من أسباب الثبات
إيمانٌ يدخل إلى قلبِ الإنسان ولا يكونُ معه اختبارٌ وزلزلة؟. هذا لا يكون أبدًا.
فالإيمان حين يتعمَّر القلب به يجعل الله سبحانه وتعالى صاحبه حجّة على خلقه.
تلك هي سُنة الله.
ما أكثر المترددين، وما أكثر من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، ما أكثر هذا الصنف الذي يدّعي الإيمان لكنك ترى مع دعواه تلك أنه يهتز لأقل سببٍ مرغِّب أو مرهّب.
إذًا لو أن الإيمان تَعمّر حقيقة في قلب الإنسان وسرى في كيانه، فلابد من دورة يدخل فيها هذا الإنسان، يظهرُ للناس، وللملائكة، وللملأ الأعلى أنه من أهل الثبات، أمّا الله سبحانه وتعالى فإنه يعلم من الأزل من الذي سيثبت ومن الذي لا يثبت.
أريدكم أيها الإخوة أن لا تنسوا هذه السُنّة.
وأظن أنَّ الواحد منّا كأنه يريد أن يشترط على ربه قائلا له: أريد الإيمان من غير تلك الدورة. يريد أن يستثني نفسه من سنة الله سبحانه وتعالى في الكون.
وعندما يطلب كل واحد منا ذلك الاستثناء تتعطل السنّة في الكون، ولا يبقى بعدها قانون، وتُصبح حكمة الله تبارك وتعالى خفيّةً في هذه الدار.
جعل الله الدار الآخرة محلا لظهور قدرته وخفاء حكمته، وجعل هذه الدار محلا لظهور حكمته وخفاء قدرته.
فإذا صح إيمان العبد فحكمة الله وسنـته في خلقه قانون إلهي يسري على الجميع من غير استثناء، ومن طلب الاستثناء، يكون واقعا في قِلّة الأدب لله سبحانه وتعالى.
واقرؤوا قوله تبارك وتعالى:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}[ آل عمران: 146]
رسل الله وأنبياءه قاتل معهم ربيون كثير، أي ربانيون انتسبوا إلى الرب وحده، ولم ينتسبوا إلى سواه، وهذا نص قرآني يدل على أن الرسل و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام قاتلوا.
لكن هل الامتحان لا يكون إلا في وقت القتال؟
لا .. فالامتحان يكون في كل لحظة، ويكون في كل حال، ويُنظرُ فيه: أيثبت هذا المدعي للإيمان على طريق الحق في السراء و الضراء في العطاء و المنع في البسط والقبض في الشدة وفي النعمة؟
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ } تأثرت أشباحهم وأجسادهم لكن قلوبهم لم تتأثر، تأثرت مادتهم، تأثر المال وتأثر الجسد وتأثرت البيئة وتأثر الظرف، لكن المظروف الباطن لم يضعف.
{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} فقد أصابهم ما أصابهم لكن ذلك لم ينقلهم إلى الضعف والوهن الذي يخور فيه الإنسان وتخور قواه, ويخرج من صف أهل الإيمان المعمّرين به إلى صف المذبذبين و المترددين الباحثين عما تطلبه نفوسهم.
{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا في سبيل نفوسهم لأن أصحاب الإيمان لا يبذلون جهدًا من أجل نفوسهم لكنهم يبذلون الجهد من أجل ربهم { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} وهي رتب ثلاثة: وهن وضعف واستكانة وذلّ.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} يحب الذين يثبتون على الحق حين يدخلهم الله تبارك وتعالى هذه الدورة الاختبارية، وكلُ مؤمن يدخلها بحسب ظرفه، وكلٌ يعطيه الحق سبحانه وتعالى دورة تتناسب معه، كلٌّ يعطيه الحق سبحانه وتعالى دورةً يظهر من خلالها تصنيفه أهو من المذبذبين المترددين أم أنه من أهل الإيمان المعمرين.
