لئن كانت أيها الإخوة الأحبة لشهر رمضان دروس ودروس فإننا حينما نقرأ سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد تميزاً وخصوصية في شهر شوال .
هذا الشهر الذي نعيشه في هذه الأيام بعد شهر رمضان ..
فلو رجعتم إلى دروس أحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لرأيتم منها الكثير الكثير في شهر شوال..
لكنني أحببت أن أذكركم بسبعة من الدروس لعلنا نستطيع في هذا الشهر المبارك أن نأخذ بعضاً من عبرها ودروسها..
وشهر شوال في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعج بالمناسبات، فمن مناسبات شهر شوال ودروسه :
- الدرس الأول : وفاة أبي طالب في مكة في السنة العاشرة من النبوة، وكان لهذا الحدث أثر كبير في مسار السيرة النبوية.
- الدرس الثاني : غزوة بني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر الكبرى .
الدرس الثالث: غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة .
الدرس الرابع : غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة .
الدرس الخامس: الخروج إلى الحديبية في السنة السادسة من الهجرة.
الدرس السادس: غزوة حنين في السنة الثامنة من الهجرة .
الدرس السابع : وفاة بن النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم في السنة العاشرة من الهجرة.
والدروس في شوال هي أكثر من ذلك لكنني أحببت أن أذكركم بسبعة من الدروس فيه ، فلعلنا نستطيع في هذا الشهر أن نأخذ بعضاً منها.
الدرس الأول في شهر شوال :
وفاة أبي طالب في السنة العاشرة من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأبو طالب كان شخصية مهمة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي كفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة جده عبد المطلب حين كان صلى الله عليه وسلم طفلاً ، وهو الذي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرحلة طفولته وشبابه وسفره إلى بلاد الشام، وهو الذي كان بمثابة والده حينما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة .
وهكذا كان أيضاً لحياة أبي طالب أثر كبير حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان له السند والمعين و المؤازر.
وكم جاء إلى أبي طالب مشركوا قريش، يطلبون من أبي طالب أن يتخلى عن مؤازرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبوا طالب يصدهم ولم يفعل كما فعل أبو لهب، وكلاهما عم في النسب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال له كما تروي السيرة: ( اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا ) .
وكان يقول لقومه كما يروي الطبراني والبيهقي :
( ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا )
فكان يصدهم عنه صلى الله عليه وسلم.
ومن سفاهتهم أنهم عرضوا على أبي طالب أجمل فتىً وأشدهم وأحسنهم رونقاً لعلهم يبادلون به سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم فسفهَهَم أبو طالب، جاؤوا إليه وعرضوا عليه أن يبادلوا برسول الله عمارة بن الوليد فقال لهم: ( والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟. هذا والله ما لا يكون أبداً ) .
وحينما دخل بنوا هاشم في السنة السابعة من البعثة ؛ هم وبنوا المطلب والمسلمون في مقاطعة اقتصادية فرضها عليهم المشركون ومقاطعة اجتماعية ، دخلوا جميعاً في شعب أبي طالب وكان معهم أبو طالب ..
ولما حضرت الوفاة أبا طالب في السنة العاشرة من البعثة في شوال أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصية تحققت واختارها الله له ،
فقال له : ( إذا أنا مت فأتِ أخوالك من بني النجار فإنهم أمنع الناس لما في بيوتهم )
وتحقق ذلك حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان الذي استقبله أبي أيوب الأنصاري وهو من بني النجار.
وخرج صلى الله عليه وسلم في جنازة أبي طالب كما يروي البيهقي في سننه ..
خرج يعارض جنازته فجعل يمشي مجانباً لها وهو يقول:
( برتك رحم وجزيت خيراً ) .
كانت وفاته درساً يعني توجيه قلب النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المؤازر والمعين حينما يموت فالذي يعينه ويحميه حي ..
كأنه يقول له لئن كان هذا المعين والمؤازر مات فإن الله الذي يحميك باق ..فالله حي لا يموت ..
فكانت الآية التي يستمد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب قوله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) المائدة : 67.
لم يبق في مكة في وقت المحنة والشدة أحد يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يؤازره بعد موت أبي طالب ..
