الإصلاح بين التوبة والتغيير
سنن الها سبحانه وتعالى التي وضعها لعباده سنن ثابتة ، ربما يحيد الإنسان عنها حينما يستند إلى رأيه أو هواه ، لكننا ونحن أمة إيمان ، وهداية .. ونحن أمة أفادها الحق سبحانه وتعالى بالعلم من خلال الرسل وخاتمهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، نرجع من آن لآخر إلى هداية الله سبحانه وتعالى وتبيينه لنتذكر تلك السنن..
ومن سننه سبحانه وتعالى التي بينها : سننه في إعمار البلاد أوتخريبها .. وسننه في إشاعة رغد العيش ، أو إيجاد الخوف في المجتمعات ..
واقرؤوا إذا شئتم قوله تعالى:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل: 112]
وضرب الله مثلاً : للمتأملين والعقلاء ، وللمتدبرين الذين يطلبون الهداية من مصدرها .
وضرب الله مثلاً قرية : والقرية البلد .
كانت آمنة مطمئنة : تعيش الطمأنينة الباطنة والسكينة النفسية، وتعيش الأمن الظاهر ، فلا تخاف عدواً ولا تخاف زلزلة في واقعها الاجتماعي .
كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان : تواصلت في العيش مع العالم كله حتى أكلت من شرق العالم وغربه .. أكلت وسعدت بنعم الله سبحانه وتعالى في أرضه شرقاً وغرباً .
فكفرت بأنعم الله : وليس معنى الكفر في هذه الآية إعلان الجحود بالله أو إنكار وجوده ، أوجحود وجود الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فالنص القرآني يشير إلى معنىً دقيق ، فكفران النعمة يكون حين لا يعترف هذا المنعَم عليه بنعمة المنعِم، ولا يوظف النعمة في طاعة المنعِم ..
كفران النعمة يكون حينما تستعمل النعمة فيما يسخط المنعم ، فإذا استعملت النعمة فيما يرضي المنعم لا يكون كفرانٌ لنعمة .
والله سبحانه وتعالى يقول :
(لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)إبراهيم: 7.
والشكر استعمال النعمة فيما يرضي المنعِم ، حتى لا يعصى الله تعالى بنعمه ..
فالذي صنعته تلك البلدة أنها وجهت نعم الله تعالى إلى غير مقاصدها ووظائفها التي يرضى بها الله تعالى ..
فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون : فكان ذلك جزاءً من جنس الفعل.
وإذا لاحظنا أيها الأحبة ذلك التوصيف القرآني للبلدة التي يضربها الله سبحانه وتعالى مثلاً ؛ نجد وصف الأمن والطمأنينة ، فالطمأنينة : راحة في الباطن ، والأمن : حالة يضمن فيها الإنسان أن لا ينتهك في ماله أو عرضه ، وأن لا تنتقص كرامته ..
فضد الأمن الخوف ، وضد الطمأنينة العذاب النفسي الباطن الذي يورث ألماً وحزناً وكآبة ..
أمن وطمأنينة ضدهما خوف وحزن .
فإذا كان الله سبحانه وتعالى دلّنا على سنته في خلقه حينما يبدل أمنهم خوفاً ؛ ألا يدلنا سبحانه وتعالى بسننه أيضاً كيف يمكن للإنسان أن يتوقى وقوعه في الحزن والخوف ، ليدفع عن نفسه الاضطراب الظاهر والباطن ؟.
تتبعت في كتاب الله تبارك وتعالى لفظ الخوف والحزن معاً ؛ فوجدت بعض الآيات القرآنية التي من خلالها نستطيع أن نتلمس منهجاً ، وطريقاً يندفع به عن بلادنا الخوف والحزن ..
والعالم الإسلامي اليوم يعيش حالة من الخوف والحزن ، بسبب السياسات الخارجية التي تمارسها الدول الكبرى التي تفصل كما قلت في الأسبوع الماضي بين سياساتها الداخلية والخارجية ، فتوفر لمجتمعاتها حالة من الرقي والانتظام لكنها في الوقت نفسه تتناقض حينما تكون في سياساتها الخارجية بعيدة كل البعد عما رضيته لنفسها من الرقي والانتظام .
تتبعت في كتاب الهي تبارك وتعالى الآيات التي تشق للإنسان طريقاً به يندفع الخوف والحزن .