وقال الله سبحانه وتعالى وهو يؤكد هذه السنة:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] أي وهم لا يُختَبرون.
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } إذًا هي دورة متكررة مرّ بها من هم قبلهم ويمر بها كل مؤمن في كل زمان.
{ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أي سيظهر ما علمه الله سبحانه وتعالى، يقول علماء التوحيد: يظهر متعلَّقُ علمه سبحانه وتعالى.
ويصح من باب الإسناد إلى الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي خلق علم المخلوق، فلمّا علم المخلوق نسب ذلك إليه، كما قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قرأ عليه جبريل القرآن، لكن الله تعالى لم يسند إلى جبريل تلك القراءة فقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} [القيامة: 18] والذي قرأه هو جبريل لكن من الذي خلق تلك القراءة؟ ومن الذي تصح أن تكون النسبة كلها له على كل مستوياتها الفعلية و الصفاتية؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
وهنا قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} سيعلم المخلوقون النورانيون والظلمانيون من الذي سيخرج من الامتحان ناجحًا بشهادة صادق ومن الذي سيخرج من الامتحان فاشلاً وعنوان دورته كاذب.
وأخرج الترمذي مرفوعًا إلى النبي عليه الصلاة و السلام: (بئس العبد عبد طمع يقوده)
(أنت حرٌّ مما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع) وذاك العبد لا يصح أن يكون عبد الله، بل هو عبد لما طمع فيه، حينما تتعلق نفسه بالمقاصد الدنية المادية ولو تعلقت بالدنيا كلها، فهي لعاعة، وهي أهون عند الله من جناح بعوضة.
رحم الله العالم الشافعي الذي قال في الدنيا:
فإن تجتنبها كنت سِلمًا لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
إنَّ أولَ خطبة في الإسلام خطبها رجلٌ في أمة سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام كانت خطبة الصديق أبي بكر، حينما وقف في مكة يدعو إلى الله وإلى رسول الله، فلما انتهى من خطبته تلك، التي كلم الناس فيها عن صدق رسول الله وأمانته وأنه رسول الله - وهم أعلم الناس بصدقه وأمانته- ما كان من عتبة بن ربيعة المشرك إلا أن حمل نعلين مخصوفتين فيهما قطع حديد، وتوجّه إلى أبي بكر رضي الله عنه يضربه بهما على وجهه رضوان الله تعالى عليه، وانهال عليه ضربًا و المشركون يعينونه على ذلك حتى لم يعد يميّز في وجهه رضي الله عنه شيء. وجاءت قبيلته فحملوه ولا يشك أحدٌ منهم في موته.
فبقي من الصباح إلى المساء فاقد الوعي، فلما كان المساء فتح عينه، فكانت أول كلمة قالها: ما فعل رسول الله؟
أين هو رسول الله؟ أهو في أمان ؟.
أرادوا أن يطعموه بعض الطعام، وأن يسقوه بعض الشراب فأقسم وقال: إن لله عَلَيَّ أن لا أذوق طعامًا وألا أشرب شرابًا حتى آتي رسول الله، ولما أدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ويقبله، وأكب عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهم يبكون ويقبلونه، وتكلم أبو بكر مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلا: بأبي وأمي أنت يا رسول الله ليس بي يأس.
وفي المدينة المنورة، يوم أحد بعد أن خالف الرماة أمر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم و التفَّ الجيش المكي على جيش المسلين وقتل كثير من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت امرأةٌ من الأنصار تُسَجِّلُ في التاريخ موقفها:
جاءت من المدينة إلى مكان أُحُدٍ مسرعة و القتلى في الطريق، وهي تقول: ما فعل رسول الله؟
ووجدت في طريقها أباها مقتولا، قالوا لها أبوك، قالت ما فعل رسول الله؟
يعترضها بعد ذلك جثمان زوجها فتراه فتقول ما فعل رسول الله؟
وترى جثمان ولدها فتقول: ما فعل رسول الله؟
وترى جثمان أخيها فتقول ما فعل رسول الله؟
أربعة من أسرتها أبوها وولدها وزوجها و أخوها في الشهداء، لكنها تستمر في مقصودها تريد أن تسأل عن محور الإسلام ومركزه، ما الذي أصابه، تقول ما فعل رسول الله؟
حتى وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جرح صلوات الله وسلاماته عليه وكسرت ثنيته الشريفة، وحينما رأت أنه صلى الله عليه وسلم حيّ قالت له:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذْ سَلِمْتَ.
