الأُخوَّة باب الخير
أعداء الإسلام يملكون التأثير على ظواهرنا، ولا يملكون التأثير على بواطننا.
إنهم يتعاملون بلغة المادة وحدها، وحينما نتحدث بنفس اللغة فنكون ماديين في ظواهرنا وبواطننا، فإن الغلبة ستكون لهم علينا بالتأكيد، لكن الذي لا يملكونه ولا يستطيعون التأثير فيه هو بواطننا.
عندما نعي ذلك نستطيع أن نُكَوِّنَ جماعة ومجتمعًا وأمة، فتكوين الجماعة والمجتمع والأمة هو تكوينٌ باطنٌ قبل أن يكون تكوينًا ظاهرًا.
واليوم يحاولون بث الشتات، واختلاق الفتن، وإحداث التقسيم، لكننا لو كنا متماسكين في البواطن يوحِّدُنا المعنى المشترك في بواطننا لن يستطيع أعداؤنا فعل شيء.
وعندما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على هذه الأمة قال:
{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] كرر ذلك مرّتين ليؤكد أن سِرَّ وجودِ الجماعة أو المجتمع أو الأمة إنما هو بهذه النعمة.
وهذه آياتٌ نقرؤها مرَّاتٍ ومرَّات، لكننا على مستوى منهج التطبيق الواقعي بعيدون عنها.
وأكثر ما يلوح لنا في المرحلة المكية في وقت المحنة والشدَّة دعوةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للقبائل والنوادي والأفراد، حين كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول للناس: (قُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ تُفْلِحُوا).
لكن ربما ننسى حقيقةً مهمةً في هذه المرحلة المكية التي تزيد في عمرها على المرحلة المدنية.. وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة كان يجمع أصحابه في دار الأرقم، فلم يكن اجتماعُهم وليدَ المرحلة المدنية، فكما كان يدعو الناس إلى الإسلام، ويوجههم إلى الله، كان يرجع إلى دار الأرقم ليكوّنَ رابطة تصمد في وقت الشدة، والمحنة.
وحينما نتحدث عن مفهوم المؤاخاة، تلوح لنا مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وننسى أن من وقائع السيرة النبوية أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين أيضا في دار ألأرقم ، على نفس الأسلوب الذي آخى فيه في المدينة بين المهاجرين والأنصار.
أي أنه في مكة آخى بين كل اثنين على نفس الأسلوب الذي فعله في المدينة المنورة.
وأحببت أن أقف مع هذا الموضوع لأن كثيرا ممن يقرؤون السيرة النبوية يغفلون عن هذه الحقيقة.
فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بين أبي بكر وعمر، وآخى بين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وآخى بين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وآخى بين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وبلال الحبشي، وآخى بين حمزة أسد الله وزيد بن حارثة، وآخى بين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة..
وهذه نماذج لو أنني أردت أن أعددها لكم فردًا فردًا لرأيتم أنه صلى الله عليه وسلم يعتني بالدعوة ويعتني بربط أصحابه ليكوِّن من خلال ذلك رابطة البواطن.
{وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ} {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}
فكانت النعمة الكبرى تأليف النواة التي خرجت إلى المدينة جسدًا مترابطًا ولم تخرج شتاتًا.
ونقف وقفة عاجلة مع بعض المناسبات في المؤاخاة المكية.
لماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤاخاة في مكة بين أبي بكر وعمر وما المناسبة في ذلك؟
عمر بن الخطاب السيد العملاق في قومه، الذي كان يوازي أبا جهل، وكان الناس يهابونه، الجهوري الصوت، الحادّ الطباع، مع أبي بكر الذي كان مربوعَ القامة، اللطيف في المنظر والمعاشرة، الذي إذا قرأ القرآن قرأه بالصوت الخافت، كيف يؤاخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين اثنين تجد تباينًا بينهما من حيث الظاهر؟
إنه صلى الله عليه وسلم وصف أبا بكر في المدينة بأنه يماثل إبراهيم، ووصف عمر بأنه يماثل موسى!
