كيف ولد التاريخ
لماذا أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مبتدأ تاريخنا بهجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟.
لماذا لم يكن مبتدأ تاريخنا من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
بل لماذا لم يكن مبتدأ تاريخنا من ميلاده الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله وسلاماته...؟.
إن المتأمل في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن مبتدأ ولادة المجتمع كان بعام الهجرة، فقد كان صلوات الله وسلاماته عليه يكوِّن أعضاء المجتمع عضواً عضواً ثم كانت الولادة من رحم مكة في عام الهجرة .
ولابد لنا وقد تفكك مجتمعنا أن نقرأ ذلك الحدث قراءة نربط فيها بينه وبين واقعنا المشتت المبعثر الذي لا يبالغ من يقول فيه : إنه خروج عن ذلك التاريخ.
لابد من قراءة من خلالها نفهم شيئاً ما نأخذه لأنفسنا ..
في مكة كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الوصال، وكان يخرج الأفراد من الظلمات إلى النور ليدلهم على الله الواحد الحي الذي لا إله غيره، وكان في بيئة وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها بيئة: (وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)
وما أدراك ما تحمله تلك العبارة من القسوة ، فأراد أن ينقله إلى بيئة أخرى مختلفة، لها مقوماتها الاجتماعية والحضارية والروحية والخلقية التي تحتضن الدعوة ليلتقي فيها من تربى من المهاجرين في ذلك الوادي الذي تلفحه حرارة الشمس صباح مساء مع الأنصار الذين ينتظرونهم، الذين قدموا أصلاً من بلاد اليمن - والحكمة يمانية - وكانوا أرق أفئدة .
وهكذا انتقل صلى الله عليه وسلم إلى تكوين جديد يجمع بين العناصر التي تتلاقح أوصافها، في بيئة حضارية وطبيعية واقتصادية مختلفة تماماً، فكان البناء الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يثرب مجتمعاً يجمع بين المادة وحياة الروح...
وفي سكان يثرب قبل وصول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من حيث القوة السكانية، وباعتبار من هو قادر على الدفاع، كان عدد المقاتلين من الأوس والخزرج من الرجال يقرب من أربعة آلاف تقريباً ، وإلى جوارهم ثلاث قبائل من اليهود ، فيها ما يقرب من ألفي مقاتل فكان ثلث أهل يثرب من اليهود، من القبائل الثلاث : بني النضير، وبني قريظة، وبني قينقاع.
ذلك هو حال المجتمع من جهة السكان.
أما واقعهم من جهة المعاملات الاجتماعية و التحالفات على الأرض فقد كان مجتمعاً منقسماً، انقسم عربه ويهوده، فكان الأوس في مقابل الخزرج وكان بنوقينقاع حلفاء الخزرج، وكان بنو قريظة وبنو النضير حلفاء الأوس، فكانت قبائل اليهود تقتتل مع قبائل اليهود ، وكان العرب يقتتلون مع العرب وينصر الحلفاء بعضهم بعضاً... حتى تهيؤا لتمليك ملك عليهم قبل وصول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فاختير عبد الله بن أبي بن أبي سلول.
أما المجتمع من الجهة الاقتصادية فقد كان قبل وصول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مجتمعاً يمتلك كثيراً من المصادر الاقتصادية .
كان المجتمع المكي يعتمد على التجارة وحسب ، أما مجتمع يثرب فقد تعددت مصادره :
- منها المصادر الزراعية، فقد كان العرب يعملون في زراعة النخيل والحبوب، الشعير والقمح، والخضروات والبقول..
وكان من اليهود بنو قريظة وبنو النضير يعملون في الزراعة أيضاً .
- أما الصناعة فقد كان بنو قينقاع من قبائل اليهود يتفوقون فيها وكانوا يتقنون صناعة الذهب والحلي .
- ومن المصادر الحيوانية كانوا يملكون كثيراً من البقر والغنم والجِمال وكانوا يستعملون (الإبل) أو الجمال في سقاية مزروعاتهم، وكانت تعرف بالإبل النواضح .
- وكانوا يخرجون للتجارة ، فكانت التجارة من مصادرهم لكنها كانت تأتي في الدرجة الثانية .
