حينما واجه صف الباطل صف الحق زمن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، نزل الخطاب الرباني يؤنس القلب المحمدي الكريم، ويؤنس كل قلب يستمد منه في آية في كتاب الله تبارك وتعالى يقول فيها:
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الأنفال(62-63)
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) : أي إذا أراد صف الباطل أن يسلك سبيل المكر والخديعة والالتفاف على الحق فإن الله سبحانه وتعالى هو حسبك ، وسيكفيك .
فهو الذي قال جلّ من قائل :
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) الزمر (36) بلى.
فالإنسان حين ينتسب إلى الحق وأهله لن يقدر على مواجهة الباطل بمادته، فسنة الله سبحانه وتعالى في عباده أنَّ الباطل عادة يكون أكثر عدداً وعدة ، (وقليل من عبادي الشكور) سبأ (13) ، (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) البقرة (249).
فإذا كان المؤمن يتوهم أنه بمجرد الإعداد المادي قادر على مواجهة الباطل فإنه واهم، فالباطل يحشد حشوده، ويجمع عدده وعتاده، لكنه مخذول من الله تعالى، ولا يوجد في باطنه استمدادٌ منه ، لكن حكم هذا الخذلان لا يظهر إلا إذا وجدت القلة المستمدة المكتفية بالله، ويخفى حكم ذلك الخذلان- أعني خذلان العدو -حينما لا توجد تلك القلة المكتفية بالله سبحانه وتعالى المعتمدة عليه، من هنا نستطيع أن نفهم الخطاب.
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) : فالاكتفاء بالله الذي تحقق في باطنك سيقيك مكرهم وخديعتهم.
ثم أظهر في الآية مظاهر تأييده سبحانه وتعالى، وثمرات الاكتفاء به ، وهي أمور ثلاثة.
الأمر الأول: نصره : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ).
والأمر الثاني: تأييده لك بجماعة المؤمنين: ( وَبِالْمُؤْمِنِينَ).
والأمر الثالث: التأليف بين قلوب تلك الجماعة التي أيدك بها: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ).
أولاً - نصره (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) : وحقيقة النصر حالة يستطيع الإنسان أن يكون فيها فوق المادة ، وفوق عدوه، حتى وإن قتله عدوه ، لكنه يكون منتصراً عليه.
إن سعيد بن جبير رحمة الله عليه الذي قتله الحجاج يوماً من الأيام، قتله وبقي سعيد منتصراً على قاتله الحجاج ، وبقي ذلك القاتل حتى خائفاً مات ، فتسلط الرعب عليه حتى صار يشعر أنَّ سعيد يريد أن يقتله في كلِّ لحظة.
فمن منهما كان المنتصر؟.
القاتل أم المقتول ؟.
النصر حالة من العلو التي يمن الله سبحانه وتعالى بها على أحبابه حتى يستحقر غير الله، ويكون سيداً، لا سيد له إلا الله.
ألم يقل سبحانه وتعالى: (وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران(139) .
وهكذا فإن قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) حقيقة ثابتة، قد يظهر أثرها بقوانين المادة، وقد يكون أثرها على الفرد والجماعة من خلال التعزز بالله سبحانه وتعالى ، وعدم الالتفات إلى سواه.
وقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ)
هذا هو مظهر التأييد الأول، والثمرة الأولى للاكتفاء بالله سبحانه وتعالى .
ثانياً- وجود الجماعة المؤمنة التي تحيط بذلك المكتفي بالله : أو الصحبة الصالحة والجماعة المؤمنة التي تشترك معه في المقصود.
(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي : وأيدك بوجود المؤمنين الذين كنت فيهم، وكانوا معك ، وكنت معهم حباً ووداً وإخلاصاً وصدقاً...
هذا هو الكنز المفقود الذي شُغِلَ كثير من أهل الإسلام عنه ، فشغل في دائرة سلبيته عنه، وشغل في دائرة مآربه عنه ..
الكنز المفقود الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يجد مقصوده ، فإذا توجه قلبك إلى الله ولم تجد من يشاركك في هذا المقصود ؛ سيضعف ذلك المقصود في قلبك، وإذا توجه قلبك إلى الله فعلمت أن الآخرة خير لك من الدنيا ثم وجدت من يشاركك في هذا المقصود حتى أصبح باطن كل منكما مجانساً ومشتركاً مع باطن أخيه بعيداً عن المآرب، وبعيداً عن التطلعات الدنية أو الدنيوية عندها سيستطيع الإنسان تقوية مقصوده ذاك، هذه حقيقة .. فالمقاصد لا تقويها إلا صحبة المشتركين معك فيها.
