بسم الله الرحمن الرحيم
تقدم الكلام على أن علامات القبول إنما هي خمسة, جمعت في قوله تبارك وتعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ:
(الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).
(وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا).
(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ).
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). الأنفال(1-3)
فكانت علامة القبول الأولى منطلقاً لكل العلامات, لأنها حقيقة الإيمان, وهي صلة العبد بربه
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ
فلما حصلت تلك العلامة في القلب التي من خلالها استشعر وجودَ خالقه وباريه, احتاج إلى ما يزيد إيمانه, فكانت العلامة الثانية, فأصغى قلبه إلى ذلك الصانع والخالق الذي صنعه وخلقه وبراه ، فكانت العلامة الثانية: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)
وكلما أصغى قلبه إلى كلام صانعه وباريه ارتقى في إيمانه ويقينه وخشيته.
ثم جاءت العلامة الثالثة (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ), فلم يستند ولم يعتمد بعد تلك العلامتين إلا على مولاه, فكان داعمه, وكان مصدر استناده.
ثم جاءت العلامة الرابعة: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ)
فكان في عبادته مع حقيقة العبادة لا مع صورتها.
ثم جاءت العلامة الخامسة ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) , التي هي الثمرة السلوكية, والمرآة, التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يثق بوجود العلامات السابقة, لأن العلامات الأربعة التي سبقت قد تحصُل فيها الدعاوي ، أما الثمرة السلوكية التي هي النتيجة الواقعية التطبيقية فإنها المرآة التي من خلالها يستطيع الإنسان أن يزن قبوله أو نجاحه أو تحقق العلامات فيه.
وأحببت أن أقف عند العلامة الخامسة, حتى نجعلها منطلقاً في هذا اليوم المبارك.
إن قوله تبارك وتعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إنما هو عنوان كبير, ذلك أن الحق سبحانه وتعالى رزق الإنسان وجوده, ورزق الإنسان جسده, ورزق الإنسان وقته, ورزق الإنسان صحته, ورزق الإنسان علمه, ورزق الإنسان قوته, ورزق الإنسان فهمه...
وهكذا تندرج النعم كلها التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان في مفهوم الرزق (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)
لكنه سبحانه وتعالى في هذه العلامة قال: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)
فلم تنحصر تلك النعمة التي تلقاها من حضرة مولاه في دائرة فرديته وأنانيته، إنه بعد أن كان آخذاً صار معطياً.
هنا تظهر ثمرة السلوك, وتظهر علامة القبول.
(فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) الليل(5-7)
حينما لا يكون الإنسان مجرد آخذ , لكنه يكون المتفتي المعطي, هنا عند هذه العلامة ينقسم الناس إلى قسمين:
قسم ما أحسنه في الأخذ وهو يبحث عن منافعه
وقسم آخر هو صاحب التفتي والعطاء, هو ذلك المعطاء الذي عرف أن هذا العطاء يدل على قبوله, ويدل على كمال إيمانه, وعند هذه النقطة ينقسم الناس إلى قسمين:
- الكسالى الذين ينتظرون الفتات والأخذ ..
- والقسم الآخر الذي يخرج ليتفتى , وليكون المعطاء على جميع الأصعدة, لاينتظر الثواب العاجل, إنما يفهم أن معاملته إنما هي معاملة مع ربه ..
هو المعطاء الذي أخرجه الله للناس (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس)آل عمران(110) ما أُخرج لنفسه إنما أخرجه الله تعالى للناس .
ولما فهم معنى الإخراج للناس كان المعطاء الذي يتميز عن الكسالى الآخذين.
إن البلاد الإسلامية تحتاج إلى هذا الصنف, وما قامت نهضة الأمة الإسلامية إلا عندما كثر ذلك الصنف المعطاء.
ولو أن أمتنا الإسلامية في تاريخها كانت مجرد أمة آخذة لما قامت نهضة إسلامية أبداً, لكن عندما نقرأ سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أن ذلك الصنف كان صنفاً معطاءً (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة) التوبة(111)
فكانوا أصحاب العطاء على جميع الأصعدة.
وهكذا ومن خلال هذه المقدمة يظهر صنفان:
صنف قوّال لا فعل له .. صنف كسول ينتظر الأخذ من غير عطاء ..
وصنف آخر يجتمع القول فيه مع الفعل وينسجم .
والقرآن الكريم أكد تلك الحقيقة في بيان صريح عندما قال سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) الصف(2-3)
وفي تفسير قوله تعالى:
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه) فاطر(10)
قال ابن عباس رضي الله عنهما وتلامذته:
المعنى في الآية, العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه)
والمعنى : أن العمل هو الذي يرفع الكلم , فقولٌ من غير عمل لا يُرفع , وإذا وجد العمل بعد الكلم الطيب رفَعَ العملُ الصالح الكلم الطيب .
ومما يعضد ذلك حديث أخرجه الديلمي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كما ينقل صاحب الكنـز يقول فيه:
(لا قول إلا بعمل ولا عمل إلا بنية) عندما يكون القول والعمل منبعثان من نية يراد بها وجه الله، لا قول إلا بعمل.
إذاَ مصيبة الأمة مصيبة كبيرة حينما يكثر القوّالون ويقل الفعّالون ..
