السلام على عيسى يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا
لئن كانت مناسبة ميلاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مناسبة إسلامية عزيزة على قلب كل مؤمن، فإن مناسبة ميلاد سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام لتُشكِّل بالنسبة لنا كأمة إسلامية مناسبة عزيزة على قلوبنا أيضًا.
فعيسى عليه الصلاة والسلام هو من أتباع سيدنا محمد صلى الله عليهما وسلم, وهو من أمته, فهو نبيٌّ رسولٌ, وهو تابعٌ في الوقت نفسه له, يحكمُ بشريعته, ويعبدُ الله تعالى بها.
أخرج البخاري عن أبي هريرة, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلادُ عَلاتٍ)
أي (أولاد ضرائر, من أبٍ واحد, و أمهات مختلفات).
(لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ.)
فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يبيّن للعالم أنه أَولى الناس بعيسى بن مريم.
وفي رواية أخرى للبخاري رحمه الله:
(أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ.)
وأخرج البخاري عن عبادة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ).
وهو حديث يبيّن شدة الالتصاق والقرب, حينما يُدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمة الشهادة, مع اسمه الشريف اسم عيسى عليه الصلاة والسلام.
وهكذا ونحن في المناسبة الزمانية القريبة, تُذكر ولادة عيسى عليه الصلاة والسلام بين محطات سلامية ثلاثة, إذ يقول سبحانه وتعالى حاكياً عن لسانه صلوات الله وسلامه عليه:
(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم: 33]
فكانت ولادته محطة من محطات ثلاث, عنوانها السلام.
محطات سلامية ثلاث: محطة الميلاد, ومحطة الموت, ومحطة الآخرة.
أما محطة المولد:
فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم بإسهابٍِ, بسورٍ عديدة, أختار منها قوله تعالى في سورة مريم:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا, فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا, قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا, قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا, قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا, فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا, فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا, فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا, يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا, فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا, وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا, وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم: 16-33]
إنها دروس في العقيدة, ودروس في الأخلاق, ودروس في السلوك.
وميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام بقصته المذكورة في القرآن درسٌ للناس كافة, ودرسٌ خاص لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولابد لنا وقد قرأنا هذه الآيات أن نقف على بعض معانيها.
أما قوله تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ)
فالمخاطَب به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وهو سبحانه وتعالى يأمر حبيبه أن يحكي للناس قصة مريم, وقصة حملها بعيسى, وحريٌ بنا أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم.
واذكر قصة مريم وابنها؛ حتى تدل الناس على عظمة الله سبحانه, وعلى آياته, وعلى أنه سبحانه وحده المُنفرِد في الإيجاد والإمداد.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) والكتاب هنا هو القرآن.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ) إذ اعتزلت وانفردت.
(مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) أي مكاناً شرقي المدينة التي كانت فيها, والأظهر عند علماء التفسير أنها القدس.
(فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) أي ستراً يستر بينها وبينهم.
إنها ذات السَتْر... إنها الحييَّة... إنها تفقه رسالة الأنثى, وتفقه خُلُق الأنثى, وتتحلى بحياء الأنثى بما يتوافق مع الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليها.
(فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) أي جبريل عليه الصلاة والسلام.
(فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) والملك يتمثل في الصور المتعددة, بما يتناسب مع الظرف الذي يتمثل فيه, فملك الموت على سبيل المثال يأتي هو وجنوده بالصورة القبيحة للفاجر الكافر, ويأتي بالصورة الحسنة هو وجنوده للمؤمن المتوجَّه إلى الله.
(قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا)
قالت له: ألتجئُ إلى الله, وأتحصن به إن كنتَ من أهل التقوى،
(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ)
ولم آت من خلال بواعث نفسي؛ إنما جئت بأمر الله.
(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ) لأهب لك بإذن الله.
وفي قراءة (ليهب لك)
(غُلامًا زَكِيًّا) طاهراً من الذنوب.
ففي حديث الشفاعة: كل نبيٍّ من الأنبياء يذكر ذنباً إلا عيسى عليه الصلاة والسلام, الروحاني لم يذكرْ ذنباً.
(قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)
لم أتزوج, ولم اجتمع برجل.
(وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) لا أمارس الزنى والعُهر.
(قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)
وهذا من قول الله سبحانه:(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)
يعني كما أنني أخلق من الأب والأم ولداً؛ فإنني أخلق ولداً من غير أبٍ وأمٍ كآدم, وأخلق ولداً من أمٍ من غير أبٍ كعيسى عليه الصلاة والسلام, وأخلق الأنثى من الذكر كما هي حواء من آدم.
(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)
فهو لا يعسر على قدرة الله؛ لأنه سبحانه وتعالى القادر على كل شيء, وهو الذي يفعل ما يشاء.
(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) فما هو خارق للعادة هو هينٌ بقدرة الله سبحانه.
(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) آية من الآيات التي تدل على عظمة الله سبحانه.
(وَرَحْمَةً مِّنَّا) أي أن عيسى عليه الصلاة والسلام سيكون رحمة للناس من الله سبحانه.
وهكذا يجتمع الوصف مع الوصف, فالله سبحانه قال في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]
وقال في حق عيسى عليه الصلاة والسلام:
(وَرَحْمَةً مِّنَّا)
وقد قلت لبعض إخواني: إن كان الله سبحانه قال:
(قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ)[يونس: 58]
فإن عيسى رحمة من الله تعالى بنص القرآن.
(وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) وكان أمراً قد قُدِّر في الأزل, علِمَ الله أنه سيكون, وأوجده بقدرته.
فقضاؤه أزلي قديم, ولابد إلا وأن يكون ما علم الله أنه سيكون.
(فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) حملته بالنفخ, لا بالتقاء زوج بزوجة,و لا بالتقاء رجل بامرأة في مناسبة عُهر,
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ) [التحريم:12]
(فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) أي قاصياً عن الناس بعيداً, حتى لا ترى الناس ولا يروها.
(فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) يعني ألجأها المخاض وأضطرها, عليها من الله السلام.
(إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) فساقها الحق سبحانه إلى الشجرة التي تنتفع بظلها وثمرها.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله سبحانه وتعالى لو علِم في الأرض للنُفساء خيرا من الرُطب؛ لساقه إلى مريم, ولساق مريم له.
فثمر النخيل كما هو ثابت في الطب, فيه ما يساعد رحِم المرأة على الانقباض عند وضعها وبعد وضعها.
(قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا) وتمني الموت لا يجوز إلا عند خوف الفتنة, ففي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:
(وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون.)0
وفي حديث الدجَّال:
(إن الرجل ليمر بالقبر) يعني في زمان الدجال (فيقول: ياليتني مكانك, لما يرى من الفتن.)
(قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) يعني يا ليتني لم أُخلق أبدا.
(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا) وفي قراءة (فناداها مَنْ تحتها) يعني عيسى عليه الصلاة والسلام.
والذين تكلموا في المهد ثلاثة, منهم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام.
(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي) إنه يبدأ التربية والتعليم والإفادة من اللحظة التي يخرج فيها إلى الدنيا, وأول من ينتفع بتوجيهه أمه, وهو درسٌ سلوكي لنا, نحن الذين ننطق بألسنتنا ونعقل بعقولنا, فلا ينتفع منا أحد, ويلتزم الإنسان فينا خاصة نفسه, فلا ينتفع منه صاحبه ولا قريبه ولا أمه ولا أبوه، لأنه يلتزم الفردية, و الشأن الخاص.
(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي)
وهكذا يكون الرحمة.. وهكذا يكون من يدعو إلى الله؛ يمسح الحزن عن الناس, ولا يسوق الحزن إلى الناس.
(أَلا تَحْزَنِي)(قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) والسري في الأصل: البحر.
واستعمل هنا ليشير إلى الرجل العظيم الكثير الخصال.
يقول الولد لأمه: إنك أنجبت بحراً.
إنك أنجبت من فيه المكارم كالبحر.
والأم ليس شيء يدخل السرور على قلبها مثل أن يُذكر لها وصف ولدها, وأنه من خير الرجال.
فمع أنه هو الذي يقول: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) وهو السيد المتواضع, لكن الموطن يقتضي إدخال السرور على قلبٍ, فقال لها: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) وانظر إمداد الله سبحانه وتعالى للنُفساء الضعيفة, كيف ستهز النخلة وهي النُفساء الحديثة الولادة؟
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)
آياتٌ كلها تقول إن القوي على الحقيقة هو الله, فلا مريم قادرة أن تهز, ولا عيسى قادر أن ينطق؛ ولولا قدرة الله ولولا أنه سبحانه وتعالى تجلَّى بالإعانة والإمداد لما حصل شيء من هذا.