إنهم نظروا إلى الدنيا على أنها ممر، والذين فارقتهم في الدنيا على الإيمان ستجتمع بهم قريبًا في الجنة، لكنها إذا ضعف مقصودها الأكبر ودليلها الذي يدل على مصداقية إيمانها فإنها لن تكون مطمئنة إلى مصيرها ذاك.
الفارق بيننا وبينهم يا أمة المصطفى أنّا وقفنا عند العاجلة، ونظروا إلى الآجلة.
الفارق بيننا وبينهم أننا نظرنا إلى الدنيا على أنها المقر، ونظروا إليها على أنها الممر، فجعلنا كل آمالنا وأعظمها في الدنيا، في الممر، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا).
وكنت كلما قرأت مواقف سلفنا رضي الله تعالى عنهم أسأل نفسي وأقول ما سِرُّ ثباتهم؟
ما هي المعادلة، والقانون في ذلك؟
فالله سبحانه وتعالى جعل للاستقامة أسبابها وللثبات أسبابه، وجعل للإيمان أسبابه، وجعل للصدق أسبابه، فالذي يستطيع اكتشاف قوانين حكمة الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يسير رابط الجأش ثابت القدم، والذي لا يبحث عن هذه القوانين يسير متلفتا يمنة ويسرة من غير ثبات.
ما هي باختصار أسباب ثباتهم؟
والذي أراه أنَّ أعظم سببين للثبات ذكرهما القرآن، وأكد عليهما الاستقراء هما:
1- الثبات بسبب الخروج عن حال الغفلة إلى حال التذكر.
2- الثبات بسبب الجماعية الصادقة، وذلك عندما يخرج الإنسان عن فرديته وشتاته وأنانيته.
فإذا خرج في الباطن عن غفلته إلى تذكره ، وإذا خرج في الظاهر عن فرديته وخصوصيته وأنانيته إلى الجماعية المتماسكة الصادقة عندها يستطيع الثبات.
لكن هل آتي بهذا من بنات أفكاري؟
لا فما أحب أن أطعمكم شيئًا من وضع البشر، لكنني أحب أن أستمد لكم من موائد السماء.
1- الثبات بسبب التذكر.
وأقرأه وتقرؤونه في قوله تبارك وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45]
فإذا كان الغالب على قلبك وقت دخولك تلك الدورة الحس ستخرج فاشلاً، وإذا كان الغالب على قلبك وأنت تدخلها تعظيم الله تبارك وتعالى فستخرج ناجحًا.
فالغفلة لا تكون إلا حين يهيمن الحس على القلب، وإذا هيمن الحس على القلب ينفعل للمحسوسات وحدها، فلا يعظم إلا الأشياء، لا يعظم إلا المال، ولا يعظم إلا التجارة، ولا يعظم إلا الأشخاص، وإذا خرج قلبه عن أسر الحسِّ فصار معظِّمًا لله تبارك وتعالى يفعل كما فعل ربعي الصحابي الأعرابي الذي دخل على قائد الفرس رسْتَم،
كان الفرس يعلمون أنَّ المسلمين جاءوا من الصحراء الفقيرة، وتعرفون ما تمتاز به بلاد فارس من السجاد الحريري، فوضعوا سلاحهم، ووضعوا زخرفهم، ونمارقهم ليفتنوا أعرابيًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف سيصمد هذا الأعرابي أمام الذهب والسجاد، والزخرف، وهيمنة السلاح وقوته؟
لكن ربعي دخل الدورة معظمًا لله وقد خرجت الدنيا من قلبه وخرج تعظيمها، دخل وهو يغرز الرمح في الأرض ولا يبالي ولا يأبه بزخرفهم حتى وقف أمام قائدهم رستَم، فلاحظوا أنه لا يتأثر بزخرفهم، ولا يتلفت إليه.
