يتكرر عند البعض بل عند كثيرين من إخواننا وأحبابنا ومثقفينا سؤال يُطرح بعباراتٍ متنوعة ومضمونه واحد، يقال فيه: الاعوجاج كبير، والفساد مستشر،فكيف يمكن لنا أن نتحمل أولاً بنفوسنا ومشاعرنا وعواطفنا ما نراه حولنا ؟.
ثم كيف يمكن لنا أن نثبت أمام هذا التيار المفسد، الذي يسوق إلى الاعوجاج والفساد؟.
وتتلمس في هذا السؤال حالة إحباط يكاد الإنسان أن يقع فيها.
أقول:
- الإنسان حين يتذكر أنه يريد الإصلاح، وأنه يعاكس الإفساد، فإنه بذلك يتأسى برسل الله عليهم الصلاة والسلام وينوب عنهم في ذلك.
- ويلزم من ذلك أنه في منهج حياته وسلوكه يستقيم على صراط الرسل.
- وبعد ذلك يتذكر أن رسل الله كانوا في بيئة فاسدة أيضاً، وكان الاعوجاج حولهم من كل جانب.
- ويتذكر أيضاً أن طريق الرسل لم يكن طريقاً محفوفاً بالورود، إنما كان طريقاً تحيط المصاعب به.
- ويلزمه أيضاً أن يتعلم حال الصبر الذي كان حالَ رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
لكنني قرأت في كتاب الله تبارك وتعالى آية قد تكون دواء وشفاء، ربما يجد فيها الذي يعاني من هذا الإحباط بلسماً يمسك من خلاله ببداية الطريق.
يقول سبحانه وتعالى وهو يخاطب حبيبه الداعية الأول سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام:
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) [الأنعام : 33-34].
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) نعلم أنك تعيش حالة حزن وألم لما تراه من حولك.
(فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) فلماذا أنت حزين ؟ لست أنت الذي سيتولى أمرهم، إنهم وجهوا بفسادهم عداوتهم إلى من بيده ملك السموات والأرض.
مخلوق يعادي خالقه لأن خالقه أمر بالإصلاح، وأمره أن يلتزم طريق الإصلاح.
إن الذي يفسد ويتخذ طريق الإفساد منهجاً لم يعاد بشراً إنما عادى خالقه.
(فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ).لماذا تحزن ونحن الذين سنتولى الأمر.
يقول الله سبحانه وتعالى: وجهوا عداوتهم إلينا فنحن الذين سنتولى أمرهم، أنت تؤدي دعوتك ورسالتك، ونحن سنتولى الأمر لأن الأمر كله بيدنا.
ثم ذكر النموذج الذي يتكرر؛ نموذجَ الداعية فقال سبحانه وهو يخاطب داعية الأمة الأول صلى الله عليه وسلم ويَصِلُ الماضي بالمستقبل.
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ).فهي سنة الله سبحانه وتعالى في الدعاة.
(فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ).ثبتوا وتحملوا وتجاوزا كل العوائق.
(فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ).صبروا على التكذيب الذي هو المعارضة في الاعتقاد والفكرة، وأوذوا تحملوا الصعاب والمشاق.
( حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) .فالعقبى والخاتمة تأييدُ الله سبحانه.
(وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ) فهي حقيقة ثابتة متكررة في كل زمان.
( وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) .في قصص مفصلة.
حين قرأت هذه الآية أو الآيتين، قلت لابد أن قبلها شيئاً وأن بعدها شيئاً، لأن القرآن الكريم يُظهر في آياته مناسباته، ولا يستطيع الإنسان أن يقرأ نصاً حتى يقرأ النص الذي قبله والذي بعده، فلما قرأت النصوص التي قبلها والتي بعدها وجدت أنها تشير إلى أمرين اثنين:
- الأمر الأول هو واقع البيئة المحيطة.
- والأمر الثاني هو مدعمات الثبات على الدعوة.
فإذا رجعتم قبل النص الذي قرأناه في سورة الأنعام رجوعاً يسيراً تقرؤون قوله تعالى :
(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [الأنعام : 25].
وهذه الآية تصف واقعاً من التكذيب والإعراض، تصف واقعاً يرفض الإسلام، فيرفض حقائقه وثوابته.