يا أيها الضعيف لا تستسلم لضعفك, استعن بالله, فأنت تقرأ في الصلاة كل يوم: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] لكنك لا تشعر بمعنى الاستعانة.
ولو استعانت هذه الأمة لما غلبها عدو, ولما عَلا على شأنها المنافقون والكذَّابون, لكنها أمة تستسلم لنفسها, ولضعفها، والمستعين بالله قوي.
إن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقتل, لأنه آية إمداد.
كان سلام الله وأمانه عليه يوم ولد, وسيكون السلام عليه يوم يموت.
ولا يستطيع أحد أن يمدَّ يده إليه بسوء, حتى المسيح الدجال حين يراه يذوب كما يذوب الرصاص, فهو سر الاستعانة بالله.
حين يوجد الإيمان في القلوب, وتتوجه إلى الله؛ فإمداد الله سبحانه وتعالى يحوِّل الضعف إلى قوة.
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ)
ألم ينهزم جيش تعداده إثنا عشر ألفاً أمام قبضة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, الذي لم يكن يملك القنابل العنقودية, ولم يكن يملك الأسلحة الحديثة؛ لكن كانت عناية الله حاضرة وإمداده, إننا اليوم وقفنا في صف المادة, ومقاييسها المجردة، ونسينا العناية وسرها.
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) أي طريَّا.
(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) أي طيبي نفساً.
(فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) وكان هذا في الشرائع القديمة, إذا صام, يصوم عن الطعام والشراب والكلام.
وهنا الآية (فَقُولِي) أي بالإشارة, فهو خبر فعلي لا لساني.
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) لقد جئت شيئاً عظيماً.
(يَا أُخْتَ هَارُونَ) يعني يا من أشبهت هارون في التبتل والعبادة, وهارون في بني إسرائيل رمزُ التبتل, وقد عرفوها في المحراب, مُتبتلة مُنقطعة.
(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) فأنت من بيت طيب طاهر, فكيف يصدر منك هذا, وأنت من بيت الطُهر والصلاح؟
(فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) أي كلِّموه وخاطبوه وتفاهموا معه.
وظنوا أنها تسخر منهم وتلعب بهم, فكانت إشارتها أشد عليهم مما جاءت به.
(قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ)
فأول كلمة صدرت من عيسى عليه الصلاة والسلام للعالم, قال فيها:
(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) أي لست إلهاً.
ما قال: إني آية. ولا قال: إني روح. ولا قال: إني كلمة.
إنما أول كلمة خاطب العالم بها قال فيها:
(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ)
فنـزه جناب ربه عن الولد، وبين لهم أنه عبد من عباد الله، حتى لا تجذبهم دهشتهم من رؤية خارق العادة، فيألهوه فيما بعد.
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ)
فأنا أنقل إليكم كتاب الله ولا أقول من عندي شيئاً،
(وَجَعَلَنِي نَبِيًّا),
أي منبَّأ بالغيب، أي لم أكن أعلم ثم علمت.
وكلها أوصاف لازمة للعبودية:
آتاني الكتاب، والذي يُؤتَى لا يكون إلهاً.
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)
والمجعول لا يكون إلهاً فبركته ليست من ذاته، إنما هي مجعولة، جعلها الله تعالى له، وبركة عيسى عليه الصلاة والسلام كانت تظهر من خلال تعليمه وتربيته وإفادته ونفعه، فكان كلما اجتمع بإنسان جذبه بلطفه فأدخل الإيمان إلى قلبه.
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ)
كان سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، رمز تواضع، ورمز زهد، ورمز توجه إلى الله، ورمز صدق.
ومما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عيسى عليه الصلاة والسلام كما أخرج ابن ماجه قوله:
(مَنْ شَرِبَ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنَاءٍ يُرِيدُ التَّوَاضُعَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ) (وَهُوَ إِنَاءُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلام إِذْ طَرَحَ الْقَدَحَ فَقَالَ أُفٍّ هَذَا مَعَ الدُّنْيَا).
