بين أصولنا الإسلامية النظرية في نظام المجتمع وتطبيق الغرب لكثير منها
يزور كثير من الناس بلاد الغرب؛ فينبهر بتطورها المادي ونظامها الذي يكون الشعب فيه جزءاً منه ..
ينبهر الزائر الذي ينظر بمنظور المادة للتطور المعبر عن الرقي في المدنية, وعن قناعات الشعوب بتلك الأنظمة التي تُسيِّر أمورها داخل المجتمع.
وكان لابد لي وقد زرت تلك المجتمعات, واطّلعت عليها وعايشتها, أن أقول كلمة لأخوتي في الله ونحن في درس الجمعة ..
هذا الدرس الذي لم يوجد من أجل تمرير وقت أو تسلية أو قص حكايات, إنما وجد ليكون منبر الواقع ..
وجد ليكون منبر المصارحة ..
وجد ليكون منبر التطبيب ..
وجد لينشر الحكمة والعلم, ولينقل الإنسان من الشعارات الرنانة, إلى التطبيق العملي..
وجد ليكون مصدر تغيير .
وهكذا أقول لكم من منبر الجمعة: لا تبخسوا الناس أشياءهم ..
لقد تطور الغرب في مدنيته ، لكنني أقرأ في أصولنا الإسلامية ؛ - وأعني بالأصول الأصول النظرية - أقرأ رقياً يتجاوز ذلك الرقي , لكننا نبتعد عن التطبيق..
ارتقى الغرب في مدنيته, وقوانينه, وتنظيم مجتمعه , وأسلوب معاملاته, لكن أصولنا الإسلامية النظرية تعطينا رقياً وسمواً هو أرقى من حيث البواعث والمبادئ , ونحن في مجتمعاتنا نعيش حالة الانفصام بين الأصول النظرية والتطبيق العملي..
أصولنا النظرية : لو أننا فهمناها فإنها تصلح أن تكون أصول العدالة, وأصول النظام, وأصول المدنية, وأصول الرقي ، لكننا نعيش بُعداً عن فهم الأصول, وبُعداً عن تطبيقها في مجتمعات تسمي أنفسها مجتمعاتٍ إسلامية, وهي لم تأخذ من هذا الاسم إلا جانباً من الجوانب في عبادات الإسلام, أما في معاملاته ونظامه فإنها مع الأسف الشديد لا ترتقي إلى المستوى المطلوب الذي يعايش الواقع في فهم الأصول فضلاً عن تطبيق تلك الأصول.
وهكذا آتي لكم ببعض النماذج حتى تكون الصورة واضحة ونحن ننظر تطور الغرب، وننظر في نفس الوقت إلى أصولنا الإسلامية التي لو فهمناها لكنا أرقى في النظام, والعدالة.
1 - على مستوى صورة الدولة في منظور الإسلام :
نستطيع أن نقرأ الوصف الأكبر الذي يعبر عن الدولة في الإسلام من خلال قوله تبارك وتعالى:
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )التوبة: 128
كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يمثّل الدولة ..
كان صلى الله عليه وسلم مع القرآن بآياته وسوره المدنية التي نزلت بعد هجرته صلى الله عليه وسلم ؛ يمثل الدولة والقانون ..
والآيات التي سأتلوها في هذا اليوم عليكم كلها آياتٌ مدنية, لأن الآيات المكية كانت تتحدث عن أصل العقيدة , أما الآيات المدنية فإنها آيات تتحدث عن المجتمع .. تتحدث عن بناء المجتمع .. تتحدث عن نظام المجتمع .. تتحدث عن الشعب والدولة والقانون.
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) والوصف الممثل هنا أن الدولة تنبعث من الشعب..
(مِّنْ أَنفُسِكُمْ) وهكذا تحصل المجانسة..
(مِّنْ أَنفُسِكُمْ) فليس هنالك أيُّ فارق وهما على قدم المساواة..
(مِّنْ أَنفُسِكُمْ) فثمة مجانسة ومساواة..
وهكذا تنبعث الدولة من الشعب , وتلتحم الدولة مع الشعب.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)
أي يشق عليه ويتألم تألماً شديداً حينما تخالفون الأمر..
وهذا هو الوصف الثاني , الذي يظهر حينما يتألم باطن مسئولٍ في الدولة ألماً شديداً حين يرى مخالفة القانون ..
أما المجتمعات التي فيها في مسئولي الدولة مَنْ يعين على مخالفة القانون فهذه لا تنتسب دولها إلى وصف دولة الإسلام ..