لكنه صلى الله عليه وسلم لاحظ في مكة تناسب العقل بينهما، فكان العقل الراجح عند عمر، والعقل الراجح عند أبي بكر مناسبة كبرى بينهما، وهما اللذان صارا بعد ذلك وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعندما كان الناس يسكتون كانا يتكلمان، وعندما كان الناس يخفضون رؤوسهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا ينظران إلى وجهه الشريف.
وإذا قرأت قصة المؤاخاة بين ابن مسعود والزبير تجد الأمر نفسه، فابن مسعود في وزن جسمه لا يتجاوز الثلاثين كيلو غراما، أما الزبير فهو العملاق الذي إذا نـزل إلى المعركة أخاف من هو في ساحتها، وإذا وضع عمامته الصفراء قالوا وضع الزبير عصابة الموت!
إنه صلى الله عليه وسلم يلاحظ الاستعداد الباطن لهما، فابن مسعود صار فيما بعد أعلم الأصحاب وأفقههم، والزبير العالم الذي زوجته أسماء العالمة بنت الصدّيق، وكانت ثمرة هذه الأسرة عبد الله بن الزبير، الذي عده السيوطي من الخلفاء الراشدين.
ولو كان صلى الله عليه وسلم سينظر إلى الظواهر وحدها فلن يجد مناسبةً بينهما.
كانت المناسبةُ الاستعدادَ في العلم، فآخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التفاوت التام في الجسم والمال، فابن مسعود فقير يرعى الغنم، والزبير كان من أثرياء مكة.
وإذا نظرنا إلى المؤاخاة بين عثمان وعبد الرحمن بن عوف نجد اثنين مرشَّحَين ليكونا الإمدادَ الماليَّ للإسلام، فهما الثريَّان اللذان كانا يخدمان الله ورسوله في أموالهما، واللذان قلبا معادلة الفقر لتصبح في أكثر من موضع معادلةَ غنى، فآخى رسول الله بينهما ليجتمع الاستعداد إلى الاستعداد.
أما المؤاخاة بين معصب بن عمير وسعد بن أبي وقاص فكانت تمثل أُخُوَّةَ الأخلاق، ومن قرأ سيرة الصحابيَّين رضي الله تعالى عنهما سيجد أنهما كانا رمز الخُلُق والشجاعة والإقدام.
فقد أصبح سيِّدُنا سعد فيما بعدُ قائدَ القادسية، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر مصعب بعد أن استشهد في أُحُد وقد أبلى بلاءً ما أبلاه أحدٌ مثله إلا سيدنا حمزة.
فكان مصعب وسعد حربيان شجاعان تماثلا في الشجاعة والأخلاق.
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشميّ القرشيّ وهو ابن عمه وبين بلال الحبشي.
إنه صلى الله عليه وسلم يقدِّم إلى العالم رسالةً تقول: "ابنُ عمي الهاشمي الشريف النسب أخو بلال العبد الأسود".
ولمّا قدّم رسول الله ثلاثةً ليكونوا طلائع غزوة بدر، قدّم عليًّا وحمزة وعبيدة، فكان عبيدة واحدًا من الثلاثة الذين أنابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه في طليعة بدر، لأنهم كانوا في النسب والرفعة والشرف يصلحون للنيابة عنه صلى الله عليه وسلم.
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حمزة عمه، وزيد بن حارثة المولى الذي كان عبدًا لزوجته خديجة ثم وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه.
إنها رسالة: آخى بين بلال وعبيدة، وآخى بين حمزة وزيد.
وكذلك آخى رسول الله بين أمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وسالم مولى أبي خذيفة.
إذًا، لم تكن مجرَّد روابط في الباطن، بل كان صلى الله عليه وسلم يصنعُ من خلالها مستقبَلاً، وكان يجمع فيها الاستعداد إلى الاستعداد، وينسف بها كل العادات وكل المفهومات المغلوطة.
