من علامات النفاق
على مساحة عالمنا الإسلامي، بل وعلى مساحة كرتنا الأرضية، ينقسم الناس بحسب التقسيم القرآني إلى أقسام ثلاثة:
1- القسم الأول: أعلن بجرأة موقفه من الإسلام، فهو رافض لا يقبل الإسلام، كان هذا الرافض لا دينيًا، أو كان يهوديًا أو مجوسيًا أو نصرانيًا..
شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الخاتمة التي نسخ الله تعالى بها كل الشرائع السابقة ولا يقبل الله سبحانه وتعالى غير دين الإسلام.
هذا الصنف الأول أعلن أنه على غير دين الإسلام، بجرأة وبوضوح، والإسلام لم يكن يومًا من الأيام يتبنى منهج الإكراه، وعند الله تجتمع الخصوم، فالإسلام هو الطريق إلى الجنة، والإسلام هو الطريق إلى مرضاة الله، والإسلام هو الطريق إلى الحياة الطيبة...
2- وصنف آخر أعلن أنه تلميذ القرآن، وأنه يحمل الأمانة التي حمّلها إياه محمد عليه الصلاة والسلام، تفاعل مع الإسلام، فهمه ظاهرًا وباطنًا، قد تلقى من صاحب الرسالة صلوات الله وسلاماته عليه قوله: "بلغوا عني" وتأسى به على منهج: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} وصَفَا باطنه مستمدا من حال ذلك السيد الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ }[الأنفال: 64] فَهو متحرك بالدعوة متفاعل معها، مستقيم على الأمر، منضبط به، متوجه بقلبه إلى الله.
3 - وبين ذاك وهذا صنف ثالث، يكثر في بلاد المسلمين وجوده، بدأ وجوده مع تشكل المجتمع الأول في زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ظاهره إسلامي، ومظهره إسلامي، وكلماته إسلامية... لكنه ذو شخصية ضعيفة، لايقدر على أن يكون منسجمًا ما بين ظاهره وباطنه، باطنه ضعيف، وظاهره متردد مذبذب، أطلق الله سبحانه وتعالى عليه اسم المنافق، يختلط أمره على الناس ويزداد هذا الاختلاط كلما كان صاحبه مُظهِرًا للمظاهر الإسلامية قولاً أو فعلاً أو هيئة أو مظهرًا، وأخوف ما تخوف منه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافق عليم اللسان، لأنه يستطيع بلسانه أن يصور أجمل الصور، لكنه بباطنه غير متفاعل.
ولما كان الأمر شديد الاختلاط لاسيما في هذا الزمن الذي نعيشه ، وقد كثرت فيه الِمحن على أمة الإسلام، نتحدث في وقت رمضان بالصيام، ونتحدث في وقت الحج بالحج، ونتحدث عن الصلاة والزكاة.. لكننا لا نعيش مقاصدها، ولا ننفذ إلى حكمها، ولا نعيش أحوالها، ولا نسمع عن أسرارها، ولا نمتزج بأنوارها...
رأيت أن من الواجب علينا نحن الذين ندّعي الإسلام، وندّعي تأسيًا بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أن نجعل من أورادنا اليومية استعراضًا لعلامات النفاق، التي أوردها القرآن الكريم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن الإنسان قد يكون مختلطًا فيه بعض نفاق، أو فيه كل النفاق.
ألم يأت حديثه صلى الله عليه وسلم المُبين الذي يقول فيه: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقاً خالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفاقٍ" إذًا فالنفاق قد لا يكون بمظهره التقليدي وهو أن يبطن في قلبه الكفر الصريح ثم يدخل بعد ذلك بين المسلمين مُعلنًا الإسلام، لكن القرآن الكريم تحدّث عن الصور الأخرى ولابد لنا أيها الإخوة، أيها الدعاة، أيها العلماء، أيها الشباب، أيها المثقفون.. لابد أن نعرض هذه العلامات على قلوبنا وأنفسنا لنرى كم نحمل منها، فإذا كنا نحمل منها نصفها فنصفنا نفاقي لابد من التوبة منه، وإذا كنا نحمل ثلثها فثلثنا نفاقي لابد من التوبة والخروج منه، وإذا كنت تجد أنك قد تخلصت من هذه العلامات فإن ذلك يدل على ثباتك، وهي بشارة من الله تعالى لك بالقبول والصدق.
أولاً- من العلامات التي أذكرها بين يدي حضراتكم أيها الإخوة الاستغراق في المتاع العاجل والانهماك فيه إلى درجة تشغل عن الآجلة:
واقرأ قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا }[التوبة: 69].
{ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا} : قوة مادية منها الجاه والسلطان والقوة العسكرية.
{ وَأَكْثَرَ أَمْوَالا} الأموال بأنواعها.... {وَأَوْلادًا}
{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }استمتعتم بالقوة والأموال والأولاد، كما استمتعوا، واستغرقتم، وانهمكتم في هذا المتاع العاجل.
{ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}خضتم في مستنقع المادة وتحركتم فيه كما تحركوا من قبل.
ثانيا- الكسل والتثاقل عن الواجبات التي أوجبها الله سبحانه وتعالى:
واقرؤوا قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً}[النساء:142] فلولا نظر الناس وتنبيهِهُم وانفعالهم لِنظر الناس ما قاموا بالواجبات، فالذي يحركهم لها نظر الناس لأنهم لا يذكرون الله، فلو أنهم ذكروا الله بقلوبهم، فتذكروا مليكهم ورقابته لهم لتغيرت أحوالهم.
قال الله لحبيبه سيدنا محمد: { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } [الشعراء218] فقيامك أينما كنت في عبادتك ومعاملتك مرتبط بنظر الله لا بنظر الخلق، وحينما يُشغَل القلب بنظر الخلق ولا يراقب نظر الحق يظهر ذلك في سلوكه كسلاً وتثاقلاً عن القيام بالواجبات لأن قيامه بالواجبات كان مدفوعًا بنظر الخلق لا بذكر الحق.
العلامة الثالثة: تعدد الوجوه وتعدد المواقف.
فلا ثبات له على موقف، وهو يمتلك وجوهًا كثيرة، كيفما تريد أن تسمع منه تسمع، والذي تريده أن يقال يقوله لك، واسمع قوله تعالى:
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[النساء: 143]
فإذا كان مع أهل الباطل داهنهم في باطنهم، وإذا كان مع أهل الحق كان الإمام والرائد في كلماته البديعة العذبة الساحرة.
العلامة الرابعة: الرغبة في شتات المسلمين:
فهو يُبغض تجمعهم، ولا يريد لهم أن يجتمعوا، بل ويسعى لتفكيك تجمعهم.
واقرؤوا قوله تعالى:
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا }[المنافقون: 7]
جعل الله سبحانه وتعالى المال قيامًا للتجمع الإنساني: { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}[النساء:5] فوجود المال يساعد في النهضة، ويدفع عجلة الحضارة، ولما نظروا من خلال هذا الميزان أرادوا إيقاف عجلة النهضة، وأرادوا إيقاف المركبة التي تسير إليها ، فوجّهوا المال إلى ما يَظهر فيه الاسم، وتذاع فيه الشهرة، وقطعوا إمدادهم عن المركبة التي تحمل الأمة نحو الحضارة.
ليست الحضارة عندنا مادية صرفة، بل فيها جزءٌ إنساني خُلُقي، وفيها جزءٌ مادي لكن لابد منهما معًا.
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}[المنافقون:7]
يجهلون أن الله سبحانه وتعالى يهيئ الأسباب حينما يوجد الصدق في القلوب، فتقوم الحضارة وتتهيأ الأموال حين يوجد ذلك الاستعداد الإنساني الخلقي{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}.
العلامة الخامسة: الإصرار على الأنا والفردية:
واقرؤوا قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمثل مركز التجمع، وكان معه جيل يربّيه قال الله تعالى فيه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }[الفتح 29]
وقال فيهم: { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ }
فهو تجمع متماسك، وصف كالبنيان المرصوص، فإذا قيل لهم تعالوا إلى هذه الدائرة التي مركزها واضح، تجمع يقوم على الحق منهجه الكتاب، ومركز يمثله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من ينوب عنه في جماعة المسلمين إلى يوم القيامة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } المنهج {وَإِلَى الرَّسُولِ} المركز الذي يكون حوله التجمع {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا }
لأنهم يصرون على الضِّرار وتفريق المؤمنين، وقد خرّب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الضرار، وكم من عمل ظاهره إسلامي لكن حقيقته هي تفريق المسلمين، وحرب الله ورسوله.
هكذا يظهر الله سبحانه وتعالى المقاصد التي تكمن خلفها العلامات.