إنه درس لنا يا إخوتي وقد أمرنا الله سبحانه أن نقتدي بحبيبنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ..
أما ترون أن العالم كله تخلى فعلياً عن مؤازرته للمسلمين؟
لكن على المسلمين أن لا ينسوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت من الأوقات، وفي يوم من الأيام.. تخلى عنه كل أهل مكة ومات المعين والمؤازر له لكن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ بدينه فلم يتأثر هذا الدين .
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر: 9 .
الدرس الثاني في شوال :
غزوة بني قينقاع :
وكانت قبائل اليهود في المدينة ثلاثة : بنو قينقاع، وبنو النضير وبنوقريظة، وكلهم حالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوه حين جاء إلى المدينة ..
ولما كانت غزوة بدر الكبرى التي سماها الله تعالى يوم الفرقان وأعز الله فيها دينه وهزم الشرك وأهله، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها إلى المدينة وجد صدور اليهود تلتهب حسداً، وتتحرك العداوة فيها، وقد رأوا ذلك النصر المبين الذي أنزله الله وأيد به حبيبه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم.
تحرك الحسد وبدت العداوة في صدورهم وعلى ألسنتهم وفي حركاتهم وسلوكهم ..
وكان أول شيء ظهر منهم على أرض الواقع أن امرأة من المسلمين ذهبت إلى سوق بني قينقاع ( سوقِ اليهود ) فاجتمعوا وكشفوا عورتها وسخروا منها إيذاءً للمسلمين، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقّصوا من أثر ذلك النصر الكبير، فما كان من مسلمٍ في السوق إلا أن ينتصر لتلك المرأة فقتل اليهودي الذي هتك سترها وكشف عورتها وسوءتها ، فاجتمعت اليهود على المسلم فقتلته ..
وهكذا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهل سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
وكان وقتها يمثل بدء القوة الإسلامية على أرض الواقع.
لا .. إنه صلى الله عليه وسلم عزز النصر في بدر بنصر آخر في ساحة المدينة الداخلية ، فسار إلى بيني قينقاع، وحاصر حصونهم، وكانوا قبل ذلك يقولون أتحسبنا كقريش نحن قوم أشداء في القتال..
فلما سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يزحف نحو حصونهم ما كان منهم إلا أن دخلوا الحصون وأغلقوها عليهم ..
حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استسلموا له صلى الله عليه وسلم ونزلوا على حكمه فأجلى هذه القبيلة الأولى من قبائلهم فأجلى بني قينقاع عن المدينة وأذن لهم أن يأخذوا نسائهم وأولادهم ولم يأذن لهم أن يخرجوا بأموالهم فكانت أموالهم غنيمة للمسلمين .
الدرس الثالث في شوال :
غزوة أحد :
وكان سببها أن المشركين كانوا يلملمون شتاتهم ويضمدون جراحاتهم ويعدون للثأر من المسلمين، فجمعوا الأموال حتى زادت على خمسين ألف دينار ذهباً ، وجمّعوا ثلاثة آلاف مقاتل فيهم سبعمائة من المدججين بالسلاح والدروع، وفيهم مائتا فرس، ومعهم ثلاثة آلاف بعير فكان كل واحداً يركب بعيراً، وأخرجوا خلفهم نسائهم حتى يستميتوا في الدفاع عنهن ، فكان ذلك من المعززات التي أرادوا من خلالها أن يضمنوا نصراً على المسلمين وزحفوا نحو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرادهم أن يصلوا إلى المدينة ليحاربهم حرب الشوارع ، وليقتلهم في أزقتها قتلاً، لكن الانفعال العاطفي كان يأخذ بالأصحاب، فقالوا يا رسول الله لا نتركهم يصلون إلى المدينة إنما نخرج خارجها ..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا المدينة ، فالمدينة حصينة إذ كانت بين حرتين، والحرة : الأرض السوداء الصخرية التي يصعب المشي عليها، وكانت من جهة الجنوب محاطة بالشجر والبساتين فكان لا يستطيع أحد أن يدخل إليها من ثلاثة جهات ..
والجهة المفتوحة هي جهة الشمال أي جهة أحد ..