(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) يستمع إليك وأنت تبين لهم تلك الحقائق والثوابت التي من خلالها يخرج الإنسان من الظلمات إلى النور.
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا).فماذا نفهم من هذا؟.
1- نفهم أن الله سبحانه وتعالى له سنة في كل الدعاة هي أنه يضعهم أمام المحنة قبل المنحة.
وهكذا تجد أنه سبحانه وتعالى يصف إضلاله لأهل الكفر الذين أحاطوا بالدعاة حتى يكون ذلك سلَّماً لارتقاء الدعاة.
2- لا نتوهم أن الله سبحانه وتعالى حينما يهدي أو يضل فإن السبب الإنساني منقطع لا ..
فالقرآن الكريم أشار في آيات أخرى إلى السببية، فالذي أضله الله هو الذي طلب هذا الإضلال، والذي هداه الله هو الذي طلب هذه الهداية، قال تعالى:
(كلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين:14] .فينبغي علينا أن لا ننسى كسب الإنسان الذي ساقه إلى سوء الفهم.
إذاً واقع البيئة التي يصفها القرآن في هذا النص يمثل واقع إعراض وتكذيب.
ثم يأتي بعنصر آخر يصفه في تلك البيئة، بقوله سبحانه في نفس النص:
(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) فهي الحرب على الإسلام قولا وفعلا.
(وَهُمْ يَنْهَوْن عَنْهُ) حرب قولية على الإسلام.
(ويَنْأَوْنَ عَنْهُ) يبتعدون عنه في سلوكهم وأفعالهم ويتناقضون معه ويفعلون ما هو ضده.
كنت أتابع أنباء ما يجري في العالم فوقعت على خبر يُنقل عن كاتب له منـزلته في إيطاليا، يقول فيه : ليست مشكلة الدين الذي يعتنقه المسلمون أنه يؤثر في أبنائه المنتمين إليه، لكن مشكلته أنه يؤثر في غير المنتمين إليه، فتنبهوا لهذا الخطر.
إذًا هي خطوات:
أولاً يعلنون الحرب على أصوليةٍ تحمل السلاح.
والخطوة الثانية التي وصلوا الآن إليها من خلال إجماع أو أغلبية عالمية: الاتفاق على محاربة هذا الفكر الذي يدعو إلى حمل السلاح.
وحتى الآن ما نزال في المساحة التي ربما نتفق معهم فيها؛ لأننا ندعو إلى السلم العالمي و ندعو إلى نشر النور في العالم.
لكن الذي يفهم التدرج السياسي وسياسة الخطوة خطوة، وهم يعجزون اليوم عن تعريف الإرهاب الذي يحاربونه، أو هم يعرفون ماذا يحاربون لكنهم لا يستطيعون الإعلان عنه، فهم يحاربون الإسلام لكنها خطواتٌ ومراحل، وستأتي مرحلة سيحارب فيها الإسلام فكرياً، من يدعو إلى حمل السلاح ومن يدعو إلى نشر الإسلام في العالم.
فالمرحلة الثالثة التي ستأتي سيقال فيها: أيها المسلمون التزموا دينكم! وكفاكم نشراً لدينكم! لأنكم تحوِّلون العالمَ الذي يحيط بكم إلى الإسلام!.
وسيسمع العالم يوما ما أنّ على كل صاحب دين أن يلتزم بدينه وأن لا يدعو إليه!.
إنهم يريدون للمسلمين أن يخرجوا من دينهم, لكن لا يريدون للعالم أن يدخل في الإسلام.
فإذا تنبَّهنا, ولم يكن من ديْدننا أننا ننشغل بالآخرين عن منهج دعوتنا.
فسنة الله سبحانه وتعالى أن يوجد دائماً في كل زمان: تكذيبٌ وحربٌ على الإسلام قولاً وفعلاً.
فمنهجك في الدعوة والإصلاح ينبغي أن لا يتأثر, وأن لا يكون فيه التفات، قَبِلَ من قَبِل, وأعرض من أعرض.
وبعد أن أتى بواقع البيئة المحيطة؛ قال سبحانه وتعالى:
(وإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام: 26]
فبدأ يتحدث عن أمور حينما تستقر في قلب الداعية؛ سيجد أنه في حالةٍ يغبط عليها, وسينسى متاعبه, والمَشاقّ التي يعاني منها..