وأقرأ هذه الآيات على مسامعكم :
قال تبارك وتعالى في سورة البقرة:
(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة: 38
وقال في سورة الأنعام:
(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الأنعام: 48
وقال في سورة الأعراف:
(فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الأعراف:35
(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ , الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يونس62:-63
وقال في سورة البقرة مفصلاً في معنىً آخر :
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة:262
وقال في سورة البقرة أيضاً مؤكداً لنفس المعنى :
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة: 74
هذه الآيات يا إخوتي تحدثت عن الطريق الذي به يندفع عن الإنسان الاضطراب ظاهراً وباطناً .
وإذا حلّلنا مفردات الآيات يرجع الأمر إلى مفردات أربعة :
مفردة الإيمان ، ومفردة التقوى ، ومفردة الإنفاق ، ومفردة الإصلاح .
مفردة الإيمان :
(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الأنعام: 48
مفردة التقوى:
(فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ) الأعراف:35
مفردة الإنقاق:
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ) البقرة:262
مفردة الإصلاح المتكررة : ( وأصلح ) ، وأصلح..
فرجع الأمر إلى هذه المفردات الأربعة التي بها يندفع الاضطراب الظاهر والباطن عن المجتمعات .
ولعلنا نقف في عجالة مع كل مفردة من حيث التطبيق الواقعي.
أما مفردة الإيمان :
فإننا نلاحظ يا إخوتي أن المجتمع الإسلامي الأول الذي ربَّاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما كان له أن يسمو ويرتقي إلا بقوة إيمانه ..
لم يسمُ ذلك المجتمع ولم يرتقِ إلي سدة العلياء إلا حينما كانت حقيقة الإيمان في قلبه عظيمة متفاعلة ؛ حينما كان يثق بالله ويثق بما عنده ..
حينما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن الجنة فكأنها رأي عين.
تلك هي حالة الإيمان التي عاشها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
حالة الإيمان التي فيها يقسم الصحابي فيقول : إني لأشم ريح الجنة دون أحد وهو ينظر إلى أحد ويشم منه ريح الجنة.
حقيقة الإيمان : وجدت عندما كان الصحابي يطعن في صدره فيقول بسببها : فزت ورب الكعبة..
وحين زرت أقصى الغرب وجدت أن الإحصائيات– وهم يهتمون بالإحصائيات كثيراً- تتحدث أن نسبة الإيمان والتعلق بالغيب في مجتمعهم الذي نتوهم أنه مجتمع مادي صرف تصل إلى ستين بالمائة ..
الذين يرتادون الكنيسة ويعيشون مع معاني اللاهوت ؛ في مجتمع كبير يتجاوز الثلاثمائة مليون : ستون بالمائة ..
في مجتمع يعتبر اليوم المجتمع الأقوى في العالم ..
أما نحن اليوم فحينما نريد الحديث عن الدين نفلسفه بكلمات ؛ ونتحدث عنه بماديات، ونهمل الحالة الإيمانية الشعورية التي علينا أن نستمدها من القرآن وبيان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .
وجدتهم يجتمعون ألوفاً مؤلفة في الملاعب الرياضية ، فيوظفون الملاعب الرياضية للحديث عن اللاهوتيات ..
ويجتمع في الملعب الرياضي ما يصل إلى مائة ألف وهم يتحدثون فيه مع مجتمعهم عن اللاهوتيات ، أي عن الروحانيات...
هذا هو المجتمع الذي يمسك اليوم بزمام قيادة العالم ..
ورأيتهم كيف يبكون وهم في الملاعب الرياضية ؛ وأحدهم ممن تخصص في الحديث عن الروحانيات يتحدث معهم عن علاقة الإنسان بالغيب وهم يبكون ..
وأما نحن .. الأمة المتصلة بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام فإننا نجد الدعاة في أحسن الأحوال يتحدثون عن الدين بكلام فلسفي !.
إن تحريك حقيقة الإيمان في القلوب هو من الأمور الضرورية ، ومن خلالها تتحرك المجتمعات ، فلا حركة للمجتمعات إلا بقوة شعورها الباطن .
فالعاطفة جزء مهم ، وإذا أهملنا جانب الشعور والعاطفة فإن مجتمعاتنا ستظل في حالة من النوم والخمول والكسل...
ترى جموداً في مجتمعاتنا الإسلامية ، فإذا رأيت حماسة في بلدٍ من البلاد الإسلامية رأيت مبعث الحماس واقعاً سياسياً لا علاقة له بحقيقة الإيمان ..