إذاً كان صلى الله عليه وسلم لا يرغب في الخروج ولكنهم رغبوا .. وقال بعض الأنصار وعقلاؤهم : يا رسول الله لم نُغلب قطُّ وما غزانا في المدينة أحد فغلبنا قبل أن تأتينا يا رسول الله ، فكيف نغلب بعد أن جئتنا؟
لكن المصطفى صلى الله عليه وسلم حين رأى الانفعال عند أكثر الأصحاب لبس درعه، فلما لبس درعه وتهيأ للخروج ندموا وقالوا يارسول الله قد استكرهناك على الخروج فإن شئت فاقعد فقال لا .
(إنه لا ينبغي أن لنبي إذا لبس لأمته أن يخلعها حتى يقاتل) .
إنه حكم الله ...
فخرج صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى أحد، وجهز خطة يكون فيها جبل أحد حصناً، وجعل على المكان الخطر الذي قد يأتي من خلاله المشركون من وراء ظهور المسلمين ؛ جعل عليه خمسين من أشداء الأصحاب ورماتهم فوقفوا على جبل يعرف بجبل الرماة ......
رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطة العسكرية وقال للرماة الخمسين إن رأيتمونا ننتصر .. أو رأيتمونا نهزم .. أو رأيتمونا نقتل فلا تغادروا مكانكم حتى أرسل إليكم رسولاً ..
إن رأيتمونا غنمنا لا تشركونا في الغنيمة، فلا ينبغي أن يتحرك واحد منكم من فوق الجبل هذا حتى ولو قتلنا أو تخطفتنا الطيور لا يتحركن أحد منكم من مكانه حتى أرسل إليكم ..
ولما بدأت تلك الغزوة التي هي معلم من المعالم المهمة في تاريخ الإسلام أيد الله سبحانه وتعالى أهل الإسلام ..
كان تعداد المسلمين حين خرجوا ألفاً ثم خذَّل عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ؛ خذَّل المسلمين فرجع إلى المدينة بثلاثمائة نافقوا وخافوا من الجهاد وتبعوه..
فلم يبق من الأصحاب إلا سبعمائة، ومع ذلك فإن كان أولُ النهار نصراً وتضعضعت قوة المشركين وهزمت ... ولم يكن مع الأصحاب إلا فرس واحد هو فرس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان مع المشركين كما تقدم مائتا فارس.
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة أبا دجانة سيفاً من سيوفه ... قال من يأخذ هذا السيف بحقه ؟
أراد الزبير وهو ابن عمة رسول الله أن يأخذه لكن أبا دجانة نال أعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وقال الزبير لأرين ماذا سيفعل أبو دجانة الذي استحق أن ينال سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
عصب أبو دجانة على رأسه عصابة حمراء كانت تعرف بعصابة الموت فكان إذا وضع تلك القماشة الحمراء على رأسه يعني ذلك أنه وضعها ليموت ..
أمسك أبو دجانة بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج يتبختر ويقول :
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
أنا لا أقوم الدهر في الكيّول
( يعني في آخر الصفوف) .. إنما أكون في أولها .
أنا الذي عاهدني خليلي
أنا لا أقوم الدهر في الكيّول
ونحن بالسفح لدى النخيل
أضرب بسيف الله والرسول
وقام صاحب لواء المشركين فقال: يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار؟.
فقام إليه سيدنا علي رضي الله عنه تعالى عنه فقال والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار أو تعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه على رأسه حتى فلق هامته وكبر المسلمون ..
كان ذلك في أول القتال وشدوا على كتائب المشركين حتى ضعفت صفوفهم ، وقتل المسلمون حملة لواء المشركين واحداً بعد واحد حتى سقط لوائهم ولم يبق منهم من يحمل اللواء.
وخرج في الجيش حنظلة بن أبي عامر وكان تزوج ليلة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ؛ تزوج جميلة بنت عبد الله، وأدخلت عليه في الليلة التي صبيحتها قتال أحد ، وكانت رأت في منامها كأن السماء فرجت لزوجها حنظلة ثم دخل فيها ثم أطبقت ، فقالت هذه والله الشهادة في سبيل الله، فهمت الرؤيا فأرادت أن يبقى في بطنها أثر من هذا الشهيد حنظلة ..
دخل بها في تلك الليلة والمسلمون في أحد يرون المشركين ..