فكان يستكثر أن يمسك بيده قدحاً.
نحن إذا أردنا أن نسكن غرفة لم ندخل إليها إلا بعد زخرفة جدرانها، وسقوفها لأننا نريد الاستمتاع بالدنيا، وعيسى عليه الصلاة والسلام يرى قدح الشراب شيئاً زائداً فيلقيه ويقول أف هذا مع الدنيا، فهو قد ألقى الدنيا وألقى معها القدح.
وفي صحيح البخاري يحكي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصف عيسى عليه السلام فيقول:
(رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ قَالَ كَلا وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي).
إنه التماس الأعذار، واتهام النفس مع كونها صادقة.
إنه درس يحكيه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيرة عيسى عليه الصلاة والسلام لنتعلم، ونحن نبحث ونفتش عن العيوب، ولو حلف لنا أخونا وهو صادق كذبناه وقلنا له أنت الذي فيك العيوب كلها.
شتان شتان بين أهل الأخلاق الذين ظهرت أخلاقهم انفعالاً لأذواقهم وبين من أنتجت نفوسهم سوء أخلاقهم.
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا, وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)
فالصلاة إحسان في حضرة الحق, والزكاة إحسان بين الخلق.
(وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)
يعني فلا أكون مذبذباً، تارة أحسن وتارة أسيء، بل أدوم على هذه الأوصاف ما دمت حياً.
(وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)
لما سمعه زكريا عليه الصلاة والسلام وكان واقفاً بين يدي بني إسرائيل يقول: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) ضمه لأنه أثبت بهذا طُهر أمه، فما قال وبراً بوالديَّ، لكنه قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)
ومن لا يكون باراً بأمه سيقع في الشقاء.
عقوق الأبوين يورث التجبر والمعصية،وعقوق الأم وحده يورث الشقاء، فقد قال سبحانه وتعالى في حق يحيى ابن خالة عيسى عليهما الصلاة والسلام:
(وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا)[مريم: 14].
فاجتمع في الآيتين انعدام التجبر والتكبر والمعصية مع البر، وانفردت الآية التي على لسان عيسى عليه الصلاة والسلام بانعدام الشقاء مع البر.
فعقوق الأم يورث الشقاء.
(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ)
وما معنى السلام والأمان يوم ولادة عيسى عليه الصلاة والسلام؟.
بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الأمان من الشيطان وأفعاله وحزبه.
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(قال النبي صلى الله عليه وسلم: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ).
وهو الحجاب الذي اتخذته أمه المذكور في القرآن: (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا)[مريم: 17]
فلم يقدر الشيطان أن يطعن عيسى عليه الصلاة والسلام فذهب الطعن في الحجاب.
وفي رواية أخرى للبخاري:
(مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلا مَرْيَمَ وَابْنَهَا).
قال أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم:
(وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 36]
قالتها أم مريم.
إنها اتخذت حجاباً. فيا أيتها المرأة المسلمة المحجبة إنه اعتبار، وإذا كان حجابك منبعثاً من العبودية لله والخشية له والتقوى فإنه سيكون سداً منيعاً أمام الشيطان، ولن يصل الشيطان إليك، ولا إلى أسرتك، أما إذا كان الأمر كما قالوا:
واسفري تلك حلًى ما خلقت لتُوارى في لثام أو حجاب
فعندها لا نكون أمة الفضيلة.
(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ)[مريم: 33]
فالله سبحانه وتعالى أمَّنني من الشيطان,وأفعاله وحزبه، وجنده، فأنا عبد الله ولست عبد الشيطان، أوافق أمر الله ولا أوافق أمر الشيطان، فكل من وافق أمر الله وخالف أمر الشيطان يكون عليه السلام من الله، وكل من وافق أمر الشيطان وخالف أمر الله لن يكون في السلام ولن يكون عليه السلام.
وأراد اليهود بعد ذلك أن يوقعوا بعيسى عليه الصلاة والسلام حين شب، وحكى القرآن:
(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف: 6].
ولماذا قال أحمد ولم يقل محمد ؟.
لأن أحمد معناه حامد، أي كثير الحمد لله، أما محمد فمعناه محمود، أي يُحمد في سيرته أخلاقه أفعاله، ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم لمّا يظهر بعد، ناسب أن يصفه بأحد وصفيه وهو أنه يكثر حمد الله، لأنه لو وصفه بأنه محمد وما رآه الناس، فربما يقولون كيف يُحمد رجل لم نرَ سيرته بعد.
