خطبة الجمعة من مسجد المدينة في أتلنتا – ولاية جورجيا الأمريكية .
11/3/2005
اجتمعوا على النافع يا مسلمي الغرب
قبل أن أغادر هذا البلد الذي من الله تعالى عليكم فيه بنعمه ، أحببت أن أقدم إليكم كلماتٍ تنبعث من قلب إلى قلب ، ومن أخ لكم في الإسلام إلى إخوانه في الله ..
إنني وجدتكم تعيشون في مجتمعٍ يتعايش فيه المسلم مع غير المسلم ، ويتعاون الجميع فيه من خلال الروابط المتعددة، لكنني وجدتُ المسلمين فيه بحاجة إلى أمرين :
- المنهج الواحد الذي يجمعهم .
- والروابط الإيمانية الأقوى التي تشد بعضهم إلى بعض .
ولن يتم الاجتماع على المنهج الواحد حتى نتحد على القواسم الإسلامية المشتركة الكبرى ؛ متجاوزين في اجتماعنا هذا الهوامش الفرعية التي يمكن لنا أن نجعلها من خصوصياتنا الفردية .
أما قوة الروابط فتكون بقوة الإيمان .
وقد اخترت لكم بعض النصوص من كتاب الله تعالى وسنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم التي من خلالها يتقوى فينا الاجتماع ، يقول الله تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (103)آل عمران وحبل الله تعالى الموحد لنا هو القرآن الكريم .
ويقول سبحانه : وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (46) الأنفال وذهاب الريح هو ذهاب القوة ، ويقول سبحانه :
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (13)الشورى .
ويقول جل من قائل مخاطباً حبيبه صلى الله عليه وسلم :
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (159)الأنعام
فنفى صلة النبي صلى الله عليه وسلم بالمتفرقين ، لأنه صلى الله عليه وسلم يمثل منهج وحدة ، وكذلك أتباعه الكرام .
إننا بحاجة إلى المنهج الفطري الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعيداً عن التدقيق الذي يختلف فيه الأفراد .
وأورد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باباً سماه : بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْعِلْمِ وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ
وروى في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ..
وروى ابن النجار عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تقربوها ( أي لا تتعدوها) وحرم محارم فلا تنهكوها، وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تَكَلَّفوها، رحمة من الله فاقبلوها .
وأخرج الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ فَقَالَ أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَنَازَعُوا فِيهِ
وقد تأملتُ في كتاب الله تعالى وسنة حبيبه فاستقرأت لكم بعضاً مما ذكر من أسباب التفرق وأسباب الاجتماع
فمن أسباب التفرق :
1- اختلاف المقاصد :
فاختلاف المقاصد والإرادات سبب تفرق من غير شك ، فلن يجتمع من أراد الدنيا بمن أراد الله ورسوله والدار الآخرة ، قال تعالى :
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ (152)آل عمران
فبين تعالى سبب تنازعهم الذي هو اختلاف المقاصد .
2 – ما يطرأ على النفس ويخترقها من التكبر الباطن :
وقد يشعر الإنسان به وقد لا يشعر .
قال تعالى :
بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ - أي استكبار - وَشِقَاقٍ(2) ص
فقرن تعالى بين التكبر والاختلاف ، فلن يتفق متكبران ، ونفوسهما تتنازع .
3 - البغي (أو الاستعلاء على الآخرين ) :
وذلك حين يشعر الإنسان بالفوقية على أخيه ، قال تعالى :
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ (14) الشورى فلما شعر بفوقيته عليه كان عليه باغيا .
4 - الظلم :
وحين تظلم أخاك سيختلف معك ، وحين تعدل معه سيجتمع بك ، وقد يكون الظلم باللسان أو بالأعمال ، وقال تعالى :
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53) الحج
فقرن بين الظلم والاختلاف .
ومن أسباب الاجتماع :
1 - اجتماع الأجساد : واجتماع الأجساد هو مقدمة لاجتماع القلوب ، وقد روى أبو داود :
كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ *
وروى ابن ماجة أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ .
2 – التحابب وتآلف القلوب من أسباب التآخي والاجتماع :
فروح الاجتماع التحابب فيه ، ولن يكون هذا التحابب إلا بالإكرام والإحسان ، حين يكرم المسلم أخاه فيتحابان في الله ، قال تعالى :
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (103) آل عمران
وروى أحمد رحمه الله أن مُعَاذ بْن جَبَلٍ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ .
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا .. الحديث .
3 - اختيار الحسن من أخيك والإعراض عن السيء منه مع الدعاء له :
قال تعالى :
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(18)الزمر
وروى أحمد في مسنده وابن ماجة عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم : مثل الذي يجلس يسمع الحكمة ولا يحدث عن صاحبه إلا بشر ما يسمع كمثل رجل أتى راعيا فقال: يا راعي، أجزرني شاة من غنمك. قال: اذهب فخذ بأذن خيرها شاة. فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم .
4 - اعتياد طلاقة الوجه لإخوانك ، وتحسين خلق التعامل معهم :
وقد روى أحمد رحمه الله عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َقَالَ :
لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ ...
وروى الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ
وروى أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ
وروى أبو داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ( أي الإصلاح بين المتخاصمين ) وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ ..
وفي رواية لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ، أي إفساد العلاقات الحسنة بين الناس .
5 – العفو والتجاوز عن المسيء منهم :
والناس كلهم خطاؤون ، فلا بد من التجاوز عن إساءة المسيء ، وإلا فلن يحصل اجتماع .
قال تعالى يخاطب حبيبه :
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ {159}آل عمران
إننا بحاجة في مثل مجتمعكم - وأنتم الآن في مركز قوة العالم – أن تتماسكوا وأن تجتمعوا على مشروعاتٍ اقتصادية مشتركة ومفيدة ، على مشروعاتٍ تثقيفية وتعليمية ، وعلى مشروعاتٍ تكون فيها رعاية الأطفال وتأديبهم ، وعلى مشروعاتٍ إعلامية توضخون من خلالها مضامين الإسلام وتشرحونها ..
وعندها تحولون هذه النصوص إلى واقع عملي ، ومجتمعكم يساعد على ذلك ..
وفي الختام أحمد الله تعالى الذي جمعني بوجوهكم المشرقة بالإيمان ، وأحمده أن أشهدني من يعبد الله تعالى في هذه البلاد ويحب النبي الكريم سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام ..
أقول قولي هذا وأستغفر الله .
|