ونسي حين دخل المعركة أن يغتسل من الجنابة .. وقاتل وقُتل ، وعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى الملائكة تغسله بين السماء والأرض في صحاف الفضة ، ولما سأل الأصحاب عن ذلك أعلمتهم جميلة بالخبر وقالت خرج جنباً.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر وكان يقاتل في صفوف المشركين قال لأبي بكر رضي الله عنه بعد أن أسلم قد رأيتك يا أبي يوم أحد فصفحت عنك ( يعني تركتك ولم أقتلك ) فأجابه أبو بكر : لكني لو رأيتك لم أصفح عنك، أي لو رأيتك لقتلتك.
وقال عمر بن الخطاب لأخيه زيد بن الخطاب خذ درعي هذه فإني لا أحتاج إلى هذه الدرع وأرجو من الله الشهادة، وقال زيد لا حاجة لي بها فتركاها جميعاً كل منهما يطلب الشهادة.
لكن البلاء نزل حينما خالف الرماة أمر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ..
لما رأى الرماة جيش المشركين وقد تضعضع، ورأوا المسلمين وهم يجمعون الغنائم، ولم يبق في ساحة المعركة من المشركين أحد قالوا ننزل إلى الغنائم مع الأصحاب ..
قال لهم أميرهم إن رسول الله أمرنا أن لا نتحرك حتى يرسل رسولاً يأمرنا فيه بالنزول ، وكان على الجبل خمسون فنزل منهم أربعون ولم يبق على الجبل إلا عشرة ..
وكان في المشركين من ينظر ويراقب فلما رأى ذلك التف من الوادي في خندق يمكن من خلاله أن يجتاز سريعاً ليكون من خلف ظهور المسلمين ..
وما شعر المسلمون الذين فرحوا بالنصر والغنيمة إلا وخيول المشركين من وراء ظهورهم؛ فتضعضعوا حتى صار بعضهم يقتل بعضاً ..
وانقلب الذي كان في أول النهار نصراً بسبب عصيان أمر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ونزل البلاء وكأنه يقول للمسلمين إلى يوم القيامة لن تنصروا إلا حينما تطيعون أمر محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله ..
لا يمكن لكم أبداً أن تفلحوا وأنتم تخالفون أمره، فالنصر مع طاعته، أما مخالفة أمره فلن يكون لكم منها إلا الهزيمة.
كثر القتل في أصحاب رسول الله حتى أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل وكان ذلك شديداً على الأصحاب.
ولما سمع أنس بن النضر ما أشيع من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف فصاح في الأصحاب فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا على مات عليه، ورفع يديه قائلاً : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ( يعني من عصى وخالف الأمر) ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ( يعني المشركين ) ، رآه سعد بن معاذ وقد أقبل يريد الشهادة والقتال ، فقال له أنس : يا سعد الجنة وربِّ النضر .. إني أجد ريحها من دون أحد، وقاتل حتى قتل، ولما قتل لم يعرف ، إذ كان فيه سبعون ضربة، ما عرفته إلا أخته عرفته من علامة في أصبع من أصابعه وفيه وفي أمثاله نزل قوله تعالى :
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عليه ) الأحزاب : 23 .
وخرج من النساء المسلمات جمع من المسلمات المؤمنات يؤازرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكن خلف المسلمين يداوين الجرحى ويسقين العطشى .. كان فيهم عائشة رضي الله عنها وأم سليم وأم سليط وحمنة بنت جحش وأم أيمن وأم عُمارة نسيبة المازنية ..
وأم عمارة هذه كانت في أول النهار تسقي وتداوي فلما رأت ما حل بالمسلمين أخذت سيفاً واقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان رسول الله لا ينظر يميناً ولا شمالاً إلا ويرى أم عمارة نسيبة، فكانت تقاتل قتال الأبطال حتى ضربت بسيف في كتفها فنزفت نزفاً شديداً ، ولما انتهت المعركة ما استطاعت أن تلحق بجيش المسلمين من كثرة النزيف ..
خرجت هي وابناها فكان صلى الله عليه وسلم يقول لابنها:
(أعصب جرها بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان ) قالت يا رسول الله ادعُ الله أن نرافقك في الجنة ، فقال صلى الله عليه وسلم : (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة)، قالت ما أبالي ما أصابني من الدنيا .