من وصايا علماء التربية لأهل الإيمان أنهم أذا مروا بالزخرف عليهم أن يرددوا: اللهم كل ما على التراب تراب.
ووقف ربعي فقالوا له: كنتم إذا جئتم تسألوننا بذل واستكانة ونعطيكم بعض تمورنا ، من فتات ما عندنا، فترضون، وترجعون، وها أنتم تأتون تريدون أن تزلزلوا عرش كسرى، بل تريدون أن تسلبوا كسرى عرشه!
يقول له ربعي لا نريد كسرى ولا عرش كسرى، لا نريد زخرفكم، اتركوا زخرفكم لكم، أتينا لنخرجكم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ليس عندنا طمع في المال، فنحن نحمل رسالة، ننقذ بها الإنسانية.
أنتم يسجد بعضكم لبعض، ونحن لا نريد منكم إلا تحرير قلوبكم، فحرروها من الأشياء ولا شأن لنا معكم.
هكذا يظهر أثر التعظيم، حين تدخل في أيِّ امتحان مُرَغِّبٍ أو مُرَهّب معظمًا لله.
ألم يدخل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، امتحان الحرق بالنار وهو امتحان مُرَهِّب لكنه دخله معظمًا لله؟
نزل جبريل ومعه ملك المياه، وملك الهواء، يقول له: يا خليل الرحمن مر ملك الماء، ليأمر المياه فتطفئ النار، وتظهر المعجزة لك..
ولا يلتفت إليه إبراهيم، وهو على المنجنيق، يريدون أن يحرقوه.
مر ملك الهواء يا خليل الرحمن.
ثم يقول له جبريل: إذا كنت لا تريد أن تتكلم مع الملائكة ولا مع أحد من العباد، فارفع يديك، واطلب من الله سبحانه وتعالى أن ينجيك. يقول له: علمه بحالي يغني عن سؤالي.
ألا يراني، إذا كان يريد إحراقي فليحرقني، هذا خليلي وأنا خليله.
إذا كان يسره إحراق خليله فأنا يسرني ما يسره.
علمه بحالي يغني عن سؤالي.
وقفوا أمام المرغِّبِ والمرهِّب فتجاوزوه.
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]
نحن ندخل الدورة ونخرج منها بالفشل لأن هذا التعظيم مفقود عند كثير منّا.
واقرؤوا قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً }[الأنفال: 44].
يمتن الله سبحانه وتعالى على أصحاب رسول الله بأنه أكرمهم لمّا نظروا إلى جحافل الكفر، فرأوها قليلة.
نعم إنه سر التعظيم، فلا يَعظُمُ مع تعظيم الله عظيم، ولا يكثر مع كثرة كمالات الله كثير، فالله أكبر والله أكثر، والله أوسع، والله أعظم.
فلما عظموا الله لم تتأثر قلوبهم.
ولما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه قائد جيش المسلمين، لما سمع جنديًا في جيشه يقول ما أكثر الروم، وكانوا يزيدون عن عشرة أضعاف جيش المسلمين، نظر إليه بتنبيه وقال لا، قل ما أقل جيش الروم، إن الجيوش تكثر بالتأييد.
{وَاذْكُرُواْ اللّهَ}ولا تذكروا سواه، وأنتم في تلك الدورة.{ لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45]
وعندما وجه الله تعالى موسى وهارون إلى فرعون، ماذا قال لهما؟
إنها دورة اختبارية يقف فيها موسى وهارون وهما من بني إسرائيل من الأقلية المستضعفة، أمام الفرعون المتغطرس المتجبّر الذي يملك المال والعتاد والعدد والعُدَد، فيسلمهما الحق سبب الثبات، بقول لهما: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42]، أي لا تتوقفا لحظة عن ذكري، فهذا هو سبب ثباتكما أمام الفرعون، إياكما أن تغفلا.