إذًا أول حقيقة يتذكرها الداعية –كما في النص- حين ينظر إلى أولئك الذين كذّبوا وأعرضوا, وشنُّوا حرباً قولية وفعلية؛ أن العقوبة العاجلة متضمنة في فعل الفاعل نفسه, لأن الله سبحانه وتعالى وصف كل ما يفعلونه باختصار بقوله:(وإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ)
فهم يسيرون بأنفسهم إلى الهلاك, والدمار, والخراب..
وهم يسيرون بمجتمعاتهم إلى الانحدار, والانحطاط, والانهيار..
وهم يسيرون بحضارتهم إلى التلف..
لكن المصيبة الأشد هي:(وَمَا يَشْعُرُونَ)
ومعلوم أن المرض الذي لا يشعر الإنسان به؛ هو من أشد الأمراض فتكاً.
فثمة عقوبة كبيرة هي أنهم يسيرون إلى الهلاك ولا يشعرون أنهم يسيرون إلى الهلاك.
وهو ما يسمى: فقدان الإحساس.
ثم يأتي أمر آخر يضعه الدعاة في قلوبهم, فينسيهم مشاق الدعوة, وما يلاقونه فيها, وهي حقيقة أن مآل الخصم مآل لا يُحسد عليه.أي أن مآل أولئك المكذِّبين المعرضين, الذين يشنون الحرب القولية والفعلية على الإسلام؛ مآل لا يتمناه الدعاة لأنفسهم, وهو موصوف بقوله تعالى في النص:
(وَلَو تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّار فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ِ) [الأنعام: 27]
انتهى فقدان الإحساس, وكُشف الغطاء وصار بصرهم حديداً.
(وَلَو تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّار فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ)يا ليتنا نُرد إلى الدنيا, ولا نكذِّب بآيات ربنا, ولنكون من المؤيدين لآيات ربنا.(وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ِ)المتبعين للرسل الذين يصدِّقون بالثوابت والحقائق.
(بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ) أي ظهرت لهم كل سيئاتهم, وقُبح أعمالهم, وظهر لهم ما كانوا يفعلونه.فظهرت الأمور على حقيقتها.
الأمر الثالث في النص, الذي إن تذكره الدعاة؛ تجاوزوا المشاقّ, وثبتوا على الدعوة إلى الحق: أن الله سبحانه وتعالى بيَّن أن استعداد أولئك المكذِّبين المعرضين المحاربين هو استعدادٌ خبيث, فهم يتمسكون برعونات نفوسهم تمسكاً شديداً ، ولا يمكنهم أن يتركوا تلك الرعونات.
وذلك بقوله تعالى في النص: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)
حتى لو ردَّهم ربنا إلى الدنيا بعدما رأوا العذاب؛ سيعودون إلى نفس العمل الذي كانوا عليه, لأنهم يتمسكون برعونات النفوس.فلا يمكن أن تجتمع في الإنسان: رغبة في رعونة نفسه, ورغبة في ربه.
إما النفس وإما الرب, وإما أن يكون خادم نفسه، أو خادم ربه.
ومما يؤكد هذا الاستعداد الخبيث ماديتهم المهيمنة عليهم, ورفضهم لكل حقائق الغيب، وهذا مُعبَّر عنه في النص بقوله سبحانه:
(وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)
أما الأمر الرابع الذي إن تذكره الدعاة تجاوزا المشاق والصعوبات فهو أن أولئك المكذبين والمعرضين الذين يحاولون التشويه ليل نهار, وإلقاء الحجج, و اللعب الإعلامي؛ ستنقطع حججهم, وينقطع كذبهم, في موقف يصفه هذا النص, بقوله سبحانه:
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ)فالقرآن يحكي وقوفين:
الوقوف الأول: وقوف على النار، لكن الوقوف الأشد إنما هو الوقوف بين يدي ربه.
الوقوف أمام النار وقوفٌ أمام مصير واضح, وعقوبة منتظرة، أما الوقوف أمام الرب فإنه وقوف المُسيئ أمام المُنعم الذي أنعم عليه طول حياته:(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار: 6] أما رأيت أن ربك يحسن إليك صباح مساء!
(إن لم تُحسن ظنَّك به لأجل وصفه, حسِّن ظنَّك به لأجل وجود معاملته, فهل عوَّدك إلا حسناً, وهل أسدى إليك إلا منناً.)
