمره في الدائرة القريبة متوقفًا عندها، لكنه ينبغي أن يبدأ بها حتى وإن هي لم تستجب له، ستستجيب عندما تتخطاها الدعوة إلى الدائرة البعيدة، لكنه سيكون مغفَّلاً وبعيدًا عن سنة الله ووصيته للدعاة حين يبدأ في الدائرة البعيدة قبل أن يبدأ في الدائرة القريبة، فالدائرة القريبة التي تحيط بك لها حق عليك، وينبغي أن تعيرها انتباهك، واهتمامك، وتوجهك.
الوصية الثالثة:
التي يوصي بها ربنا تبارك وتعالى الدعاة فهي في قوله تعالى:
(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
وهكذا تنتهي حالة التميز التي تبعد الداعية عن الآخرين، الوصية التي تأسس للمجانسة والمماثلة، فلا ينبغي أن يكون التمايز والتباين بين الداعية والمدعوين، فكلما وجدت أواصر الحب التي سببها انتفاء الفوقية (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَك) ستنجح الدعوة.
إن المدعو إذا استجاب لما تحمله من الرسالة الحق والنور، فإن ذلك يقتضي أن تستشعر فضل الله سبحانه وتعالى عليك وعليه، وينبغي أن تستشعر أن الله سبحانه وتعالى وصل بينكما برابطة المحبة، وجعلكما معتصمَين بحبله، فلا يوجد في الإسلام طبقات كهنوتية، ولا يوجد في الإسلام فوقية..
لا يوجد في الإسلام إلا التواضع والمحبة، ولا يوجد في الجماعات التي تحمل رسالة الله سبحانه وتتحرك بالدعوة إلى الله سبحانه إلا تواضع ومحبة وفتوة وإيثار، فإن وجد ذلك فإن هذا يعني سلامة تلك البيئة التي تتحرك بالدعوة خالصة لوجه الله، وإذا لم يكن ذلك موجودًا فإنه يعني وجود النفوس، ويعني أن ذلك التجمع يحتاج إلى تطبيب.
كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس يأكل تقول المرأة: انظروا إليه إنه يأكل كما يأكل العبيد، فيقول: وهل عبد أعبد مني.
وليس التواضع لمن أثبته لنفسه، فالتواضع حال يعيشه الإنسان في باطنه، ويرى فيه فضل الله عليه، ويرى حقيقة قوله تعالى:
(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء(113)
لا يشعر بفوقية العلم، ولا بفوقية العمل، ولا بفوقية النجاح، ولا بفوقية الأداء، لكنه يشعر أن أي واحد مهما كان صغيرًا، هو كأس قد يملؤها الحق سبحانه وتعالى بما يشاء، فالعباد كلهم كؤوس فارغة يخلق الحق سبحانه وتعالى عندها ما يشاء.
ضرب الحق لنا أمثلة كثيرة:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)الأعراف(175)
ضرب هذه الأمثلة حتى يبقى الإنسان معترفًا بفضل الله عليه.
وإذا نظر الإنسان إلى أكرم خلق الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم قرأ قوله تعالى:
(وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)الإسراء(86)
أيُّ خطاب هذا؟ إنه خطاب ملك الملوك سبحانه لأكرم المخلوقات على الله (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)الإسراء(86)
فلا يبقى بعد هذا الخطاب رأس يرتفع، ولا يبقى للإنسان إلا طريق العبودية، فهو يسجد ليقترب.
داعيةٌ متكبر: فاشل، ولا يمكن في حالة من الأحوال أن يكون ناجحًا إن لم توجد حقيقة التواضع التي هي مقدمة الحب في سلوكه وفي حاله.
الوصية الرابعة:
(فَإِنْ عَصَوْكَ) اتبعوك، لكنهم عصوك (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ)
ينبغي أن تقفوا متأملين قوله تعالى:
(إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) فبينك وبين ذلك المتبع صلة ورابطة، لم يقل: إني بريء منكم، لكنه قال (إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ)
وهكذا توقفك الآية أمام أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن الصلة بينك وبين أهل المعصية الذين بينك وبينهم رابطة الإيمان ينبغي أن لا تفصل بينك وبينهم، وينبغي أن تبقى رابطة المحبة بينك وبينه مع البراءة من أعمالهم التي لا ترضي الله سبحانه..
الحق يحكم على الرجال، ولا يحكم الرجال على الحق، والميزان الشريعة، فالشريعة هي التي تحكم.
(فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) لست بريئًا منكم لكنني بريء من عملكم..
بيني وبينكم رابطة محبة، لكن رابطة المحبة لا تسمح أن أمرر لكم سلوكياتٍ خاطئة، لأن ميزان الشريعة هو فوقكم وفوق كل كبير وصغير، والمجاملات لا تكون بين الإخوة المتناصحين من أهل المحبة.
(فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) فالحق أحق أن يتبع، وهكذا نجد جانبين اثنين:
الأول: أنك لا تتبرأ منه.
و الثاني: أنك تتبرأ من عمله.
القرآن الكريم أثبت البراءة من المشرك:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْه)التوبة(114)
وفي سورة التوبة:
(وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)التوبة(3)
إنها حالة المفاصلة، إنها الحالة التي يقول فيها الإنسان:
(قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)الكافرون(16)
هي حالة المفاصلة القلبية، وفرقٌ بين المفاصلة القلبية وبين السلوك الإنساني الذي من خلاله تستطيع أن تقسط وأن تبر وأن تحسن إلى الآخر الذي لم يدخل في الإسلام، ففرقوا بين الأمرين.
(لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه)المجادلة(22)
الود في قلبك ممنوع، فثمة مفاصلة بين قلبك وبين الذين حاربوا الله ورسوله، وأبوا أن يدخلوا في دين الله، لكن الذي يحكم سلوكك هو شريعة الله سبحانه وتعالى، والشريعة لا تمنع أن تبر غير الحربي..
الحربي يقتل، ويده التي امتدت إلى بلاد الإسلام تقطع..
الحربي ليس له عهد ولا ذمة، فالذي يدخل بلادنا، يطأ أرض فلسطين محتلاً، أو يطأ أرض العراق محتلاً يقتل، والذي يقتله هو من أعظم من يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه يقتل غازيًا محتلاً..
شتان بين من يخرج خارج بلاد الإسلام ليفعل تدميرًا أو قتلاً وبين من يقتل محاربًا في أرض الإسلام دخل إلى أرض الإسلام محتلاً غازيًا..
وهكذا فإن المقاومة للمحتل هي من أعظم القربات عند الله سبحانه وتعالى.. تلك هي حقيقة ينبغي للعالم أن يفهمها، نحن لسنا خِرافًا ولا نِعاجًا، أمة الإسلام ليست أمة خراف حتى وإن أراد لها الآخرون أن تكون أمة خراف، حتى وإن كان حالهم حال خراف، لكن الإسلام يدعوهم أن يكونوا أسودًا، يدعوهم أن ينافحوا عن أرض الإسلام عندما تمتد إليها اليد الغازية المحتلة.
الوصية الخامسة:
وهي تضمن لمن يدعو إلى الله تعالى ثباتاُ وقوة وعزيمة وتتمثل في قوله سبحانه:
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم)
اعتمد عليه إن كنت بعد تلك المقدمات الأربعة، بعد حقيقة التوحيد، وبعد الإنذار في الدائرة القريبة، وبعد التواضع والأخلاق، وبعد البراءة من غير الشريعة، والمفاصلة... بعد ذلك لا تلتفت، استند إلى الله، واعتمد عليه، وتوكل عليه، قل: وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنـزلت، ونبيك الذي أرسلت..
توكل على الله بعد هذا ولا تلتفت، وقل ما قاله خبيب:
ولست أبالي حينما أقتل مسلمًا على أي جنبٍ كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشـأ يبــارك على أوصال شِلوٍ ممزعِ
توجه إلى الله بعدها وتوكل عليه ولا تلتفت، لكنك بحاجة إلى تدعيم هذا التوكل، لذلك قال:
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)
فما توكلك على الله ورد إلا حينما رآك الله في القائمين بين يديه في الليل، وفي الساجدين بين يديه، إذا لم تكن فيك في سلوكك مواظبة على قيام ولو لركعات، وسجود تتململ فيه بين يدي مولاك، لا يمكن أن تشعر بحقيقة الاستناد والتوكل عليه، (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيز) والعزيز هو المالك المنفرد في ملكه، في نفوذه، في قدرته (الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) فهو سبحانه وتعالى الذي جمع بين العزة والرحمة
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
سمِعَكَ، وسمع مناجاتك، وسمع مناداتك وأنت تقول في الليل: يا الله، وهو يقول: ألا هل من سائل يسأل فأعطيه، ألا هل من مستغفر يستغفر فأغفر له، ألا.. ألا.. حتى يطلع الفجر، أو حتى يضيء الفجر، أو حتى ينفجر الفجر كما في الروايات.
وهكذا.. إن كنت مستفيدًا من هذه الوصايا ستكون الداعية الناجح، وإن قصرت بواحدة من هذه الوصايا الخمس فلا بد أن خللاً سيظهر في دعوتك.
اللهم ردنا إلى دينك ردًا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أقول هذا القول واستغفر الله.
|