تلك هي آفة ينبغي أن نضع اليد عليها ، فمجتمعات العالم الإسلامي بحاجة إلى تحريك إيماني ، فإذا تحرك الإيمان في القلوب تنتفي حالة الجمود والتخشب والتجمد الذي يعيشه الإنسان متقولباً في قالب حجري يصطنع العبارات... وينحت الكلمات...ويتصنع في الحديث...
ثم هو بعد ذلك بعيد كل البعد عن الحقيقة الإيمانية التي يلتهب المجتمع بسببها.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر سنة كان لا يتحدث إلا بحقائق الإيمان، فيحرك بها قلوب الناس ، ويصلها بالله ، ويصلها بالآخرة...
إذا أردنا مجتمعاً قوياً فحقيقة الإيمان لابد منها..
فإذا انتقلنا إلى المفردة الثانية التي هي مفردة التقوى :
أقول: إن هذه السمة سمة نحتاج إليها لنتميز، فالمجتمع في أقصى الغرب ، مع كونه يتمسك بالروحانيات لكن فكرة المخلص لم تترك لديه منهج التقوى والاستقامة، ويكفي أن يعترف بذنبه عند البعض ..
ويكفي أن يتعلق بالمخلص عند الآخرين...
وفي ديننا : إن تمسكنا بمفهوم التقوى تميزنا عنهم ، فجمعنا بين الإيمان والاستقامة السلوكية .
ولقد راعني أنني وجدت كثيراً من المسلمين في الغرب يتمسكون بالقيم الإيمانية، ويرتقون في تَعلُّقات أرواحهم ، لكنهم ينظرون إلى الاستقامة والتقوى على أنها قشورٌ يمكن التساهل فيها !!
لقد راعني ذلك ..
وحين نفصل صورة ديننا عن روحه ، لن يقوم لنا قائمة ، فالشريعة مرتبطة بحقيقة الإيمان ، وحقيقة الإيمان مرتبطة بصورة الشريعة ، ولابد من هوية تميزنا ..
ومع كون المجتمعات هناك تعيش حالة الحرية ؛ وتعيش أريحية يستطيع الإنسان من خلالها أن يعلن هويته كما يشاء دون أن يعاني من أي ضغط , لكنه مُتأثر بالواقع العام ..
فالتقوى سِمة إذا وجدت فيكم تستطيعون من خلالها التَميُّز في العالم ، وهي حالة الاستقامة على حدود شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وليست مفردة التقوى في مفهوم بناء المجتمعات الإسلامية مفردة تحصَّل بالقوة ..
لا .. لا يوجد في مجتمعنا الإسلامي من يُمسك بالعصا ليقول للتاجر وهو يضرب على باب دكانه : اخرج إلى الصلاة .. فهذا يعتبر جزءاً من تشويه الإسلام .
ولا يوجد في مجتمعاتنا من يُمسك بالرجل الذي لم يطلق لحيته ليزجره أو ليعاقبه أو ليسجنه..
فالتقوى مفردة تنمو من خلال القناعات..
وتنمو من خلال التمسك بكتاب الله..
مفردة الحجاب على سبيل المثال : مفردة تنمو في باطن المسلمة حين تقرأ قوله تعالى:
(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)النور: 31
فقد نص القرآن بنص صريح على وجوب خمار المرأة المؤمنة .
وهكذا كان لابد من أن نُثمِّر ونُنمِّي مفردة التقوى حتى تتماسك مجتمعاتنا وتنمو, من حيث البناء الداخلي .
فإذا انتقلنا إلى مفردة الإنفاق :
في المجتمع الأول تعلمون : حين خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن ماله كله, وقال له سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما تركت لهم يا أبا بكر ؟ ) فقال : تركت لهم الله ورسوله.
ولم يقل له : لم أترك شيئاً .
وخرج عمر عن نصف ماله , وجهز عثمان جيش العسرة , وقاسم الأنصار إخوانهم المهاجرين بيوتهم وأموالهم.
وكمثال ونموذج من مشاهداتي - ولا أحب أن أضن عليكم بملاحظة رأيتها أولاحظتها – إن النسبة المرتفعة التي حدثتكم عنها : ( الستون بالمائة الذين يدخلون إلى الكنائس ) , ينفق كل من يدخل إلى الكنيسة فيها حيث يقتطع من دخله مقدار اثنا عشر بالمائة من الدخل للكنيسة ..