فمنظور الدولة في الإسلام يكون فيه من يمثل الدولة متألماً ألماً شديداً حينما يخالَفُ القانون , ولا يوجد في الدولة التي يطرح صورتها الإسلام ؛ والتي تمثل العدالة والمساواة ؛ لا يوجد من لا يتألم حينما يخالَفُ القانون..
لا توجد تلك الصورة الفوضوية .. أن تكون سيارة المسئول في الدولة متجاوزة القانون , أو أن يكون المسؤول نفسه أو من يلوذ به فوق القانون, لا.. إنه (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) : يتألم حينما يخالَفُ القانون .
أما الصفة الثالثة التي ذكرت في هذه الآية فهي قوله تعالى :
( حَرِيصٌ عَلَيْكُم ) فلم توجد الدولة في الإسلام إلا لتكون حريصة على منافع الشعب..
(حَرِيصٌ عَلَيْكُم) لأن مفهوم الدولة مفهوم خدمة, وليس مفهومَ منفعة, لا..
إنه مفهوم خدمة ومسؤولية , يقف الحاكم فيها يوم القيامة بين يدي الله ..
يقف فيها المسؤولون عن مصالح العباد بين يدي الله, ويقول الله سبحانه وتعالى:
( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ )الصافات: 24
وهكذا تجد ذلك الوصف الثالث في الدولة بمنظور الإسلام : في قوله تعالى (حَرِيصٌ عَلَيْكُم) إنه حريص على منافعكم .. حريص على أن لا يعقِّد أموركم , وعلى أن لا يعقد معاملاتكم ..
ما خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أختار أيسرهما..
إننا نجد اليوم في الغرب أنهم تخلصوا من عُقَدِ المعاملات , لا تقف أمام موظف لتسأله ، وربما ينشغل عنك, لا..
المعلوماتية التي وجدت يمكن للإنسان من خلالها أن يحل أكبر المعاملات وهو في بيته, هذا هو من التيسير الذي أصله موجود في إسلامنا..
اليسر..
(حَرِيصٌ عَلَيْكُم) على منافعكم..
وهكذا لا تكون الدولة في مواجهة الشعب إنما تكون الدولة خادمة للشعب, وتكون الدولة حريصة أن تسن القوانين التي تيسر للشعب مصالحه ..
ما الذي يحتاجه الشعب تيسره له , وإن كان هناك طريقان واحد شاق وواحد يسير فإنها تختار الأيسر..
ثم ذكر الوصف الرابع للدولة في منظور الإسلام فقال:
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)
لأن الباعث الذي يبعث على المصالح قد يكون الحرصَ على المنصب في الانتخابات القادمة في المبدأ الغربي , أما في مجتمعاتنا فلا يوجد هذا الحرص أصلاً, لأنه لا رأي للشعوب أصلاً في هذه المجتمعات .. في عالمنا الثالث كما يسمونها.
لكن عندما يكون الحرص ليس منبعثاً من مصلحة الدولة إنما منبعثاً من الرحمة..حينما يكون الإنسان رحمة.. وياليتنا نتحول إلى رحمة .. ويا ليتنا نفهم معنى الرحمة ..
يا ليت من يجلس في المنصب يشعر بمعنى الرحمة , ويا ليتنا نتراحم فيما بيننا..
الرحمة التي يكون الإنسان فيها متسعاً للإنسان..
الرحمة التي يكون فيها الإنسان ناظراً إلى المخالِف لا إلى الموافق فقط , ينظر إليه وهو يشفق عليه.
ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً أن يدخل في الإسلام ذلك الغلام اليهودي.. غلام على فراش الموت ..
هل ستجني منه مصلحة ؟
هل ستجني منه منفعة ؟
إنه على فراش الموت, ورسول الله يقول له: قل لا إله إلا الله .. والغلام ينظر إلى أبيه .. يخشى أباه , فقال له أبوه لمّا رأى رحمة رسول الله : أطع أبا القاسم..
لأن الرحمة حال يسري في الآخرين, فحين تكون رحيماً تسري رحمتك إلى الناس..
وهو معنى : الناسُ على دين ملوكهم .. فإذا كان الرعاة أصحاب رحمة تراحم الناس..
قال: أطع أبا القاسم, فقال الغلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله..
وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول :
(الحمد لله الذي أنقذ بي نفساً من النار)..كنت سبباً لخروج واحد من الناس من النار..
كم يحترق الناس في النار اليوم ولا أحد يشعر بالرحمة؟
الأنانية والفردية التي غلبت على المسلمين قاتلة.
هذه الأوصاف الأربعة...