وكان ممن التصق برسول الله صلى الله عليه وسلم يدافع عنه طلحة بن عبيد الله أحد المبشرين بالجنة فضرب خمساً وثلاثين ضربة وقطعت بعض أصابعه ، ووضع يده حتى لا يصيب شيء وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت يده وشلت، وكان حمى بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ورمى سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يناوله النبل ويقول له ( ارم فداك أبي وأمي ) وما قالها لغيره.
وحضرت الملائكة يوم أحد ولم تقاتل ..
قال تعالى:
(بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِين) آل عمران : 125.
فلما لم يصبر الأصحاب امتنعت الملائكة عن القتال.
هذه دروس يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
فهناك شرطان تأتي معهم الملائكة وتقاتل: الصبر و التقوى ..
حينما تخلف الصبر وتخلفت بعض فرعيات التقوى امتنعت الملائكة عن القتال.
وقاتل مصعب بن عمير بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل رضي الله عنه.
ورمى العبد وحشي حمزة بحربة من بعيد فقتل شهيداً ، وكان قتل من المشركين ما شاء الله ..
وجعل أبو دجانه نفسه ترساً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانحنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده حتى لا يصيب النبل جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان النبل يقع في ظهره وهو منحن لا يتحرك وكان ملتصقاً برسول الله حتى امتلأ ظهره سهاماً.
ووقف قتادة بن النعمان أمام صدر النبي صلى الله عليه وسلم وحمى بوجهه وجه رسول الله، فوصل سهم إلى عينه ففقئت وسالت.
وكان أبو طلحة حسن الرمي؛ فوقف يرمي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان صلى الله عليه وسلم كلما رمى أبو طلحة رمية تابع الرمية حتى يرى موقع وصولها فقتل أبو طلحة وقتها بكل نبل رجلاً فقتل عشرين رجلاً وهو يقول : بأبي أبي وأمي يا رسول الله لا يصيبك سهم ، نحري دون نحرك.
وأصابت حجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع وكسرت رَباعيته اليمنى السفلى، وشج وجهه الشريف، وجرحت شفته صلى الله عليه وسلم ، روحي فداه.
سال الدم على وجهه الشريف ولما سال الدم على وجهه قال صلى الله عليه وسلم ويح قوم أدموا وجه نبيهم ، فنزل جبريل يقرأ للنبي صلى الله عليه وسلم قرآناً :
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء) آل عمران : 128.
إنه درس ينبغي على الناس كلهم أن يستفيدوا منه ..
على الأولياء أن يستفيدوا منه ..
على العارفين أن يستفيدوا منه..
على هذه الأمة أن تستفيد من هذا الدرس..
وأصاب العطش الشديد سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ..
إنها البشرية التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يظهر شخص النبي صلى الله عليه وسلم فيها متحملاً ..
فقد جاع صلى الله عليه وسلم في الل ه، وعطش في الله ..
لأن كثيراً من الناس ربما تأثروا بالنظرة اللاهوتية فتوهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم إن جاع يأكل من الجنة، وإن عطش يشرب من أنهارها..
لا .. إن الله سبحانه وتعالى أراد من ظهور الشدة والصبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتأسى هذه الأمة به في وقت المحنة.
أعرف أن ما يغلب على كثير من المسلمين حين تنزل الشدة أو المحنة أنهم يطلبون الملائكة، ويطلبون صاعقة من السماء على عدوهم..
وما علموا أن الأمة تحتاج إلى بناء، وأن الله تعالى كلفهم بالأسباب وأراد للبشرية أن تعطى حقها...
فأين عطاؤنا ؟
أين بحثنا ؟ أين تعلمنا ؟
أين ما نعده في هذه الأمة التي أصبحت في العالم الثلاثين لا في العالم الثالث .
أين النهضة ؟.
ما هو الغالب على أمتنا ؟ هل الغالب عليها التصنيع ؟.
هل الغالب عليها البحث العلمي؟.
هل الغالب عليها العمل الدؤوب؟.
أين الإعداد.. أين التقوى.. أين البناء...؟
أصبحنا نقول كما كان بنوا إسرائيل يقولون لموسى :
(فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون) المائدة : 24.