(وللآخرة خير لك من الأولى) الضحى (4).
هذا مقصودٌ وتوجهٌ نوراني يظهر في حياة الإنسان، وتظهر آثاره عليه ، فإذا ضعف هذا التوجه ووجد أنه قدم في بعض الأوقات دنياه على آخرته، فماذا يصنع حين يهبط وينحدر، والله سبحانه يقول: (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ ) المائدة (49)؟
وما أكثر المغريات، وما أكثر من يرغبك في الدنيا أكثر من الآخرة، وما أكثر من يزين لك المال أكثر من تزيينه لك الجنة، وما أكثر من يربطك بالأرض، وما أكثر من يدفعك دفعاً حتى تسعى إلى الشهرة، وما أكثر من يزين في نفسك ثناء الخلق، وما أكثر من يصرفك عن العبودية، إذا فمن أين لك أن يوجد ذلك المقصود مستمراً وقوياً في باطنك، ومن أين لك أن تحافظ على توجهك إلى الله والدار الآخرة؟ ومن أين لك أن تحافظ على إرادة الله ورسوله والدار الآخرة ؟ وكل الجواذب تحيط بك، وكل العلائق تجذبك لتصرفك إليها : (قل إن آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) التوبة (24)
حينما تجد نفسك متحفزة لتكون مجاهدة باذلة للجهد ثم تجد من يشغلك ويأخذك إلى العلائق، لن تستطيع الخروج إلى قوة المقصود ذاك حتى يوجد في باطنك الاكتفاء بالله الذي من ثمراته أنه (أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) فكنت فوق المادة وانتصرت عليها ، وانتصر باطنك على الأشياء ، ثم أيدك ( بوجود أصحاب المقصود المشترك معك )
ومثل الله سبحانه وتعالى وجود المؤمنين الذي يمثل ذلك التأييد بقوله سبحانه: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) الفتح (29)
ثالثاً- التأليف بين قلوب الجماعة المؤمنة المحيطة بذلك المكتفي بالله :
فهذا التماسك لا يتحول من ظاهرة فردية أو ثنائية إلى ظاهرة جماعية حتى يسري في تلك الجماعة المتماسكة مفهوم الحب في الله الذي عبر عنه في الآية في قوله:
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) فكان التأليف بين القلوب مصدره التوجه إلى الله, فلما تحقق توجه الروح حقيقة إلى الله والانصراف عن الخلق حقيقة وحالاً حاضراً متحققاً في القلب ، لا كلاماً ولا لقلقةَ لسان .
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)
فمهما أردت أن تكون المادة سبب تأليفٍ لهم لم تكن سبباً للحب والتأليف , فالذي يؤلف بين قلوبهم هو الانجذاب إلى الله تعالى .
فحين وجد المقصود المشترك وتوجهت البواطن إلى الله سبحانه وتعالى ظهر مفهوم الحب في الله, وليس مفهوم الحب لله كالحب في الله.
مفهوم الحب في الله الذي يربط الجماعة المؤمنة المتماسكة مفهوم يبدأ بالتعلق بالله سبحانه وتعالى والانصراف عن غيره , فإذا تحقق ذلك التعلق حالاً وذوقاً حتى كان جاذباً للإنسان, وصار ذلك الإنسان متمكناً ومستغرقاً فيه, ينتجُ ذلك مرحلة ثانية من التجاذب الروحي بين أولئك الذي صفت بواطنهم وتعلقت بالله.
ولا نجد غريباً بعد ذلك أن نسمع في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
فيما يرويه معاذ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ.
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:
إِنَّ الْمُتَحَابِّينَ لَتُرَى غُرَفُهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَالْكَوْكَبِ الطَّالِعِ الشَّرْقِيِّ أَوْ الْغَرْبِيِّ فَيُقَالُ مَنْ هَؤُلَاءِ فَيُقَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
المتحابون في الله, استغرقوا في الله فتجانست أرواحهم, ولما تجانست حصل ذلك التجاذب الروحي .