(مِنْ أَنفُسِكُمْ) مجانس لكم.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) يشق عليه أن يخالَف القانون.
(حَرِيصٌ عَلَيْكُم) لا لمصالحه إنما لمنافعكم.
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) باعث ذلك كله هو الرحمة.
2 - فإذا انتقلت إلى صورة الشعب في منظور الإسلام :
يقول تعالى في سورة الصف وهي سورة مدنية:
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ)الصف: 4
لا يستطيع واحد في الغرب أن يخالف القانون ويهرب, لماذا..؟
لأن الشعب كله يتعاون مع القانون, لا يمكن أن يفلت المذنب ..
الشعب كله يخبر : يوجد مخالف للقانون هارب , ولا يمضي يوم واحد حتى يقبض عليه, لماذا..؟
لأنها صورة البنيان المرصوص..
هذه الصورة هي تابعة للصورة التي قبلها, إذا لم توجد الصورة التي قبلها لا يوجد هذا, وإذا لم توجد هذه الصورة لا توجد الصورة التي قبلها, فثمة علاقة تبادلية بين هاتين الصورتين.
البنيان المرصوص..
فحينما يشعر الشعب بهذه الصفات الأربعة يتماسك ..
حينما يشعر الشعب أن هذا المسئول لا ينافسه على لقمة عيشه إنما وجد ليحميه, كيف لا يكون معه كالبنيان المرصوص ؟.
لماذا لا نريد أن نكون واقعيين؟
لماذا لا نريد أن نكون صريحين مع أنفسنا؟
هذا البنيان المرصوص يأتي عن قناعة, يأتي عن رؤية وصف..
لابد من الإصلاح, لا على مستوى شعبي فقط بل على مستوى الدول في المجتمعات الإسلامية.
حينما تتغير الأوصاف وتوجد هذه الأوصاف الأربعة ..
فإذا شعر الشعب بتلك الصفات الأربعة سيكون كالبنيان المرصوص..
فأصولنا النظرية الإسلامية تعطي تماسكاً..
لكننا بلا نظام ينظمنا في بواطننا وظواهرنا ، إننا نعيش حالة الفوضى.
واقرأ في سورة النور وهي سورة مدنية أيضاً قوله تعالى:
(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا) النور: 63.
أي الذين يهربون من القانون .. الذين يهربون من التماسك الاجتماعي .. الذين يهربون من كونهم وحدة أمة واحدة حقيقة .
(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
3 - لكن هل هذا التهديد :(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الذي نقرؤه في القرآن، هل يعني ما يسمى بلغة العصر الديكتاتورية، أي من خالفني أزيحه من الوجود؟.. هل هذا هو المفهوم، لا...
إن حرية التعبير التي يتباهى الغرب بها الآن سبق إليها إسلامنا، فأصولنا الإسلامية سابقة ، والتطبيق العملي في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم كان مثالاً عملياً.
إن دولة إسلامنا لا تكمُّ الأفواه ، والدولة الأولى في مجتمع المدينة أعطت التعبير حريته ..
نعم إن حرية التعبير لا تعني بمنظور الإسلام أنَّ أيَّ تعبيرٍ هو حق ، لا ..
التعبير المطابق للحقيقة ، والمعبر عن الحقيقة هو تعبير يمكن أن ينظر إليه على أنه سدة التعبير ، لكن حين يكون تعبير الآخر مخالِفاً للحقيقة أو شاذاً فإن الإسلام لا يُلجمه ، ولم يوجد في مجتمع المدينة سِجن واحد، ولم يبنِ رسول الله سجناً، وأنتم تعلمون أن المجتمعات فيما يسمى بالعالم الثالث، تُبنى فيها السجون قبل أن تبنى المصانع ..
حرية التعبير التي يتباهى الغرب بها والتي يمكن للإنسان أن يقول من خلالها ما يشاء ؛ لو رجعنا إلى المجتمع الأول المدني في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأكمل التسليم فإننا نرى فيه مثالها .
المجتمع في المدينة المنورة نرى فيه صورتين من التعبير المخالف ، وكانت الدولة تنظر إليه على أنه شاذ لكنها لا تفرز سلوكاً قمعياً لا..
إنها تتسع من حيث السلوك ، تقول إنَّ هذا الرأي وهذا التعبير فاسد، لكنها لا تقمعه .. لا تقتل أصحابه .. لا تسجن أصحابه ..
اقرؤوا في سورة في القرآن اسمها المنافقون وهي سورة مدنية :
(يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)
قالها عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وهو يصف سيدنا محمداً الذي كان القائدَ الأعلى للدولة بأنه الأذل ، إنه رسول الله فهو ليس مجرد قائد للدولة وحسب إنما هو سيد الكائنات وحبيب الله ورسوله.
(يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)
ويجيب الله سبحانه وتعالى ذلك المنافق ..
تعبيرٌ يقابله تعبيرٌ ..
يقول الله سبحانه (وَللَّهِ الْعِزَّةُ) : الأذل هو رأس المنافقين لأن العزة هي لله واسم الله العزيز ، ورسوله هو مؤتمرٌ بأمره ، وبالمنطق سيكون العزيزُ رسول الله ..
يا سبحان الله.
ماذا لو أن تعبيراً كهذا وجد في مجتمعات العالم الثالث ؟.
ماذا يكون !!
(وَللهِ الْعِزَّةُ وِلرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) المشكلة هي في جهالتهم ..
لكن الصحابة يأتي بعضهم إلى رسول الله فيقول أتأذن لنا يا رسول الله أن نقتله ويسمع ولده عبد الله بن عبد الله فيأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : لا تأذن لهم يا رسول الله إيذن لي ، لأنني لا أحب أن أرى قاتل أبي فأنا أحب أن أقتل أبي، لأنه يقول لك أنت الأذل، ويقول : هو يا رسول الله الأذل، أيذن لي أن أقتله ، فماذا كان الحكم؟.. ما النتيجة السلوكية ؟
يقول صلى الله عليه وسلم مخاطباً ولد رأس المنافقين:
(أحسن صحبته يا عبد الله، لا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه)
أخالفك في التعبير وتخالفني ، وعند الله تجتمع الخصوم ..
أما أن ينتج عن ذلك سلوك ! فلا..
لا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه ، ليس النظام نظام تصفيات، إنما هو نظام رحمة تتسع للعالم ..
وربما يقول قائل هذا لأنهم كانوا من المسلمين ظاهراً ، فعبد الله بن أبيّ بن سلول كان يعلن الإسلام ..
لكن مجتمع المدينة الذي نشأت فيه الدولة التي تعتبر النموذج الأعلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليهالم يكن كمجتمع مكة، ولو كان كمجتمع مكة سيوجد صفان صف إيمان وصف كفر ، أما في مجتمع المدينة فقد وجدت ثلاثة أصناف : المؤمنون ، والمنافقون ، واليهود الذين يخالفونك في دينك و لا يعلنون الانتماء إلى الإسلام .. الذين يعلنون هوية ثقافية ودينية تختلف اختلافاً تاماً، ماذا يقول اليهود: في سور البقرة التي هي سورة مدينة ؟
يقول الله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) البقرة: 104.
نزلت هذه الآية لأن اليهود كانوا يستعملون كلمة راعنا، وهي في اللغة العبرية شتم ..
في اللغة العربية لها وجه مستحسن، لكن في العبرية لها وجه قبيح كان يستعمله اليهود ويعلمونه ويضحكون ..
يشتمون رسول الله بالعبري ، والله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين أن لا يقلدوا في اللفظة العربية اليهود ..
إذاً فمعلومٌ في ذلك المجتمع أن اليهود يشتمون رسول الله بالعبري ..
ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
نزل الأمر لأهل الإيمان لا تقلدوهم، يا سبحان الله، هل قُتِلوا حين قالوها؟. لا..
وما حصل من الأحداث التاريخية بين المسلمين واليهود كان عندما نقض اليهود معاهدة ، أما في التعبير فلا..
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) المائدة: 64
كان يقابل التعبير بتعبير ، و لا يقابل بسلوك ، لم يسجن يهودي واحد ولم يقتل عندما قالها.
وفي سورة النساء وهي سورة مدنية:
(مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ)النساء: 46
يا سبحان الله ، كل هذا يقابل برد وبخطاب ، ولم يحصل سلوك قمعي .
لكن ماذا عن مجتمعاتنا ؟
ماذا عن حرية التعبير؟
نعم إن الغرب تجاوَزَنا وتفوق علينا ..
يسمع الحاكم أفراداً أو جماعات من الشعب تشتمه وتلعنه وتقيم ألف محفل وألف مجلة وألف جريدة تندد به ، وهو كأنه لا يبالي ، ويحاور ، ويستعمل الوسائل الإعلامية ، لكنه لا يفرز سلوكاً قمعياً..
هذا موجود في الغرب ورأيناه ..
لكن نحن : أصولنا تعطي أسمى من ذلك وأرقى فلِمَ نبتعد عنها ..؟
ولِـمَ نتوهم أنه هذه هي حضارة الغرب ابتداءً لا.. فهي حضارة نشهدها في سيرة سيدنا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم.