وقال سبحانه وهو يحكي عن عداء اليهود لعيسى عليه الصلاة والسلام: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً, وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا, وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا, بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء: 155-158.
لكنَّ اليهودية استطاعت أن تؤثر على المسيحية مع الأسف وجاء القرآن ليفصل في الأمر على لسان الصادق الأمين بوحي من الله الذي أنزل التوراة والإنجيل.
إنهم رأوا صورة الخائن الذي دل على عيسى عليه الصلاة والسلام، ليكون ذلك سبب قتله، وجزاء خيانته، فقُتل الدال عليه ورفع عيسى عليه الصلاة والسلام.
لأن السلام مؤكد على عيسى ولا يمكن ليد أن تمتد بسوء لمن كان الله تعالى يحميه.
(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ)
فلن يموت قتلاً.
وقد ردت أحاديث كثيرة أنه ينزل وعرفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصافه البشرية، ووصف بشرته، ووصف شعره، ووصف طوله، ووصف مكان نزوله شرقي دمشق، وأخبر أنه يذهب إلى الحج ليحج مع المسلمين، وأخبر أنه يموت بين المسلمين، وأخبر أن المسلمين يصلون عليه، وأخبر أنه حين يذهب حاجاً يزور المدينة، ويزور روضة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه يسلم على رسول الله فيرد سيدنا محمد عليه السلام، وحمَّلنا رسول الله رسالة إليه أنه من اجتمع منا بعيسى أن يقرئه من رسول الله السلام.
إنه سيموت بين المسلمين، ويصلي عليه المسلمون، ويدفن في حجرة عائشة إلى جانب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر هذا حتى في التوراة، أخبر عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الآثار التي حكت شكل الحجرة التي دفن فيها أبو بكر وعمر تؤكد وجود مكان خال ينتظر عيسى حينما ينزل ويحكم ويعيش أربعين سنة يحكم فيها بشريعة محمد، صلى الله عليه وسلم، ثم يموت بسلام لا بقتل.
سيدفن إلى جانب سيدنا محمد ليكون ضجيعه إلى جانب قبره الشريف.
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:33]
لأن عيسى عليه الصلاة والسلام ينفرد يوم القيامة من كل الأنبياء بأنه هو الذي يدل الناس على محمد صلى الله عليه وسلم، فليس نبي من الأنبياء يدل على محمد صلى الله عليه وسلم ليشفع في الناس إلا عيسى عليه الصلاة والسلام الذي يدلهم عليه صلى الله عليه وسلم.
السيد المسيح عيسى يدل الناس في الدنيا على محمد صلى الله عليه وسلم ويدل الناس في الآخرة على محمد صلى الله عليه وسلم.... أفما آن للعالم أن يعرف قدر محمد؟
أما آن للعالم أن يفهم أن عيسى هو أخو محمد عليهما الصلاة والسلام ؟
الدين عند الله واحد، والله تعالى هو الذي أوحى وحيه، والنسخة الأخيرة المضبوطة من وحي الله هي القرآن.
هذه رسالة، ينبغي أن يحملها كل مؤمن وأن يفهمها، وكفانا زيغاً في العقائد وكفانا كذباً على الناس، فهناك من الصور الإسلامية الكثيرة اليوم من يقول للناس:
"بأي شريعة عبدتم الله ستقبلون"
وهذا افتراء وكذب على الله.
ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، وعيسى اتبعه ويتبعه ويدل الناس في الدنيا والآخرة عليه، لهذا قال في الحديث الصحيح كما ذكرنا في أول الخطبة:
(أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ).
كفانا تضليلاً، وبدلاً من أن نعرض الإسلام نضلل الناس.
نحن لا نُكره أحداً على الإسلام، لكنها عقيدة.
نحن لا نرغم أحداً، ولا نقتل أحداً لا يدخل في ديننا، لكننا نعلن عقيدتنا ولا نضلل الناس بعبارات تباع وتشترى.
نحن اليوم في مصيبة كبيرة نتاجر بديننا من أجل دنيانا، ونبيع عقيدتنا.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً واجعلنا ممن يستعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|