العلامة السادسة: العمل المشروط بالمكاسب فإذا ارتبط العمل الإسلامي بمكسب سعى إليه، وإذا لم يرتبط بمكسب أعرض عنه، فلا يفهم معنى العمل الذي يراد به وجه الله، ولامحل له في قلبه، وقد سمع أحد الناس مرة رجلاً يعظ ويقول: الحسنة بعشر أمثالها و{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سنَابِلَ} فقال في أي بنك يصرف هذا؟
لأن هذه اللغة لا محل لها في قلبه.
واقرؤوا في هذه العلامة قوله تعالى:
{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} أي إن نحن كنا معكم ما الذي يعود علينا من المكاسب؟
هل لنا من مكسب سلطوي أو مادي نستطيع الحصول عليه إن كنا معكم؟
{..يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ..}[آل عمران: 154].
هو سبحانه الذي يصرّف ملكه، ويتصرف في خلقه...
اقرؤوا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتجدوا كم من قبيلة كبيرة عظيمة في العدد قالت له صلى الله عليه وسلم: يعجبنا ما تَعرضه علينا ، لكن نشترط عليك إن ظهرتَ على الناس أن يكون الأمر لنا من بعدك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبهم إن الأمر لله، فيُعرضون عن الإسلام مع استحسان عقولهم له.
وخصّ الله سبحانه وتعالى قومًا ما طلبوا مكسبًا، لكنهم أرادوا الله.
جاء الأنصار ولم يكونوا أهل الغنى المشتهر عند العرب ، ولا أهل الكثرة، فكانوا كلما وصل إليهم مُهاجريٌّ يستهمون عليه، أي يقترعون، يجرون القرعة ليُعلم منها أنه سيكون نصيب مَن؟
وهل تعرفون يا إخوتي ما معنى هذا؟ إنهم يقترعون ليعطي الواحد منهم نصف ماله لهذا المهاجري، سيعطي نصف بيته، ونصف ماله، وهو يقترع على هذا راغبا!
قولوا بالله عليكم قومٌ كهؤلاء ألا يستحقون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم..؟
وعندما تأثر بعضهم حينما جاءت قريش مُسلِمَة, فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ الغنائم, وقال: يُعطي قرابته.
فجمعهم وقال: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاه.... بالمال.. وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ .. فبكى الأنصار جميعًا, وقالوا: رضينا. {فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَت الْأَنْصَارُ شِعْبًا لاخْتَرْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللهم ارحم الأنصار وارحم أبناء الأنصار، ودعا لهم }
إنهم فهموا قيمة ذلك, وفهموا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {لولا الهجرة لدعوتُ أن أكون من الأنصار}
العلامة السابعة: التعلل بالاستعداد للجهاد, وانتظاره مع أن الجهاد قائم.
يقول: لو أن هناك حرب.. ولو سمعنا: يا خيل الله اركبي.. لرأيتنا أول الناس.. في الطليعة..!!
ومن الذي قال إن الجهاد هو القتال وحده؟
ومن الذي فهم أن الجهاد يرادف القتال؟
من هذا الجاهل الذي لا يعلم أن القتال هو آخر بند في الجهاد؟
الجهاد أن تبذل جُهدك, ونَفْسك, ومَالَك, وعُمرك.. لله.. للقرآن .. لمحمد عليه الصلاة والسلام.. للرسالة..
فترى أن هذا الجهل يُولِّد اختلاطًا في المفهومات, ويخلط الإنسان بين الحَميَّة والقتال من أجل إعلاء كلمة الله.
وعندما يدخل عدو بلدا من بلاد المسلمين, ترى الكثيرين يندفعون إلى القتال, لكنهم قبل ذلك لا يتحركون إلى الجهاد, أي لا يتحركون إلى جُهْدٍ مُتعِبٍ عنوانه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} .
وعندما تجد هذا الإنسان يُوضع في بيئة قتالية يسارعُ إليها..
وقد رأينا هذه الظاهرة في شبابنا عندما حصل العدوان على العراق, رأينا من لا يملك مقومات الجهاد, ولا التفاعل مع الرسالة, وكان في عمره لا يفهم الإسلام, ولا يتعامل معه بتفاعل ولا بفهم مقاصد, ولا عنده أدنى معرفة بحقائقه.. رأيته يقول: خذوني إلى العراق أريد أن أُقاتل..!
