بين الفشل والنجاح
في كتاب الله تبارك وتعالى نقرأ نصاً يوجهنا إلى المعالم الأساسية الكبرى للنجاح, يجد الفرد فيها نجاحه, وتجد الأسرة والجماعة والمجتمع فيها النجاح حينما تفهمها وتطبِّقها، وتتحقق بها.
والمعالم الكبرى للنجاح هي مقابلات مفردات الفشل .
ولئن كان العالم اليوم يهتم بنجاح المجتمعات وفشلها, ونجاح الدول والأنظمة وفشلها, فإن مرجعيتنا الكبرى في ذلك هي كتاب الله, لأن كتاب الله تبارك وتعالى أنزله بعلمه, وما يعبر عن علم الله سبحانه وتعالى يعبِّر عن الكمال, أما غيره فتطرأ عليه عوارض النقصان.
والنص الذي اخترته لكم من كتاب الله تبارك وتعالى هو قوله تعالى:
(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ)آل عمران: 152
والمعنى:
(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) حال كونكم متنازعين, عاصين, مختلفين في المقاصد، فالواو هنا واو الحال.
(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) : فكان حالكم في وقت الفشل التنازعُ والمعصيةُ واختلاف المقاصد.
فوضِّح النص القرآني مفردات الفشل, التي تقابلها معالم النجاح.
ومفردات الفشل: التنازع والمعصية واختلاف المقاصد.
ويقابلها من أسباب النجاح: التوافق والطاعة واتحاد المَقْصِد.
ولابد لنا أن نقف عند كل مفردة من هذه المفردات وقفة عاجلة.
ولاحظوا أن المفردة الأولى من الثلاثة تتعلق بحركة التجمع أو المجتمع الميكانيكية, فتصف تجاذباً في اتجاهات متعددة.
أما مفردة اختلاف المقاصد فتصف الباعث لتلك الحركة.
وفي مفردة المعصية أو الطاعة يتجلى الميزان الذي يحكم سلوكنا هل يوصف بأنه طاعة أم معصية؟.
وهكذا تكون المفردات الثلاثة
- مفردة عملية حركية في المجتمع
- ومفردة تتعلق بالبواعث الباطنة للحركة
ومفردة يتجلى فيها ميزان الله سبحانه للسلوك.
المفردة الأولى مفردة التنازع:
والتنازع مفهوم حركي, لأن معناه التجاذب, فالتنازع هو تجاذب قوى، باتجاهات متعددة, وفي مبدأ تجاذب القوى في الفيزياء تفني القوى المتعاكسة بعضها بعضاً.
وقد مثلت ذلك في مخطط موضِّح, يمثل اجتماع أفراد خمسة, كل من هؤلاء الخمسة يمكن أن يتحرك باتجاه..
هذا يصب قوة ماله باتجاه, وآخر يصب قوة علمه باتجاه, وثالث يصب قوة بدنه باتجاه..وهكذا ..
تلاحظون ذلك في المخطط الآتي :
وهذا ما نعانيه اليوم, فكم منا من يملك قوة علمية, وكم منا من يملك قوة اقتصادية, وكم منا من يملك قوة حركية, وكم منا من يملك قوة سياسية.., لكننا لا نسير بالتوافق, بل نتحرك باتجاهات متعددة, وكل منا يحدد اتجاهه وفق ما يراه, أو وفق الباعث..
واتجاهات الأسهم في مخطط هذه اللوحة تعبر عن المقاصد.
و المحصلة: المعبر عنها باللون الأزرق في التنازع, أقصر من قوة واحد من هؤلاء الخمسة.
فإذا أضيفت الخمسة بعضها إلى بعض, فكانت باتجاه واحد ( في حالة التوافق ), ستكون المحصلة : كبيرة وفاعلة ومجدية ومؤثرة..
فانظروا إلى الفارق بين التنازع والتوافق ..
لماذا يفشل مجتمعنا السوري..؟
ولماذا يفشل مجتمعنا العربي..؟
ولماذا تفشل مجتمعاتنا الإسلامية..؟
لأن كُلاًّ منا يتحرك باتجاه تحدده بواعثه هوَ.
ومحصلة القوى في التنازع – كما تلاحظون في المخطط - غالباً ما تكون منحرفة عن الخط المستقيم ..
لكنها في حالة التوافق ووضوح المقصد, تكون باتجاه مستقيم..
في حالة التنازع يشترط حتى يكون اتجاه المحصلة بالاتجاه المستقيم أن تكون القوة المؤثرة الكبرى باتجاه مستقيم.