ليس ميل النفس إلى النفس هو الحب في الله , لا... فالنفس تميل إلى المحسوسات, إنما هو انجذاب الروح, فإذا حصل انجذاب الروح إلى باريها حصلت المجانسة, وذلك هو مفهوم يختلط على الكثيرين, فيخلطون بين انجذاب الطبع إلى الطبع, الذي هو انجذاب النفس إلى حسن الهيئة وحسن السمت, وبين انجذاب الروح حين تعلقت بالله, فلما تعلقت بالله حصل التجانس, فلما حصل التجانس حصلت حقيقة التعاضد المعنوي الروحي, فقوي المقصود.
قال علي رضي الله تعالى عنه كما يروي النسائي في سننه رحمه الله:
إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يَبْغُضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ.
إنها قضية تجاذب عفوي, لا يستطيع الإنسان دفعه, فإذا صفوت ستجد تجاذباً بينك وبين من صفا ..
اعذروني حين أقول: إن آفة من يدعو إلى الله, وإن آفة من يدعي التصوف, وإن آفة من يدعي الشيخوخة, وإن آفة من يدعي العلم أن الصفاء موجودٌ في اللسان, فلو تحقق الصفاء في الباطن لاجتمع أهل الصفاء في ساحة الصفاء ..
لو أن الصفاء تحقق وانتفى التعلق بالخلق، وتحقق التعلق بالله فأي مانع أو حاجز يمنع أن يكونوا أصحاب الحب في الله؟ لكنها المآرب, والأغراض, والتعلق بالخلق, والتعلق بالأشياء, وهكذا عانت ساحات دعوتنا الإسلامية من أفكار ما أكثرها! ومن كلمات رنانة، وشعارات ومبتكرات ومبادرات, ولو أن هذا الإنسان صفا واكتفى بالله وجعل قوله تعالى: (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) منهاجه وقاعدة طريقه, ولم يلتفت باطنه إلى العلائق, سيجد أن انجذابه إلى الله يجمعه حقيقة مع من صفا, فلا يجتمع من صفا مع من صفا إلا ويحصل التجاذب, إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليه, هكذا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا علي رضي الله عنه, وليس المقصود عليّ وحده إنما هو أنموذج, أنموذج صفائي تخلص من الأغيار والعلائق , الفدائي الذي بات في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلتفت إلى الخلق, الذي باع نفسه وماله وأنفاسه وروحه لله, فتخلص حقيقة من الأغيار, ولم يكن تخلصه بمجرد كلامٍ أو دعاوي إنما كان مظهرَ الصدق في التخلص, فلما صفا عهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبه إلا مؤمن, ولا يبغضه إلا منافق, ولماذا يبغضه المنافق ؟
لأن المنافق قدم المحسوس على الغيب ، وقدم الدنيا على الآخرة, فلما قدم المحسوس على الغيب, وقدم الدنيا على الآخرة, وقدم الخلق على الخالق, لم يجد مناسبة أو مجانسة بينه وبين ذلك المتخلص من العلائق, ولن يستطيع محبته , سيعجز عن محبته لأنه سيجد حاجزاً بينه وبينه, فإذا زالت تلك الحواجز ورجع المقصود مشتركاً سيرجع ذلك التجاذب,
لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يَبْغُضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ
فإذا فهمنا هذه الحقيقة علينا أن نعيد تصحيح حساباتنا, وأن ننظر في قلوبنا فإذا وجدنا فيها بقية لغير الله سنفهم أن المعادلة فيها كثير من الخلل .
( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ) فالمنطلق في القلب: اكتفاؤه بالله.
النتائج والثمرات:
- (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) فكنت فوق المادة ولم تكن المادة فوقك, وكانت همتك فوق الخلق, ولم يكن شيء من العلائق ينتصر على قلبك.
- (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فهيأ لك الحق سبحانه وتعالى بسبب ذلك التجانس والتجاذب قلة مؤمنة صفت وتعلقت بالله.
- (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) فازداد كل يوم ذلك التأليف والتآلف؛ لأن المقصود يزداد كل يوم, لأن المقصود الذي هو التوجه إلى الله سبحانه وتعالى يزداد بالمدعمات .
اللهم إنا نسألك الاكتفاء بك, لا توجه قلوبنا إلى غيرك, وارزقنا حقيقة الحب فيك, وردنا إلى دينك رداً جميلاً, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله
|