يا هذا ، أيها الإنسان الذي لم يفهم في عُمره معنى الجهاد, لماذا قال رسول الله {لا تتمنوا لقاء العدو} يعني اجتهدوا في جهادكم واجعلوا القتال آخر شيء في قائمة دعوتكم.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]
وقلت مرارًا وتكرارًا: إن البعض يفهمها فهمًا خاطئًا, أي أنكم تكرهون القتال لأنكم تكرهون الخروج من هذه الحياة.. وهذا ليس صحيحًا, فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشتاقون إلى الجنة, {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} لأن الله سبحانه وتعالى درَّبهم تدريبًا طويلاً في مكة, وفي ثلاث سنوات أو سنتين في المدينة على العفو والإحسان والرحمة, فلما أمرهم بالقتال كَرِهوا ذلك, وأرادوا أن يكون الصبر ديدنهم.
هذا هو قلب الداعية, وهذا هو قلب المؤمن المُستمِد من الرحمة العالمية محمد صلى الله عليه وسلم الذي أُرسل رحمة للعالمين.
يا هذا الجهاد قائم.. فكم من الناس اليوم هم في الكُفر, وكم من الناس هم في النفاق..!
أين جُهدك لتُبيِّن حقائق الإسلام, وأين جهدك لتقول للعالم, وللناس, ولأُسرتك: إن الإسلام هو هدية الله إلى الإنسانية. بالأدلة, وبالإقناع, وبالحُُجج؟
لتقول للعالم: يا من يشتغلون بالاقتصاد, تعالوا إلى اقتصادنا الإسلامي لتفهموه.
يا من يشتغل بعلم الاجتماع, تعالوا إلى اجتماعنا الإسلامي وافهموه.
يا من يشتغل بعلم الإدارة, تعالوا وافهموا قواعد الإدارة الإسلامية.
تعالوا حتى تجعلوا بينكم وبين هدية الله صُلحًا.
وهناك اليوم من يخلط بين التطبيقات القديمة للإسلام في الأزمنة السابقة والتي كانت تتناسب تناسبًا تامًا مع عصورهم, والنص..
النص باق يا إخوة.
وعندما أجتمع مع مُثقَّفين, يتحدثون لكن يدلُّ حديثهم على جهل..
النص باقٍ يُغذّي نهضتنا كل يوم, لكنَّ تطبيقات أسلافنا لا علاقة لنا بها, فقد كانت تتناسب مع زمانهم رضي الله عنهم.
الثوابت لا تتغير, لكن الأحكام تتبدَّل بتبدُّل الأزمان.
النص القرآني نصٌ يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, لأنه النص الأخير الربّاني الذي أنزله الله على آخر رسول في شريعة خاتمة, ليكون ذلك حضارة للإنسانية كلها.
هذا هو النص.
فحينما يأتي بعض الجهلة ليقول: أتريدون أن نطبِّق الإسلام ونحن نقرأ الأحكام السلطانية للماوردي..
نقول: يا جاهل, الماوردي فهم النص, وعليك أن تفهم النص, وعليك أن تبحث في النص, وعليك أن تقرأ ما يبقى من تطبيقاتهم الصالحة, وما لا يبقى, وعليك أن تفهم المُتغيرات, وعليك أن تفهم أن استنباط أهل العلم من القرآن لا ينقطع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقلت مرارًا وتكرارًا, هذا يكون بمجمع أوفي ورشات عمل، أو في مؤتمرات، أو ندوات... نحن نملك قوة استنباطية لأننا نملك القواعد الثابتة.
عندما نتحدث عن الاجتماع والإدارة، والسياسة، والاقتصاد، نعني أننا نملك القواعد الثابتة، فالفضيلة لا تتغير، والمساواة لا تتغير، وهي حقائق ثابتة، والعدالة لا تتغير، ومن خلال هذه القواعد الثابتة لدينا القدرة للاستنباط الذي يتناسب مع الزمان ولا يتنافى مع ثوابتنا.
وعندما تقول للمسلم: أين جهادك في العلم؟ يقول لك "أنتظر أن أسمع يا خيل الله اركبي" قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:167]النص يقول: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} فلم يكن القتال إلا جزءًا من النص، والدفع هو الأصل في الدعوة.
وقد أرسل رسول الله الكتب إلى الملوك، وهذه هي وظيفتنا.
كانت الفتوحات الإسلامية في الماضي لكسر الحواجز لا لنشر الإسلام بالسيف كما يقول الجاهل الذي يقعد على رأس البنية الكاثوليكية، وينبغي عليهم إن كانوا عُقلاء أن يزيحوه عن هذا الرأس، وهم يعلمون أنه لا يستحق هذا المنصب، لكنهم مكبّلون، عليهم أن يثوروا مستعملين عقولهم حتى يكون لهم الاعتبار الإنساني.