فأين نحن يا أمة رسول الله؟!
أين نحن يا مسلمون؟!
أين نحن من مستقبل الإسلام؟!
إذا كنّا لا نستطيع التأثير في الواقع الحاضر فأين نحن من المستقبل؟ وماذا نصنع لذاك لمستقبل؟
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بين نفسه وسيدنا عليٍّ رضي الله عنه، وكرَّر ذلك في المدينة المنورة، وكان ذلك بمثابة حمايةٍ له رضي الله عنه وهو الذي سيفتتن الناس به فيما بعد.
وإذا انتقلنا إلى المدينة المنورة نجده صلى الله عليه وسلم كما يحرص على بناء المسجد النبوي، يحرص أيضا فيها على المؤاخاة.
أين روابطنا؟
وأين هي أُخُوَّتُنا التي تصنع المستقبل؟
وصار لكل مهاجريٍّ أخوان: أخٌ مهاجريٌّ تآخى معه في مكة، وأخٌ في المدينة من الأنصار.
ومن النماذج في المدينة مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين أبي عبيدة وسعد بن معاذ.
وهكذا يؤاخي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بين أبي عبيدة الشخصيةِ الكبيرةِ الجليلةِ أمينِ الأمة وسالم مولى أبي حذيفة، ويؤاخيه في المدينة مع سيد الأوس سعد بن معاذ، الذي اهتزَّ عرشُ الرحمن لموته..
والمدينة من حيث تكوينها الإسلامي العربي هي كما تعلمون أوس وخزرج.
وهكذا صار أبو عبيدة أخًا للمولى والسيد، وصار الصلة المعنوية الرابطة بين العبيد والسادة، فكان مظهرًا لصورة الإسلام وحقيقته.
وآخى صلى الله عليه وسلم بين مصعب بن عمير وأبي أيوب، وقلت في نفسي: لماذا آخاه في مكة مع سعد بن أبي وقاص، وآخاه في المدينة بأبي أيوب؟ ما السرُّ في ذلك؟
إنَّ مصعب بن عمير تَرَكَ أمَّه المشركة من أجل الله، وهاجر فرارًا منها إلى الحبشة من أجل الله.
إنه ترك أمه في الله، كما ترك أبو عبيدة أباه في الله.
وما أصعب أن يترك الإنسان أمه التي ولدته!
فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مصعب وأقرباءِ أمَّهاته صلى الله عليه وسلم.
وكأن رسول الله يعطيه أمَّه بدل أمِّه ونسبه إليها بدل نسبه إليها، فسعد بن أبي وقاص هو من بني زهرة، وآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم زهرية، وأبو أيوب هو من بني النجار، وبنو النجار هم أخوالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أمَّ عبد المطلب نجّارية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفخر بسعد ويقول: (هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ).
إذًا سعد أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة من جهة أمه.
وأبو أيوب من أخوال رسول الله في المدينة.وفي مكة والمدينة المنورة يؤاخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مصعب وأخواله صلى الله عليه وسلم.
إنه نموذجُ مَنْ يقدِّم للمضحّي ما يُشعره بأنه نال أعظم مما تركه.
فقد تَرَكَ مصعب أمه وفاز بقرابة أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة.
إنها مناسبات كثيرة لا تنتهي في تلك المؤاخاة ، تستطيعون قراءتها كرسائل إلينا، نحن الذين ما نـزال في الشتات والفردية والمصلحية الخاصة.
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان.
وكان عمار شديدًا في البُنية، ولم يسبقه أحدٌ في بناء المسجد وحملِ الأثقال والحجارة، حتى قال وهو يمازح الأصحاب ويمازح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنهم يريدون قتلي. انظر ماذا حمّلوني فقد كان يحمل ما لا يقدر على حمله أحد منهم - فقال صلى الله عليه وسلم: لا، إنهم لا يقتلونك، (تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ).
وهكذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عمار بن ياسر الذي كان يحمل الأحمال، وحُذيفة بن اليمان الذي كان يحمل سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه الاختيار والاصطفاء، والجمع بين الحِسِّ والمعنى، و البُنية الشديدة والضعيفة، للمناسبات الخفيّة العجيبة.
وآخى صلى الله عليه وسلم بين سعيد بن زيد أحد العشرة المُبشَّرين بالجنة، وأُبيِّ بن كعب أقرأ الأصحاب.
سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه مُبشَّر بالجنة، وأُبيُّ بن كعب مُبشَّر بالله سبحانه وتعالى، فـ (أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ).
وآخى في المدينة بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فكما آخى في مكة بين عبد الرحمن بن عوف وعثمان ، أضاف في المدينة إلى تلك المؤاخاة سعد بن الربيع، وكان أيضا من أثرياء المدينة، وهو الذي قال لعبد الرحمن عندما نـزل عنده: تعال أقاسمك مالي وأهلي، فقال له: "بارك الله لك في مالك وأهلك"، "دُلَّني على السوق".
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي الذي انطلق من المجوسية إلى المسيحية باحثًا عن الحقيقة، حتى وصل إلى أقدام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان عُمره كله بحثًا عن الحقيقة، حتى كان التلميذ والمُريد النجيب للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما أبو الدرداء، فكان يصوم في النهار، ويقوم في الليل.
وقد ثَبت في الحديث الصحيح أَنَّ سَلْمَانَ زَارَ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟ أي لا تعتني بنفسكِ وبمظهركِ، قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ (أي إلى سلمان) طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقَ سَلْمَانُ.
إنه صلى الله عليه وسلم يجمع نموذجين توجّها إلى الله: نموذج سلمان الروحاني، مع نموذج أبي الدرداء الخزرجي الأنصاري، الخارج بقلبه عن الدنيا المتوجه إلى الله.
وقال سيدنا مُعاذ وهو على فراش موته: "التمسوا العِلْم عند أربعة: عند أبي الدرداء وسلمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام".
هذه شهادة معاذ بن جبل، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مُعَاذ إِنِّيْ أُحِبُّكَ).
وقال أبو الدرداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، بلغني أنك تقول: (ليَرْتَدَّنَّ أقوامٌ بَعْدَ إِيْمَانِهِمْ)، قال: (أَجَلْ، وَلَسْتَ مِنْهُمْ).
وهو صلى الله عليه وسلم الذي يقول في سلمان: (سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ).
أما ما يتعلَّق بأُخُوَّةِ سيدنا عليٍّ رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد حصلت في مكة حين آخى المهاجرين فقال علي: "يا رسول الله، إنك قد آخيت بين أصحابك، فمن أخي؟"، فقال: (أَمَا تَرْضَى يَا عَلِيّ أَنْ أَكُوْنَ أَخَاكَ).
ثم أكّد أخوته له في المدينة لمّا آخى بين أصحابه هناك، وجاء علي وعيناه تدمعان، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَلَمْ تُؤَاخِ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له: (يَا عَلِيّ، أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ).
سيدنا علي رضي الله عنه أخبره صلى الله عليه وسلم مرَّات: أنَّ الناسَ سيُفتنوا فيه كما فُتنوا بعيسى، فهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وهو زوج ابنته الزهراء..
وقال صلى الله عليه وسلم في حقِّه: (لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، فأعطاها سيدنا عليًّا.
وكان بيت سيدنا عليٍّ ملاصقًا لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم إذا جاء من سفر، بدأ بالمسجد، ثم ثنَّى ببيت فاطمة الذي هو بيت سيدنا علي.
كان سيدنا عليٌّ بمزاياه وسجاياه وعِلْمه ملفتا للنظر، من صباه إلى أن بلغ مبلغ الرجال، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهو الفارس الشجاع الذي يحمل سيفه ذا الفِقار.
ويستدل بعض الجَهَلة من حديث تبوك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكون سيدنا علي خليفته من بعده، باستدلالات باطلة.