- وكانت الحرف فيهم فكان نساؤهم يعملون في الغزل والنسيج، وكان من الحرف الخياطة والدباغة والبناء وضرب اللبن أما يسمى بالطوب الطيني، وكان فيهم من ينحت الحجارة...
والمتأمل في ذلك الواقع كان يجد أن القوة الاقتصادية في ذلك المجتمع اليثربي يهودية، لأن اليهود كانوا يدَّخرون الأموال، أما العرب من الأوس والخزرج فكانوا يعرفون بالكرم الشديد، فلم يكونوا يوفرون مالاً، وكانوا يقترضون من اليهود بالربا أو بالرهن، فكانت القوة الاقتصادية القوية في ذلك المجتمع يهودية.
وكان ذلك المجتمع من جهة ثقافاته مجتمعاً مختلطاً متعدد الثقافات لوجود اليهود والعرب ولوجود ما تحمله قبائل العرب التي استوطنت يثرب من حضارة اليمن القديمة ثم اجتمعت ثقافتهم بالثقافة الحجازية فامتزجتا في تلون ثقافي خاص التقى مع ثقافة اليهود وحاورها..
فلما وصل سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانت مراحل بناء المجتمع التي اعتبرها أصحاب رسول الله ولادة التاريخ تنقسم إلى خطوات أومفردات أختزلها في بعض نقاط ، لا أقول أنني أحصرها وأحصيها لكنني أتلمس المعالم الكبرى فيها :
أولاً: تم بناء المسجد النبوي ومساكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حوله ، وكلكم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما وصل نزل ضيفاً على أبي أيوب من بني أخواله ، فلما بني المسجد النبوي ومساكن النبي صلى الله عليه وسلم، تحققت الخصوصية المركزية في إدارة العبادة والمعاملات في ذلك المجتمع وفيما سينبثق عنه في المستقبل من العلاقات الخارجية.
وبعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم بمدة قصيرة أسلم الأوس والخزرج كلهم فقد قويت الدعوة في المدينة قوة شديدة حتى لم يبق فيهم إلا من دخل في الإسلام، وهذا يعني تحولاً كبيراً في الثقافة يتناسب مع الوحدة الجديدة التي ينشئها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على أساس عرقي ولا على أساس نسبي إنما كان ينشئ وحدة متماسكة تسمو فوق تلك العلاقات ، تنصهر في بوتقة العبودية لله تعالى .
ثالثاً: غيَّـر النبي صلى الله عليه وسلم اسم ( يثرب ) لأن في اسم يثرب اليثربية المهلكة - والتثريب الإهلاك - وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو منطلق الرحمة العالمية، ومنطلق الحضارة والمدنية فلا يتناسب أن يكون هذا المنبع الأكرم الأكبر في مكان يسمى يثرب فغيره فصار الاسم المدينة المنورة وطابة ، التي طابت بالحبيب الطيب المُطيِّب، وكأنه وضع شعاراً يقول : لسنا يثربيين، نحن مدنيون، ونحن الطيبون المطيبون للعالم.
رابعاً: آخى بأخوة روح لا بأخوة نسب بين المهاجرين الذين قدموا من الوادي غير ذي الزرع، وبين اليمانيين الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان، فأوجد النبي صلى الله عليه وسلم صلة جديدة لم تكن معروفة من قبل في ذلك المجتمع هي صلة أخوة الروح.
خامساً: قسم الثروات بين المهاجرين والأنصار حتى لا يكون المهاجرون عالة فأعطى الأنصارُ شطر أموالهم للمهاجرين حتى كانوا يظنون أنهم سيورثونهم من بعد موتهم، قبل أن تنزل آيات المواريث لتحصر المواريث في النسب ..
فقسم ثروات المدينة بين من آخىبعضهم ببعض ؛ فعلَّم الأنصارَ التفتي والإيثار حين يخرجون عن شطر المال لله ورسوله ، وعلَّم المهاجرين أن يبدؤوا حضارة جديدة وبناء مادياً فهو لا يسلمهم ثروة من أجل استهلاك ، لا.. إنما يعطيهم إياها من أجل استثمار، وشتان بين الإنفاق الاستهلاكي والإنفاق الاستثماري كما يقول علماء الاقتصاد، فهو يحركهم بذلك في إطار جديد لم يعتادوه من قبل فعمل بعضهم في التجارة وعمل بعضهم في الزراعة وعمل بعضهم في الحرف...، وجاء ذلك التقسيم للثروات ليكون كالبرهان على دعوى الأخوة، فما أشد على الإنسان أن يكون متناقضاً بين باطنه وظاهره ..