يقتطع من حسابه الخاص نسبة اثنا عشر بالمائة من الدخل , لذلك تعتبر الكنيسة من أغنى المؤسسات هناك , ولا يمكن أن تتوقف عن أي مشروع..
إثنا عشر بالمائة من دخل أكبر قوة اقتصادية في العالم يوضع على أقدام الكنيسة !
أما نحن فمن أجل أن نصلح باباً في المسجد نصيح حتى يبح الصوت ..
فإذا أردنا أن ننقذ شاباً من ورطة فالمصيبة أعظم ..
أما إذا أردنا أن ننشئ مشروعاً إسلامياً ... فهيهات هيهات..
ثمة تناقض كبير بين مجتمعنا والمجتمع الذي بناه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ونتوهم حينما نسمع أخبار العالم من حولنا أنه مجتمع مشغول بالمادة , وأنه لا علاقة له بالدين ..
لقد قال مستشار الرئيس الأمريكي في الكنيسة : إن فصل الدين عن الدولة خرافة انتهت .
لكننا نَجْترّ ما قيل منذ خمسين سنة, أو منذ مئة سنة.
حتى ما قيل من ذلك الفصل يتناسب أصلاً مع قضاياهم التي كانوا يعايشونها حينما عادت الكنيسة في أوربا علماء الكون , وحاربتهم وأحرقتهم.
والآن يقال هناك على أعلى مستوى في هذه الأيام : قضية فصل الدين عن الدولة خرافة انتهت.
ويقال لنا : إياكم والدين .. لأن ديننا هو دين بناء ..
لكن هل نصحو؟
هل نتعلم؟
هل نفهم ؟ أم أننا سنكرر ونَجْترّ..؟
نكرر ما يقال ويملى لنا وعلينا , ولا نشعر بهويتنا الذاتية ؟
إذا لم يعد إلى تجارنا وصُنّاعِنا وأصحاب الأموال ذلك الشعور الذي كان في عمر وأبي بكر وعثمان والأنصار فلا نهضة لنا..
والمشروعات كثيرة ، وبدأت أبوابها في بلادنا تفتح , لكن متى سنُفيق.. متى سنفيق..
متى نلغي تلك الصورة المشوهة المصطنعة التي نشرت وأُريدَ لها أن تنتشر : أن الشيخ يساوي ( الشحاد ) , يساوي ( السائل ) من الدرجة العاشرة .. وأن الدعاة هم لصوص....
هكذا يُنشر بين الناس ، وكأن الذي ينفق مالاً هو الذي أوجد وخلق وأمدّ ..
وما علم أنه هو ورزقه وماله من نعم الله سبحانه , فالله تعالى هو الذي أعطاه نعمه, هذا أعطاه علماً ، وهذا أعطاه عملاً ، وهذا أعطاه مالاً..
إذا لم نتكامل على بساط العبودية .. جميعاً من دون مفاهيم الزعامات, ومن دون تلميع للشخصيات ..
من دون أن يقول قائل : أنا الذي فعلت ..
أن نكون جسداً واحداً .. نريد البناء .. لا نريد الشهرة .. ولا نريد السمعة ..
نريد مشروع حضارة .. عندها يمكن لنا أن نتقدم..
أما أن يبقى صاحب المال يقفل على (كاصَّتِه) المال ويقول : ليته لا ينقص ، وصاحب العلم في جانب ، وصاحب العمل في جانب ، فهذا والله سيؤدي إلى وقت لن يجد فيه صاحب المال ماله , ولا صاحب العلم علمه , ولا صاحب العمل عمله, فارتقبوا إني معكم من المرتقبين.
إذا لم توجد ثورةٌ بنائية , لا ثورة جهلة يخربون ويحطمون..
إننا نحتاج إلى ثورة بناء , وحضارة , وإصلاح..
ولا يكون هذا مع جمود, أو نوم , أو كسل, لا..
إنه يحتاج إلى نساء مؤمنات ورجال أيقنوا أن بناء الحضارة لا يكون مع النوم والخمول...
خرجوا عن النفعيات... وخرجوا عن الأنانيات... وخرجوا عن الفرديات... فتكاملوا جميعاً.
فإذا انتقلنا إلى المفردة الرابعة مفردة الإصلاح التي أحببت أن أنبه إلى مضمونها لأنها كلمة تشاع دون أن يعرف مضمونها .