ورجعت إلى الحديث الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لسيدنا علي: (أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى)، فرأيت أنه صلى الله عليه وسلم لمّا خرج إلى تبوك أراد أن يستخلف في المدينة على نسائه والصبيان والأموال، فاستخلف سيدنا عليًا، فقال: أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟
قال: (أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى).
إنه صلى الله عليه وسلم كان يُشير بذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] لأنه كان وزيره، وقد أثبت ذلك القرآن: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أخاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35]
فالقرآن يُثبت الأُخُوَّةَ لهارون ويُعيدها ويُكرِّرها، وهو الذي قال له: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي حالَ حياتي، لأن موسى عليه الصلاة والسلام أنابه على قومه في مُدّة مؤقتة ذهب فيها إلى المكالمة ثم عاد.
فلم يكن قولُ سيدنا موسى هذا يعني أنك ستكون خليفة من بعدي، بل هو المنصب المعروف في كُتب السياسة الشرعية بوزارة التفويض، أي المُفوَّض في حال وجود الإمام، ولم يقل أحد من أهل العِلْم ولا من أهل الفهم والتحقيق، أن وزيرَ التفويض يكون خليفة بعد الإمام.
فهو رضي الله عنه المفوّض في حال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن الآية تعني أن سيدنا موسى كان يقول لهارون: اخلفني بعد موتي.
بل إنّ الله فرَّق بين موسى عليه الصلاة والسلام وقومه، فلم يكن هارون خليفة موسى بعد موته.
إذا لا بد من فَهْم القرآن، حتى لا يتنطّع الجاهلون.
والقرآن أثبت تلك المُفارقة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] فتاهَ بنو إسرائيل في تيه سيناء. ولم يكن هارون خليفة لموسى بعد موته.
والذي يستدل بهذا جاهل.
وانعقد الإجماع على أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان فيمن بايع الصدِّيقَ سيدُنا عليٌّ رضي الله عنه نفسُه.
ولما استخلف سيدنا أبو بكر سيدَنا عمر، كان سيدُنا علي رضي الله تعالى عنه من أوائل من بايع.
ولا نُحب أن نتناقض مع سيدنا عليٍّ بدعوى محبَّة سيدنا علي رضي الله تعالى عنهم جميعًا.
وحين يُقرأ النصُّ مقطوعًا عن بيئته تُقلب المفاهيم.
إنني ما أردت إيراد موضوع التآخي إلا لأُذكِّر نفسي وإخواني، وأُذكِّر أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن السلاح الذي نملكه ولا يستطيع أحدٌ أن يتحكَّم به هو سلاح الأُخُوَّة.
ولا يستطيع أحدٌ أن يكون مانعًا لنا من هذا السلاح، في زمن الشقاق والشتات والافتراق والبُعد..
اقرؤوا ما حكاه القرآن عن المجتمع المتماسك:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} فأين المحبة الصادقة؟
{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} فما كانوا يلتفتون إلى عَرض الدنيا في أخوتهم تلك، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يترك الأخ لأخيه الدنيا، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} مع شدة حاجته، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
أخرج البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
وأخرج الإمام مسلم، عنه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ).
وأخرج البخاري عنه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ).
وأخرج مسلم: (وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ).
وأخرج الترمذي: (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ، رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، لا أن يقع في الأعراض، بل أن يُدافع عن الأعراض.
وأخرج الترمذي، قال صلى الله عليه وسلم: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)، فأنت تملك صدقةً بدون مال.
ونقرأ فيما أخرجه البخاري في الأدب وابن حِبّان والحاكم، يقول صلى الله عليه وسلم: (مَا تَحَابَّ اثْنَانِ فيْ اللهِ تَعَالى، إِلا كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ)، أي أفضلهما عند الله أشدُّهما حُبًّا لصاحبه في الله، وما أحبّه إلا لله.