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلغي الدعاوي، بأن يدعي الإنسان أنه أخ الروح ثم لا يأتي البرهان المادي على تلك الأخوة ، فكان قسم الثروات كالبرهان المادي العملي على أخوة الروح لأن الدعاوي تسهل في أخوة الروح لكنها حينما تؤيد بالبرهان المادي تخرج عن كونها دعاوي.
الأمر السادس: كتب النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة تعايش وسلم مع اليهود الجوار ببنود واضحة يتعذر على اليهود من خلالها أن يمارسوا غدراً أو وقيعة بأبناء الإسلام ، فإن هم غدروا كان ذلك سبباً لإخراجهم من المجتمع الذي يبنيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فإما التعايش بالسلم والأمان ليكونوا يداً واحدة, وإما الإجلاء والخروج فلا مكان للخيانة و الغدر في ذلك المجتمع الصفائي .
وكان مما كتب في تلك المعاهدة:
( وأن قبائل اليهود أمة مع المؤمنين..)
( لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم..)
وجاء فيها:
( وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ) , يعني يشتركون جميعاً في تمويل الدفاع عن المدينة.
وجاء فيها:
( وأن بينهم النصر على ما حارب أهل هذه الصحيفة..)
فبين لهما المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه يدافع عنهم, هو وأصحابه, وأنهم ملزمون أن يكونوا صفاً معه صلى الله عليه وسلم إن حاربه أحد من الناس.
وجاء فيها : ( وأن بينهم النصر على من داهم يثرب ).
سابعاً: أوجد صلى الله عليه وسلم في تلك المساحة المكانية الصغيرة وسيلة إعلامية تناسب المساحة الصغيرة, فكان الأذان وسيلة جمع الناس للصلاة أو لغير الصلاة ، لأن مركز المسجد كان يمثل - كما قلتُ - إدارة العباد وإدارة المعاملات, فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع الناس في غير موعد الصلاة أمر بلالاً فأذن, فكانوا يجتمعون دون أن يعرفوا سبباً لذلك.
فأوجد بهذا وسيلة إعلامية تتـناسب مع ذلك المجتمع.
وهكذا تماسك المجتمع من باطنه, وتوفرت له وسائل التماسك الظاهرية.
ثامناً: ومن خلال تتابع أحداث السيرة المدنية نجد أنه صلى الله عليه وسلم ومن خلال الظروف المتتابعة أوجد وجوداً معتبراً قوياً يهابه من حوله, ويخدم الدعوة, فقد أصبح وجوداً مادياً معنوياً مؤثراً..
ظهرت عند بناء ذلك المجتمع العوائق, ومن أهمها :
ظاهرة النفاق: وكان الباعث لها أمران, إما الرغبة في الدنيا, في الملك والسيادة التي قادها عبد الله بن أبي بن أبي سلول، وإما الخوف ، لأنهم كانوا ينظرون إلى ذلك المجتمع الجديد الوليد أنه مجتمع ضعيف من حيث المادة , فالاقتصاد في الداخل يعتمد على اليهود, والقوة العسكرية في الخارج أقوى بكثير من القوة داخل مجتمع المدينة, فمن حيث موازين المادة هو مجتمع مهزوم.
وهكذا لم يصمد النفاق أما رؤية الموازين المادية التي تميل إلى صف الكفر, فبدؤوا يتحركون في مواجهة دعوة الإسلام في الخفاء.
العائق الثاني: هو تحرك العداء اليهودي للإسلام وأهله, مع كون النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع تلك المعاهدة, وأبرم العقود..
فكان من صفات اليهود - كما يقول الباحثون المنصفون المعاصرون من اليهود- أنهم كانوا يعانون من الحسد, وضيق الصدر, والجمود والتحجر, وعدم قراءة النص بفهم..