مصيبة هذه الأمة حينما تريد البناء والنهضة، وتريد أن تكون لها مكانة بين الأمم حين تكثر أقوالها وتقل أفعالها، وشُخّص ذلك المرض تشخيصاً عجيباً في آية في كتاب الله نقرؤها يقول فيها سبحانه:
(لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) آل عمران.
وعندما يطلق الله سبحانه وتعالى لفظ العذاب ثم يكرر ويقول: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) فإنه يشعر أن العذاب الأول هو العذاب العاجل، ولهم عذاب أليم آجل، (فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ).
ألا يعيش عالمنا اليوم حالة العذاب؟
ألا يعيش اليوم عالمنا الإسلامي حالة الذل والمهانة والضعف ؟
أليس واقع عالمنا الإسلامي الذي نعيشه اليوم يمثل حالة من العذاب؟
وها هي السهام التي توجه كل يوم إلى بلادنا الإسلامية في العراق وفي السودان وفي الشرق وفي الغرب، وتهدَّد سوريا وتقاطَع ..
أليس هذا يشكل حالة من العذاب ؟
إذاً فنحن نعيش النتيجة وما علينا إلا أن نلتفت إلى المقدمات.
(لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ)
وقفت أمام صيغة أتوا وما يقابلها في كتاب الله من صيغة آتوا، هنا يكون التقابل، لأن تفسير قوله تعالى هنا كما يذكر المفسرون رضي الله عنهم :
(لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ) يعني من القبيح.
ومع كونهم أتوا ذلك القبيح وأتوا بالقبيح يفرحون بما أتوا !
إنه ضياع الميزان ، إنه الفرح بالمكاسب، لكنّ ذلك الفرِح لا يجد ميزان المكاسب، لا يجد ميزاناً واضحاً لديه يستطيع أن يميز به بين ما يفرح به وما لا يفرح به.
(وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ) فهم أصحاب الدعاوي القوالون الكسالى الذين لا يفعلون، لكنهم يكثرون الأقوال ..
(فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم).
وقد جاء في الصحيحين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة).
وفي الصحيح: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).
إذاً فماذا يصنع المسلم المؤمن المصدق صاحب العلامة، علامة القبول؟.
عليه أن يسمع قوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ) الطلاق(7)
هذا هو الطريق أيها الإخوة .. أيها الشباب .. أيها الكبار .. أيها الكهول .. أيها العلماء .. أيها العاملون أيها الموظفون...
(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ)
الطريق أن يبذل كلٌ منا بمقدار ما يستطيع.
(لِيُنفِقْ) ليؤتِ..
(وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) حتى الذي كان لا يستطيع أن يكون معطاءً كغيره لأنه لم يعط من الجاه أو المال أو سعة العلم ما أعطي غيره (فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) مهما كان استعداده ضئيلاً، أو محدوداً وضيقاً، لكنه مأمور حتى مع استعداده الضعيف ذاك أن ينفق مما آتاه الله، فليس يوجد أحدٌ لم يؤته الله تعالى شيئاً ، هذا آتاه الله سبحانه وتعالى استعداداً يستطيع من خلاله أن يقوم بجهد عضلي، وذاك آتاه الله سبحانه وتعالى استعداداً يستطيع من خلاله أن يقوم بجهد ذهني، وذاك آتاه الله سبحانه وتعالى استعداداً يستطيع من خلاله أن يبذل جهداً عملياً.
يبذل نوعاً من أنواع الجهد، أو نوعاً من أنواع المال ..
كلٌ منا أعطاه الله سبحانه وتعالى شيئاً وما عليه إلا أن يوظف استعداده ذاك، فإذا وظف استعداده وما أعطاه الله سبحانه وتعالى إياه في منظومة منسجمة متكاملة؛ - وحين أقول في منظومة - فإن المنظومة المتكاملة هي منظومة البناء ؛ فنحن أمة بناء ولسنا أمة تخريب ، وأمة البناء تتكامل، ولن تتكامل إلا حين تفهم هذا المنطلق، ولن تفهم هذا المنطلق إلا حينما تعرف ما معنى أن يكون الإنسان خارج دائرة أنانيته وفرديته ونفسانيته، عندها نكون بناة .
أما أن يسعى كل منا حتى يكون القوال الذي تسلط عليه الأضواء دون أن يكون بعد ذلك أي أثر يظهر له على أرض الواقع والتطبيق فإنه عند ذلك سيكون في هذا الصنف الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه:
(فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ).
(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ) هذا هو عنوان البناء، كل بمقدار ما آتاه الله سبحانه وتعالى من السعة،(وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) لا يستثنى، فلا يستطيع أحد أن يقول أنا ممن استثنيت ، فقد ضعف جاهي أو مالي أو علمي أو قوتي ..
والله سبحانه وتعالى جعل التكليف عاماً فقال :
(وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا).
وإذا آتاك اله شيئاً وظِّف ما آتاك.
وهكذا نفهم معنى العنوان :
هل نفرح بما أتينا أم نفرح بما آتينا؟.
لأن الذي آتيناه هو من فضل الله .
والله سبحانه وتعالى قال: (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ) يونس(58).
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
|