أكثركم رأى ونحن نأتي إلى خطبة الجمعة؛ كم هو عدد السيارات التي تحمل الأعلام الرياضية, وكم هو عدد الشباب الذين تحركوا باتجاه الملاعب..
قوة شبابية, ولكن باتجاه (لا شيء), في الوقت الذي يعيش فيه مجتمعنا بحالة الانهيار.. الانهيار ولا أحد يشعر بذلك..!!
الانهيار السياسي والعسكري والاقتصادي, و الاجتماعي..
نعيش حالة من التوجس,و الحذر, وغيرنا يتحكم بنا, ونحن لا قيمة لنا..
ونرى قوة شبابية كبيرة؛ بالألوف تتحرك باتجاه الملاعب الرياضية في وقت الجمعة, الذي شعار الأمة فيه:
(إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) الجمعة: 9
ذروا البيع المجدي المنتج, فكيف يقال للاعبين ؟
هذه الظاهرة تعبِّر عن بعض الفوضى التي نعيشها, والتي نحتاج إلى تشخيصها وتوضيحها...
يومَ سقيفة بني ساعدة, قال الصديق أبو بكر رضي الله عنه, وهو يبين ضرورة التوافق, وترك التنازع والتجاذب بالاتجاهات المتعددة, قال:
(لا يحل أن يكون للمسلمين أميران؛ فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامهم, وتتفرق جماعتهم, ويتنازعوا فيما بينهم).
وقال عبد الله بن مسعود:
(عليكم بالطاعة والجماعة, فإنها حبل الله, وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة, وإن الإسلام يوشك أن يبلغ نهايته وآية ذلك الفاقة – يعني الفقر العام- وتفظع –أي تفظع الفاقة- حتى لا يجد الفقير من يعود عليه –أي من يعود عليه بشيء من النفع- وحتى يرى الغني أنه لا يكفيه ما عنده –الغني الذي أصابته التخمة, يشعر بعدم الكفاية - وحتى إن الرجل يشكو إلى أخيه وابن عمه فلا يعود عليه بشيء).
ويقول سيدنا علي رضي الله عنه:
(الجماعةُ واللهِ : الاجتماعُ مع أهل الحق وإن قلُّوا..والفُرقةُ الاجتماعُ مع أهل الباطل وإن كثروا...)
وهكذا يضيف أمير المؤمنين سيدنا علي رضي الله تعالى عنه, مفهوما آخر, هو اتجاه السهم, أي أن تكون الجماعة على الصراط المستقيم..
متى نبدأ باستيعاب هذا المفهوم فتنضم قوى بعضنا إلى بعض ؟
هاهي الاتجاهات المنظَّمة تصدر قرارات الشعوب وقد رأى العالم ما حصل في فرنسا وغيرها حينما قالت الشعوب لا لأمر وجدت فيه أنه في غير مصلحتها وبوجود التنسيق، والتوافقية.. أنتجوا، وكانوا فاعلين في تناسق يجتمع على شيء.
قال العلماء في حديث : ( يد الله مع الجماعة ) ظاهر منطوق الحديث أنها معها حتى ولو كانت على غير الحق لأنها سنة من سنن الله الكونية.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحاداً
لكن هل المجتمع الفرنسي من البشر من بني آدم ونحن لسنا من بين آدم ؟
هل المجتمع الفرنسي هو من كوكب آخر ؟
أم أننا مجتمع مشلول وقع في الخوف والحذر وأصبح لا يبالي إلى أين يساق!
يراد له ولا يريد .
لماذا لا تجتمع الأيدي ؟.
يقولون إننا لا يمكن أن نفعل شيئاً.
وهذا ليس صحيحاً فحديث النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيه أن الثلاثة خير من الاثنين.
أو الذين يزعمون أنهم يريدون الخلافة والبيعة ولا يقدرون على الاجتماع في تجمع صغير تتوحد فيه قواهم، لا يمكن أن نصدقهم في حال من الأحوال .
فحين نقدر أن نجمع في مسجد كل ما نملكه ليكون في اتجاه واحد نتدرب عندها على التوافق، وحينما لا نتعلم ذلك على مستوى المسجد والحي والأسرة لا يمكن لنا أن نتعلم التوافق الذي يوصلنا إلى النجاح ويخرجنا من التنازع والتجاذب الذي سيوقعنا في الفشل.
المفردة الثانية :المعصية:
ومفهوم المعصية والطاعة شرعيان لا عقليين؛ فالحَسَنُ ما حسّنه الشرع والقبيحُ ما قبّحه الشرع ..