فقد كانوا يبشرون بمبعث نبي, فلما بعث ذلك النبي المنتظر تحركت الضغائن في صدورهم, وكانوا أشد الناس عداء له فيما بعد، ولما حاول الإسلام بأمر الله أن يصلح أحوالهم, لأنه دين عالمي أرسله الله للناس كافة, فحذرهم من أكل أموال الناس بالربا ، وحذرهم أن يكونوا أصحاب الرأي الذي يواجه ويجادل أمر الله عندما نزلت آيات تحويل القبلة ..
وعندما كشف قرآن الله تعالى أكاذيب المحرفين الذين كانوا يلوون ألسنتهم ويحرفون الكلم عن مواضعه.. تحركت العداوة..
يقولون الباحثون الذين درسوا ذلك المجتمع:
لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم زعيماً سياسياً مجرداً عن الدعوة والأمانة التي حملها الله سبحانه تعالى إياها لمالأ اليهود , ولاسترضاهم لأنهم أصحاب القوة الاقتصادية، ولكن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد زعيم سياسي, إنما كان رسول الله.. وحامل الأمانة للعالم..
ولو كان مجرد زعيم سياسي لكان ابتعد عن محاولة إصلاحهم..
ولكان تركهم فيما هم فيه..
ولكان أوجد بينه وبينهم الوشائج مع كونهم أصحاب بلاء ووباء..
لكن الأمانة تتنـزه أن تكون في هذا المستوى المصلحي النفعي, فهي تحمل الحق والهداية حتى و لو كان ذلك يصطدم مع لغة الساسة.
وزاد من عداء اليهود أن بعض علمائهم وأن بعض أحبارهم دخلوا في الإسلام, كالحبر اليهودي الكبير الذي كان من أعلمهم ( عبد الله بن سلام ) رضي الله تعالى عنه.
ولمّا تحرش القرشيون بالمسلمين مرات ومرات كان القرآن الكريم ينـزل ليقول لهم : (كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة ) أي تحملوا..
واستمر التحرش القرشي مرات ومرات وبوسائل متعددة, والقرآن يقول للأصحاب كفوا أيدكم, فلم يؤذن لكم في الدفاع بعد.. فلما أذن بنص القرآن أن يدافع أصحاب رسول الله عن ذلك المجتمع, ونزل قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) قال : يقاتَلون وما قال: يقاتِلون ..
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)الحج: 39
ثم كانت المعركة الفاصلة الشهيرة بدر التي زادت من ضغائن اليهود, فكان أولَ من غدر بنو قينقاع , وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي, فشفع فيهم رأس المنافقين, فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان بسبب شفاعة عبد الله بن أبي على أن يخرجوا من المدينة إلى أي مكان أرادوا دون أن يمسهم أحد بأذى, فخرجوا إلى بلاد الشام.
وجاء الغدر الثاني من اليهود حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يلتمس معونة اقتصادية لحلفائهم بني عامر, فكان الترحيب ظاهراً وكان إضمار اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم باطناً ..
ونبَّأ الله سبحانه وتعالى نبيه وأخبره بالوحي عن مؤامرتهم, فخرج صلى الله عليه وسلم إليهم بعد ذلك وحاصرهم ست ليالٍ حتى استسلموا, وكان الحكم بإجلائهم لكن على أن يحملوا من المتاع والمال ما يقدرون عليه, وأن لا يحملوا معهم السلاح, فكان أحدهم يُخرب بيته ويأخذ عتبة الباب منه ويحملها على راحلته, وفيهم نزل قوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ)الحشر: 2
فخرج بعضهم إلى خيبر وبعضهم إلى الشام.
أما الغدر الثالث من القبيلة الثالثة بني قريظة فكان في غزوة الأحزاب, حينما حالف اليهود الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه و نقضوا بذلك العهد وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.
فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم بعد أن هزم الله الأحزاب, وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة, فنـزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكنه صلى الله عليه وسلم أحال الحكم إلى حلفائهم, وقال لسيد حلفائهم من الأوس سعد بن معاذ: ( احكم فيهم يا سعد )
وكان سعد مطلعاً, وهو سيد قومه على ثقافة اليهود, فحكم بحكمهم الذي أنزله الله في توراتهم, فقال: تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وتقسم أموالهم.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يقرأ كتاباً من الكتب السابقة, إنما علمه الله تعليماً بالوحي : (لقد حكمت بحكم الله فيهم.) ..