لم أجد رغم التفاوت الشديد بين مجتمعاتنا ومجتمعات الغرب ؛ أمراً واحدة لا يعطيه إسلامي ..
كنت أرى دائماً أنني متفوق من حيث النظرية عليهم ، لكنهم تفوقوا عليَّ من حيث التطبيق .. من حيث التطبيق لنظريتي تفوقوا علي ، وأنا في مجتمع يقول إنه مجتمع إسلامي ، ولا يطبَّق من الإسلام فيه شيء إلا الشعارات والعبادات، ندخل إلى المسجد ونخرج ، وليس من مجتمع يعبر عن هذا الدين ، أو يعبر عن هذا التماسك ، أو هذا الرقي ، أو هذه المدنية..
4 - وفوق حرية التعبير أيضاً : حرية التعليم : لقد رأيت تفوقاً ..
حينما يطلب من الإنسان هناك : ابحث عن العلم من الكتاب الذي تريد .. من المنهج الذي تريد ..
كل مدرسة تعتمد منهجاً .. وكل مدرسة تعتمد كتباً مختلفة عن المدرسة المجاورة ، والدولة تقول لهم حصِّلوا العلم ، لكن قبل الجامعة تعالوا حتى نسأل هذا الطالب في الفيزياء ، والفيزياء لغة عالمية، تعالوا حتى نسأل هذا الطالب في الكيمياء، وحتى نسأله في الرياضيات...
حصل علمك من أي كتاب تريد، فالعلم سلم تترقى فيه ..
لا يهمني أن تأخذ من الكتاب الذي طبع في المطبعة الفلانية والذي قرره الأستاذ الفلاني أو غيره ..
تعجبت كيف نحن نطالب في مجتمعاتنا على سذاجتنا : غيروا مناهج التعليم، وفي مجتمعاتهم لا يوجد مناهج للتعليم، إنما تقرر ما تشاء ..
زرت مدرسة من المدارس التي أنشأتها الجالية الإسلامية ، يقرر فيها تدريس القرآن والحديث والعقيدة مع الرياضيات والفيزياء واللغة والكيمياء ولا أحدٌ له أن يقول تُدَرِّسُ هذا أو لا تدرس ذاك.
ربما تتعجبون .. لكن الأصل هذا موجود في ديننا .. في إسلامنا موجود ..
روى الحاكم والطبراني وغيرهما:
(خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيراً ثم قال: " ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم، ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم ؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون، والله ليعلمن أقوام جيرانهم، ويفطنونهم ويفقهونهم، ويأمرونهم وينهونهم وليتعلمن أقوام من جيرانهم، ويتفطنون ويتفقهون أو لأ عاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا )
ماهي العقوبة؟.
إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
هل تظنون أن العقوبة أن يسجنوا ؟
لا .. العقوبة كانت تعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يكلمهم، تعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سيعرضون عنهم .
انظروا ، ولم ينفذ ذلك إنما كان من باب التهديد ..
يعني إما أن تنشئوا تعليماً.. هكذا الدولة تقول للشعب : إما أيها الشعب أن تنشئ تعليماً يرتقي بالناس وإما أن أعاقبك.
أليس عيباً أن يقال في مجتمعاتنا إن علَّمْتم تعاقَبون ؟
أليس عيباً .. أليس هذا مبكياً .. أن يكون هذا في الغرب الذي نشتمه في الصباح والمساء بسبب سياساته الخارجية الفاسدة ، وهذا صحيح فهو يفصل بين سياساته الخارجية والداخلية ، فسياساته الخارجية فاسدة جداً ، لكن على مستوى تطبيقاته الواقعية داخل مجتمعه سما ، وأصولنا سمت أكثر لكننا معقدون...
لا نريد أن نفهم أصولنا، ولا نريد أن نطبقها، فهنا الدولة تقول للشعب إما أن تُعَلِّم وإما أن أعاقبك ، وفي مجتمعات العالم الثالث يقال : إن عَلَّمْتَ أعاقبك! متى نرتقي؟
متى نقول للمثقفين : ثقفوا الناس؟
متى نقول للمتعلمين علموا الناس؟
متى نقول للبناة ابنوا .. لا تتوقفوا .. لا تتخلفوا .. متى نرتقي...
حينما يكون الشعب مع الدولة لحمة وسداة ، كلهم يريدون الوطن ، وكلهم يريدون البناء ، وكلهم يريدون الرقي ، دون محسوبيات، ودون فوضى..
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله
|