معكما سر الثبات.
ولمّا تعجب أهل مصر من موقف العز بن عبد السلام حين أفتى فتواه فأمر فيها المماليك قائلا لهم: اشتروا أنفسكم ثم احكموا مصر، فالإسلام لا يجيز حكم العبد.
قالوا له: أنت تخاطب سلطان مصر، كيف تجرؤ؟ كيف تستطيع؟ كيف تقدر؟ كيف تثبت؟ فقال كلمته التي يرددها التاريخ مرارًا وتكرارًا: استحضرت عظمة الله فرأيت السلطان أمامي كالقط.
2- الثبات بسبب الجماعية الصادقة.
وبالخروج عن الفردية، والأنانية، والخصوصيات إلى الجماعية الصادقة.
وتقرؤونها في مواضع كثيرة، منها قوله سبحانه وتعالى لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35].
نعم، أخوك مؤازرك.
أنت بفرديتك لا شيء، وبأنانيتك لا شيء...
وأنت بأخيك قوي.
أنت بالأخ الصادق المؤازر المثبت الذي يقف معك في سرائك وضرائك، ثابت على الحق، لكن من غير أخ، ومن غير جماعية صادقة أنت ضعيف.
وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103].
وكنت اليوم أقرأ في الصباح في كتاب الله تعالى فاستوقفتني آية، وهي قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور: 43].
و يقول بعدها:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}[النور: 44] أين العبرة ؟
إنَّ الحق سبحانه يرسل إلينا في هذا النص رسالة، فالسحاب وحده لا يخرج منه المطر، والسحاب المتفرق لا يمطر مطرًا، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} يسوق بعضه إلى بعض.
{ثُمَّ يُؤَلِّفُ} انظر، إلى هذا التعبير القرآني، يؤلف، فإذا لم يحصل هذا التأليف الباطن في الجماعية الصادقة لا قيمة لاجتماع الأشباح.
لا تتوهموا أن اجتماع الأشباح وحده يفيد، أو يُثَبِّت لا.. بل اجتماع الأرواح، واجتماع القلوب، والائتلاف {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}.
إذًا لا فائدة، ولن نكون منتجين حتى يتكون الركام النوراني، بهذا التأليف، ومن غير هذا التأليف لن يخرج منّا غيث إلى العالم أبدًا.
إذا بقينا متناحرين، وإذا بقينا كل منّا يبحث عن شهرته، ويبحث عن سمعته، ويبحث عن مصالحه...
لا نكون مؤهلين لحمل الرسالة، ولا يوجد فارق بيننا وبين الأحزاب التي تدعو إلى مصالحها، فعباد الله هم الذين توجهوا بكليتهم إلى الله فكانوا أهلاً لحمل الرسالة.
لماذا لا ينصهر الدعاة بعضهم مع بعض، ما السر؟
السر هو الأنا، والسر هو الهالات التي تبنى حول الأشخاص، والتي يخافُ أصحابها أن تهتز.
فإلى الانصهار في معنى الرسالة.
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال:
( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا).
وإذا لم توجد المحبة إذًا فالإيمان مشكوك فيه.
وأختم بآية جمع الله سبحانه وتعالى فيها سببي الثبات: التعظيم له، والجماعية الصادقة، قال سبحانه وهو يخاطب حبيبه محمدًا صلى الله عليه وسلم:
{ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]
فأشار في هذه الآية إلى الأمرين معًا.
{ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ} يكفيك الله، يكفي باطنك، فليستغن باطنك بالله.
{هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} فوجدت الجماعية التي خرجوا فيها عن خصوصياتهم وفردياتهم، وباعوا أنفسهم وأموالهم لله، فانصهروا في بوتقة واحدة.
{وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ }[الفتح: 29].
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.
|