ولو رجعنا إلى قانون الحرب الذي يوجد في سفر التثنية الإصحاح العشرون, نقرأ:
( حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ) .. ( وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها, وإذا دفع الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف, وأما النساء والأطفال والبهائم و كل ما في المدينة كلُّ غنيمتها فتغنمها لنفسك , وتأكل غنيمة أعداءك التي أعطاك الرب إلهك.) .
فليعلم من يتجنى اليوم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ..
وليعلم الذين يصفون سيدنا محمد بالدموية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يمثل الرحمة.
وأن الذي حكَم عليهم حليفهم , وأنه ما حكم إلا بحكمهم وتشريعهم.
وبعد جلاء اليهود ومحو أثرهم من المدينة لم يبق في ذلك المجتمع إلا التماسك والوحدة, وخفت صوت النفاق بعدها, فلم يسمع من بعد ذلك .
أقول أيها الأحبة هذه قراءة تأريخية نستطيع أن نفقه من خلالها مراحل بناء مجتمع المدينة النبوي الذي كان منطلق الحضارة.
وبعد أن خرجنا من التاريخ, الذي ولد بولادة ذلك المجتمع, ترى أنستطيع فهم خطوات بناء مجتمعنا من جديد وقد عادت الجاهلية الأولى..
إلى من يحمل هوية الإسلام من حيث الظاهر, ويبتعد في باطنه عنها, أقول :
1 - هل سنعيد للمسجد خصوصيته في إدارة العبادة والمعاملات في المجتمع ؟
2 - هل سننشر الدعوة كما نشر رسول الله بعد وصوله وأصحابه الدعوة في الأوس والخزرج ؟...هل سننشر الدعوة فيمن عاد إلى الجاهلية الأولى لتعود إلى المجتمع حقيقة الإسلام ظاهراً وباطناً ؟.. لم نعد نحتاج إلى كثير شعارات وكلمات... إننا نحتاج إلى الإيمان الذي يوقد جذوة في القلب..
كفانا كلاماً.. كفانا جدالاً..كفانا شعارات فارغة..
نحتاج إلى إيمان يحرك القلوب لتظهر الثمرات في الظاهر, فقد أصبحنا أمة خاوية من المضمون تمتلك القشر...
3 - هل سنبداً تحولاً من اليثربية المهلكة الجديدة التي نعيشها ، التي هلكنا وأهلكنا غيرنا بها إلى المدنيَّة المُطَّيَبة والمُطِّيِبَة التي ترحل عن ثقافة الإهلاك إلى ثقافة الرحمة والهداية.. وبناء المدنيَّة.
4 - هل نستطيع تحقيق أخوة الروح والمادة في مجتمعنا أم سنبقى في الفردية والضغائن و المصلحية والنفعية التي يقول فيها كل واحد منا : نفسي.. وأولادي... ومصلحتي... دون أن يفهم معنى الجماعية ومعنى التماسك...
هل سنعود ثانية لنبني أخوة الروح والمادة أم سنبقى مبعثرين لا نتكامل... كُلٌّ منا يقف مع الأنا والفردية ولا يدرك قيمة التكامل...
5 - هل سنبين لمن لا يلتزم بالإسلام كما بين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم لليهود أننا معه سلم لا نؤذيه، ولا نعتدي عليه إلا إذا فكر بالعدوان علينا فنحن عند ذلك ملزَمون بالدفاع كما أمرنا ربنا...
6 - هل سنفكر في الوسيلة الإعلامية التي تتـناسب مع مجتمعنا وتربطه حتى يكون متناسباً تماسُكُها الظاهر مع تماسكها الباطن، وقد أصبح الإعلام بأيدي غيرنا وضيِّق على المجتمعات الإسلامية، وسحبت منها وسائل الإعلام...
7 - أخيراً هل نفكر في أن نكون وجوداً معتبراً ، كما أوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوداً معتبراً ؟ أم أننا سنبقى في الغثائية التي يحملها السيل فيلقيها يمنة ويسرة لا قوة لها... ولا هيبة لها...ولا شأن لها...؟
إن طريقنا حتى نعود إلى التاريخ من جديد هو نفس الطريق الذي من خلاله ولد تاريخنا فتنبهوا في مبتدا العام الهجري يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإلا فإننا سنبقى خارج دائرة التاريخ.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله
|