فماذا سيقول هذا المسيء حين يقف أمام المنعم, الذي اعتنى به وهو في بطن أمه, والذي اعتنى به فهيأ له الهواء والغذاء والطعام, وهيأ له المال والولد, وهيأ له ما يفخر به..!
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ)
يقول الله سبحانه وتعالى لهم, المُنعم عليهم, يقول:(أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ)فلماذا كذَّبتم؟
(قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا)يقسمون, ويقولون: عرفنا أنه الحق.
(قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)
اذهبوا إلى الموقف الأول الذي كنتم تقفون فيه, فالقضية هي بينكم وبين النار.
فيردهم إلى ذلك الموقف، الذي فيه مخلوق يقابل مخلوقا, حاربوا النار, كنتم تحاربون الإسلام, وكنتم تحاربون المسلمين, وهذا مخلوق أمامكم, هو نار جهنم التي هي مخلوق من مخلوقاتي, فاذهبوا إليها وحاربوها!
القضية الخامسة التي بها يستطيع الإنسان أن يتجاوز المشاق: هي أن يتذكر المفاجأة التي سيُفاجئ بها أولئك المكذبون, والندامة التي ما بعدها ندامة.
وذلك بقوله تعالى:
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) مفاجأة.
(قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا)أي يا حسرتنا على ما ضيَّعنا, فالتفريط: التضييع. كان الوقت في أيدينا فكنا نصرفه في خدمة النفوس.
(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [الأنعام: 31]
بالله عليكم, إن من يشهد هذا المشهد في قلبه؛ ألا يثبته هذا المشهد, فيرى نعمة الله عليه وفضله, حين يتحمل المشاق في سبيل الله؟ لكنه سيصبح في الآخرة من ملوكها, وسادتها, فلا يُكبَّل في الأغلال كما يُكبَّلون.
القضية السادسة التي أوردها هذا النص القرآني, والتي يستطيع الإنسان من خلالها أن يتجاوز المشاق, ويثبت على الحق هي المقارنة بين الدارين: الدار التي هو فيها, والدار التي تنتظره.أي بين الممر والمقر.
وهذا موصوف بقوله تعالى:
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) يعني من حيث سرعة انقضائها وزوالها فكأنها لعبة, إذا ما قُورنت بوقت الآخرة وعِظم خطرها وشدته.
نظر ملك في المرآة فقال: أنا الملك الشاب، وهي تروى عن سليمان بن عبد الله، فقالت له جاريته:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب
ججج كان في الناس غير أنك فاني
ج
(وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [الأنعام:32] . أي أفلا تعقلون فتطمعوا في الباقي وتزهدوا في الفاني.
قال صلى الله عليه وسلم :
(إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكرَ الله وما والاه، وعالماً أو متعلماَ).
فانظر أيها الإنسان في أوقاتك فإن كانت أوقاتك كلها فارغة من ذكر الله أو من العلم فهذا الذي تقضيه ملعون عند الله سبحانه وتعالى، ملعون ما فيه.
الأمر السابع الذي أورده النص والذي نتزود به يا إخوتي في زمن المصاعب، معبر عنه بالنص الذي بدأت به هذا الحديث :
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ ) [الأنعام :33-34]
سيتولى الله الأمر فلماذا أنت حزين ؟
وهو الذي سيدافع عن دينه الذي أنزله، وهذه نماذج الرسل من قبلك أمامك، وهذا هو النموذج الذي يشرق كالشمس أمامنا الذي هو سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
بعد هذا قال : (حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)
فهي العقبى وهي الخاتمة فإذا وضعها الدعاة في قلوبهم استطاعوا أن يسكنوا بعد اضطرابهم.
(وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ).
ثم كانت الآيات التي بعدها مؤكدة لهذه الحتمية، تؤكد الخاتمة والعقبى وسأقرؤها دون تعليق :
يقول سبحانه وتعالى :
(وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ، وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ، وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ، وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ، وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ، فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 35-45].
لعل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بتدبر هذه الآيات في حديث قادم.
اللهم ثبتنا على الحق واجعل أئمتنا رسلك وأحبائك، وسيدهم وإمامهم محمداً صلى الله عليه وسلم واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول هذا القول واستغفر الله
|