يقول سيدنا عليٌّ رضي الله تعالى عنه: "عشرون درهمًا أعطيها أخي في الله، أحبُّ إليَّ من أن أتصدّق بمائة درهم على المساكين"، لأنه بهذا العطاء لأخيه يُؤسِّس للرابطة التي بها تقوم الأمة.
فحين تُعطي للمساكين تفعل خيرًا، لكنك لا تُؤسس لمستقبل.
وكان إبراهيم بن أدهم (دفينُ جبلةَ في الساحل السوري) رضي الله تعالى عنه، يُشارط من يصحبه أن تكون يده في جميع ما يفتح الله عليهما من الدنيا كيده، فلا يقبل صُحبة أحد، حتى يشترط معه أن يكون بينهما صندوق واحد، ومن أراد أن يَمُد يده إلى هذا الصندوق، يَمُد يده ليأخذ حاجته.
وجاء فتح الموصلي، وهو من كِبار سلفنا، إلى منـزل أخٍ له في الله ممن كان بينهم عهد صادق على الأخوة، وكان ذلك الأخ غائبًا، فطلب من أهله أن تخرج له صندوق ماله، فأحضرته له، ففتحه وأخذ حاجته وذهب، ولما عاد إلى البيت تلقَّتْه جاريته عند الباب وقالت: أعطت سيدتي أخاك فتحًا لأنه جاء وطلب الصندوق، فأخرجته وفتحه وأخذ حاجته.
وكانت تلك الجارية تعلم أنها تحمل إليه خبرًا سارًّا، فتهلَّل وجهُه وفرح وقال من شدة فرحه: أنتِ حُرَّةٌ لوجه الله.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: "ما تآخى اثنان في الله فاستوحش أحدهما من صاحبه إلا لِعلّة في أحدهما".
فلو انتفت العلل وصح الإخاء في الله فلن ينقطع، وما كان لله فهو المتصل.
وقال رجل للجنيد: "قد عزّ الإخوانُ في هذا الزمان"، أي: أبحث عن أخٍ فلا أجد، "أين أخٌ لي في الله؟".
فأعرض الجنيد حتى أعادها ثلاثة، وكان الجنيد حَيِيًّا لا يحب أن يُظْهِرَ كلامًا قاسيًا وشديدًا، فلما وجد إلحاحه، قال: "إن أردْتَ أخًا يكفيك مؤونتك ويتحمل أذاك فهذا لَعَمْرِيْ قليلٌ، وإن أردْتَ أخًا في الله تحمل أنت مؤونته، وتصبر أنت على أذاه، فعندي جماعةٌ أُعَرِّفُهُمْ لك".
إذا كنت تبحث عن من تنتفع به فهذا قليل، لكن إذا كنت تبحث عن من تنفعه فهذا كثير.
على هذه القواعد أقاموا مجتمع الأخلاق.
حتى في الدعوة إلى الله أستدل من تكرير قوله تعالى "أخاهم" في الآيات: {وَإِلَى عَادٍ أخاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أخاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]، {وَإِلَى مَدْيَنَ أخاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85] أستدل أن الرسل دخلوا على أقوامهم من باب الأخوة الإنسانية.
فإذا أردت أن تدعو إلى الله وأنت تشهد فوقيتك ومزاياك وتشهد أنك صاحب كذا وكذا فستفشل، وإذا دخلت إلى الناس وأنت تشهد أخوتك لهم الأخوة الإنسانية فستنجح.
(أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ).
كأن القرآن يريد أن يقدم إلينا رسالة: أي ادخلوا في الدعوة إلى الناس من باب الأخوة.
فلذلك كرَّر في الرسل قوله: "أخاهم".
لكننا حينما نريد أن ندعو إلى الله يمسك أحدنا سوطه ليجلد الناس!
لا يا إخوتي، فما هكذا تكون الدعوة.
وما أحوجنا إلى الأخوة الصادقة فيما بيننا، الظاهرة والباطنة!
وما أحوجنا إلى مفهوم الأخوة الإنسانية بينا وبين الناس!
رُدَّنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|