إن هذا الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل كسرت الحواجز أمام الدعوة، والآن دعوتنا تصل إلى كل مكان، فنحن لا نحتاج اليوم إلى فتوحات بالقنابل، لأن فتوحاتنا اليوم هي بالعلم وبالبراهين الساطعة، لا بالسيوف القاطعة.
اليوم نستطيع أن نسافر إلى أي مكان في العالم، ونستطيع أن نحدِّث ونحن في المكان أي شخص في العالم، فنحن لم نعد محتاجين إلى فتوحات السلاح، لكن نحتاج إلى العقول، والأرواح، والقلوب، ونحتاج إلى وقتك الذي تعطيه، ونحتاج إلى بذلك الذي يكون فيه الجهد بالنفس والمال في سبيل الله في منهج حكيم متوازن.
العلامة الثامنة: التخذيل . وكلما أردت أن تندفع في اتجاه إيجابي خذّلوك { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}[النساء: 72] وهذا التخذيل ديدن نفاقي.
قال سبحانه { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً }[آل عمران 118] كلما أردتم أن تتحركوا باتجاه إيجابي ثبطوكم، يقولون لا.. لا.. هذا غير واقعي، وهذا غير نموذجي وهذا يشكل مثالياتٍ وجمهورياتٍ أفلاطونية، اجلس، واقعد، وأخلد إلى الأرض..
{لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} يريدون أن تبقوا في المشقة، ويريدون أن تبقوا في العناء، ويريدون أن تبقوا في المكابدة، ويريدون أن تبقوا في التعب، ويريدون أن تبقوا في المعاناة، لأن أي مشروع يسير بكم في اتجاه إيجابي يجب أن يثبّط لا..لا .. التزموا الحكمة، اقعدوا، أمسكوا السبحة، أغلقوا عليكم الباب,
وكل وسيلة من وسائل الحركة إلى الحضارة تثبط بأدوات مستخدمة مستأجرة.
العلامة التاسعة: هي كما قال شاعرنا
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب.
ما أحلى اللسان, أما القلب فقلب ذئب.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]
العلامة العاشرة: الشماتة بمن أراد التضحية في سبيل الله فوقع في محنة.
إذا رأى من ضحّى في سبيل الله بجهد أو بوقت أو بمال, فوقع في مِحنة, فهو دليل عملي عنده على بطلان ما فعل هذا المضحي، وصواب قعوده هو وتخاذله، يقول لهم: ألم أقل لكم.. هل أنا مجنون حتى أفعل كما فعل..
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72]
فيصف قعوده وتخاذله وكسله وإعراضه وتخذيله بالنعمة!
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]
وقد قُلت مرارًا وتكرارًا الكلمة الرائعة للمجاهد الداعية النُورسي رحمه الله, فقد كان يقول لأعدائه: أنا أملك حياتين, وأنتم تملكون حياة واحدة, ومن يملك حياتين لا يستطيع أن يقف في مواجهته من يملك حياة واحدة.
ما عندكم إلا هذه الحياة, فإذا خسرتموها, انتهت القضية عندكم, أما أنا فأملك حياتين, وإذا خسرت الأولى, فعندي حياة ثانية.
وبهذا استطاع أن يَثْبت في الدعوة أكثر من ثمانين سنة على الحق.
العلامة الحادية عشرة: طلب المكانة عند من يظلم المسلمين, لأنه كان معهم على المؤمنين.
يطلب المكانة عند الظلمة الذين ظلموا المسلمين, لأنه كان معهم على المسلمين!
{وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا..} يعني قال المنافقون للكافرين {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ألا ترون أننا قد قمنا بدور كبير فكُنا حاجزًا بينكم وبين أهل الإيمان, ولولانا أين أنتم.. نحن نُثبّتكم.. ونحن الذين نمنع كل حركة إيجابية تضُرُّ بمصالحكم.
{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]
العلامة الأخيرة التي أذكرها في هذا اليوم: الخوف المُهيمن عليهم.
أينما جئته تجده خائفا, لأنه يملك حياة واحدة.
قال سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} أي من أهل الإيمان {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56]
فاختصر ربنا الوصفَ بكلمة واحدة: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي يخافون.
أتمنى على كل صادق.
وأتمنى على كل من أراد لنفسه أن يكون من أهل الثبات, أن يَعرض نفسه على هذه العلامات, وبعدها يستطيع أن يقرأ الجواب, وبعدها يستطيع أن يخرج عن العِلّة.
ثبِّتنا اللهم بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.
|