وحتى نفهم مضمون الإصلاح اقرؤوا قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِن الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُم اللهُ وَيَلْعَنُهُم اللاعِنُونَ , إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة: 159-160
هنا أربع مفردات : الكتمان, والتوبة, والإصلاح, والتبيين.
فضد الكتمان التبيين , وبينهما جاءت مفردتان: التوبة والإصلاح.
ما معنى هذا ؟
معنى هذا: أن الآية تتحدث عن ذنب اسمه الكتمان , ولابد من التوبة منه , والتوبة معناها الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على ألا يعود..
فهي قضية باطنة , تاب عن هذا الذب وأقلع عنه, وعزم ألا يعود و ندم على ما فات.
ثم هو بعد ذلك مطالَبٌ بإصلاح :
( إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا )
والإصلاح : إعادة بناء , وإعادة تكوين, لأن التكوين الفاسد أنتج الذنب , فيحتاج إلى إعادة تكوين بحيث تظهر ثمرة ذلك البناء بضد الذنب, الذي هو في هذا المثال التبيين الذي هو ضد الكتمان .
كان ذنبه الكتمان , فلما حصل الإصلاح أثمر وأنتج ضد الذنب : وهو التبيين.
فلا يعني الإصلاح إذاً الإقلاع عن الأخطاء, لا..
إنما يعني : أن ننتج ضد الفساد.
وإذا أردتم أن أعطيكم من القرآن شاهداً آخر.
فاقرؤوا قوله تعالى:
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) النساء: 145
والذنب الذي يتحدث عنه القرآن هنا : هو النفاق.
(وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ ) يذكر التوبة والإصلاح.
ثم يقول: (وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ) النساء: 145
فضد النفاق : الاعتصام بالله والإخلاص , أقلعوا عن النفاق : أي تابوا, ثم أصلحوا: أي أعادوا بناءً في الظاهر والباطن فأنتج ذلك البناء ضد الذنب وهو الإخلاص .
فالإصلاح لا يعني أن يكون السارق مقلعاً عن سرقته , فتلك هي توبة, لكن الإصلاح يكون بأن يتصدّق , أي أن يُوجِد ضد ذنبه.
والمرتشي, ليس معنى إصلاحه أن يتوقف عن الرشوة, بل الإصلاح أن يقدِّم لبلده من نفسه ومن ماله ومن جسده ومن وقته ما يبني به , فهذا هو الإصلاح.
والذي ينشر المفاهيم المغلوطة التي تخرب المجتمعات في بناءها العقلي , والذي يربي الأطفال على المفاهيم المغلوطة, توبته أن يقلع , وإصلاحه أن يعيد بناء الطفل بناءً جديداً على المفاهيم الحقيقية الإنسانية الصالحة, ليكون هذا الطفل رجلاً في المستقبل.
فالإصلاح هو أن نعيد بناء تكويننا بحيث ننتج ضد الفساد , وإذا لم نبدأ البناء فسنبقى مخربين .
إذا وجدنا مخربين يخربون البلاد بطرق شتى فلا يكفي أن يقلعوا عن التخريب, لا..
إن الإصلاح يكون بأن يقدموا بناءً حضارياً يتناسب مع إنسانية الإنسان, ويتناسب مع الفضيلة, والرقي ..
أن نقلع عن التخريب, فتلك هي توبة, أما الإصلاح فهو أن يكون بناءنا فعلاً مضاداً للتخريب الذي خربناه في الماضي.
وهكذا نحتاج إلى صحوة, ومصارحة ..
نحتاج إلى إلغاء الفجوة بين الشعب والدولة ..
نحتاج إلى إلغاء المسافة بين المسؤول والمواطن ..
وعندها يمكن لنا أن نعيش الإصلاح بين التوبة والتغيير.
حينما ترتفع عن كاهن المواطن الأعباء الكثيرة المعنوية والحسية.. فلنرفع الضرائب الجمركية المرتفعة جداً عن كاهل المواطن.
ولنرفع الرقابة الأمنية المعلنة , والمجتمعات كلها يوجد فيها رقابة أمنية لكنها غير معلنة ، لأن الرقابة الأمنية المعلنة تشكل ثقلاً على المواطن , وإذا أراد أن يتنفس سيحتاج إلى موافقات .. فلنرفع هذا.
نحتاج أن نعيد للإنسان كرامته حتى يرتفع رأسه .. ليكون عزيزاً بالله, وعزيزاً ببلده, وعزيزاً بقيمه.
هذا هو الإصلاح..
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله .
|