والله سبحانه وتعالى قال لنا في كتابه:
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) الطلاق: 2
فالتقوى لا يكون معها إلا النجاح، ولو اجتمعنا وتوافقنا لا يمكن أن ننجح إذا لم يكن اجتماعنا هذا محكوما بميزان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واقرؤوا قوله تعالى:
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
أسواقنا لن تنجح إلا إذا كانت على الشريعة، ومصانعنا لن تنجح إلا إذا كانت على الشريعة، وبنوكنا لن تنجح إلا إذا كانت على الشريعة، وأسرنا لن تنجح إلا إذا كانت على الشريعة، وطلابنا لن ينجحوا حتى يفهموا قواعد الشريعة..
ولا أعني بالنجاح أن يجتاز الطالب الامتحان، بأن يعطى علامة تخوله الانتقال من هذه المادة أو تلك.
إن النجاح مفهوم كبير تظهر من خلاله إنسانية الإنسان بكل أبعادها، بتفوقه العقلي والعلمي والفكري والروحي والقلبي والنفسي ...
وأتي أبو بكر رضي الله عنه بطعام فأكله ولما اعتقد أن هذا الطعام من شبهة قال أطعمتموني كهانة؟ ثم استقاء .
وفي رواية : أدخل يده في حلقه جعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له يرحمك الله من أجل هذه اللقمة؟ قال لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به)
فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة.
هذا هو واقع سلفنا، وهذا هو تقواهم.
فأين نحن منهم ؟
المفردة الثالثة اختلاف المقاصد :
والمعبر عنه بقوله تعالى:
(مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ) فتفاوتت البواعث واختلفت.
يقول عمر رضي الله تعالى عنه: ( دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير فجلست فإذا عليه إزار وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه فنظرت في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها من قَرَظ -وهو الورق الذي يدبغ به الجلد- في ناحية الغرفة، وإذا إهاب معلق،(جلد لم يدبغ بعد) فابتدرت عيناي (بكى عمر رضي الله عنه ) فقال : ما يبكيك يا ابن الخطاب قلت: يا نبي الله وما لي لا ابكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته فقال:
(يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟)
قلت بلى )
فأين نحن من هذا المقصود يا شباب .. ويا رجال.. ويا أخواتي.. ويا بناتي ؟
أين نحن من هذا يا شباب الملاعب الرياضية؟ .
ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: ( خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر، فقال: يا ابن عمر مالك لا تأكل ؟ فقلت: يا رسول الله لا أشتهيه، فقال:
(لكني أشتهيه وهذا صبح رابعة لم أذق طعاماً)
(ولو سألت ربي لأعطاني ملك قيصر وكسرى)
فلم يكن ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الوصول إلى الدنيا لا ..
وراودته الجبال الشم من ذهب
وأكدت زهده فيها ضرورته
عن نفسه فأراها أيما شمم
إن الضرورة لا تعدو على العصم
يجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريد الآخرة، وتعرض الدنيا عليه ويقول لابن عمر : ولو سألت ربي لأعطاني ملك كسرى وقيصر .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين في قلوبهم ؟)
يتعجب رسول الله .
أي أنهم يدخرون لضعف اليقين فيهم .
لو كان الادخار لوجود ما يُخَبّأُ لا لضعف يقين لا يضر ذلك.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيـّن واقع قلوبهم لأنهم توكلوا على المخزون ..
قال ابن عمر رضي الله عنهما : فوالله ما برحنا ولا قمنا حتى نزلت (أي حتى نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) نزلت الآية:
(وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) العنكبوت: 60
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله لم يأمركم بكنز المال ولا بإتباع الشهوات.
مَنْ كَنَـزَ دنانير يريد بها حياة فانية فإن الحياة بيد الله ألا وأني لا أكنـز ديناراً ولا درهما ولا أخبأ رزق لغد).
مثل هذا يغير مقاصدنا يوجهها لنكون في معنى:
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) القصص: 77
تريد الله واليوم الآخر، ولا تنسى نصيبك المقسوم لك في الدنيا .
أما أن نتحول لتكون الدنيا مقصودنا وأكبر همنا في ليلنا ونهارنا فهذا مُشعر يدل على سبب من أسباب فشلنا وانحدارنا.
للرجوع إلى النجاح علينا أن نسعى إلى التوافق، والطاعة، واتحاد المقصد الذي هو الله واليوم الآخر .
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله
|