نقف مع شهواتنا ورغباتنا ونفوسنا ونطلب صاعقة من السماء ..
لا علاقة لنا بالقضية ..
تعودنا أن نطلب الروحانية وأن نطلب تأييداً ومدداً دون أن يكون عندنا أخذ بالأسباب .
تلك هي ظاهرة فشت وعمت في أمة زادت على المليار ..
لكنه صلى الله عليه وسلم عطش وجرح وكسر سنه صلى الله عليه وسلم، حتى لم يستطع صلى الله عليه وسلم من شدة الألم والجراح أن يتحرك فجلس تحته طلحة بن عبيد الله ونهض برسول الله إلى صخرة - رأيتها يوم زرت جبل أحد - فأجلسه على صخرة وأسند رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره في موضع يشبه الكرسي وكان منيعاً وما بين الموضع الذي جُرح فيه رسول الله والصخرة، عشرة أمتار إلى الأعلى ..
فلما رأى أبي بين خلف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار في مكان حصين أراد ذلك الجريء الوقح أن يصعد ليصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتله فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مثقل بجراحه قال له بل أنا أقتلك إن شاء الله - وما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته غير أبي بن خلف هذا - وقد جاء في الخبر أن شر الناس من قتل نبياً أو قتله نبي ، فأمسك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بحربة فرماها في عنقه ، وبقي ذلك الجرح ينزف حتى مات .
يقولون لأُبيّ هذا قبل أن يصل إلى مكة، إنه جرح طفيف فيقول : إن محمداً قال أقتلك وصدق، ولابد أنه قاتلي وأنني سأموت .
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأصحاب قبل غزوة أحد صلاة الصبح وهو يرى المشركين ..
فلما كان الظهر وقد أثقل صلى الله عليه وسلم بجراحه صلى بهم إماماً وهو قاعد ، وصلى كثير من المسلمين من كثرة الجراح خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدين ولم يتركوا الصلاة ..
الصلاة التي هي الصلة، والتي هي محل المناجاة ..
في وقت كهذا يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وهو قاعد وهو مثقل بجراحه صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بمن يستخف بالصلاة وهو صحيح سليم الجسد معافى؟.
آخر الدروس التي أنقلها من غزوة أحد وآخر المواقف ذلك الموقف الذي كان من الصحابي سعد بن الربيع .
سعد بن الربيع : هذا الأنصاري الذي آخى رسول الله بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ، فلما وصل إليه عبد الرحمن بن عوف وقد خرج من مكة مهاجراً قال له أقاسمك أهلي ومالي، فقال له عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق .
سعد بن الربيع هذا كان يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه بعد المعركة ، قال : مَن رجل يأتيني بخبر سعد بن الربيع ؟
لا تقولوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه فلِمَ يسأل ؟
إنه الأخذ بالأسباب ، وهو الدرس الذي يريد رسول الله لنا أن نتعلمه، هو الدرس الذي غفلنا عنه ..
قال صلى الله عليه وسلم من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع ، قال أنصاري : أنا أنظر لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جريحاً في آخر رمق فلما رآه قال سعد :
أبلغ رسول الله مني السلام وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله لك عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف، وفاضت روحه المشتاقة .
هذه دروس أحببت في المناسبة الزمانية أن أذكر بعضاً منها يا أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، في وقت أصبحنا ننتظر فيه أن نصبح سوقاً للآخرين، وغلبت المادة علينا، وغابت معاني حقائق الغيب عن قلوبنا...
إننا بحاجة أن نكرر على قلوبنا هذا التاريخ، الذي يتجدد في قلوبنا بما يتناسب مع العصور ليعطينا سمواً، وليعطينا تألقاً، في وقت أصبحنا فيه بحاجة إلى الروحانية ..
لن يستجيب العالم لدعوتنا إلا حينما نكون أصحاب روحانية ..
لن يلتفت أحد في الشرق والغرب إلينا ولن يدخل في الإسلام حتى نتحلى بالروحانية ..
تلك هي حقيقة ينبغي أن يفهمها الدعاة في العالم، فالروحانية سر النجاح، وهذه دروس من الروحانية ..
الله ردنا إلى دينك رداً جميلاً واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله |