هل سنصوم وهل سنقوم؟
أتساءل أيها الإخوة وتتساءلون جميعًا، لماذا يتجرأ أعداء الله على إسلامنا ومقدساتنا، وقرآننا، وحبـيـبنا وإمامنا سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ويكررون ذلك تكريرًا لم يُعهد من قبل، فكل يوم تطالعنا جرأة وإساءة جديدة؟
ما سبب كل هذا؟
لم يكتفوا بالاعتداء على أرضنا وأموالنا، ولم يكتفوا بفرض ثقافة التحلل، ولم يكتفوا بالتحكم بأسلوب المعاش، ولم يكتفوا بإبعادنا بكل الوسائل عن ديننا وحضارتنا ومعالمنا ومضموناتنا..
لم يكتفوا بكل هذا، فبدؤوا يشنون في الآونة الأخيرة حرب الاعتداء، تارة بالرسوم المسيئة، وأخرى بالتصريحات القميئة التي تصدر عن رؤوسهم الكبرى، وتارة بإساءات وسباب وشتم يوجه إلى شخص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وآخرها ما نشرته تلك الصحيفة الفرنسية لكاتب يشتم سيدنا محمدًا ويصفه بالأوصاف القبيحة.
ما سبب هذا أيها الإخوة؟
هل كما يقول البعض هو لمجرد إشغالنا بردود الأفعال؟
أعتقد أن هذا صحيح إنما هو أمر هامشي، وهو أن يحدثوا فينا ردود الأفعال ليصرفونا عن الأفعال، لكن لا بد أن نلاحظ أمرين اثنين في الجواب على هذا السؤال:
- الأمر الأول أن الغرب يعيش اليوم حالة فقدان للأخلاق الإنسانية، وهي حالة حاضرة.
- والأمر الثاني أننا ضعفنا.
وهذا الضعف والتبعية والهوان والذل أغراهم بنا لأنهم لم يعودوا ينظرون إلى وجودنا بالاعتبار.
فقدوا الأخلاق الإنسانية باسم ما سموه بالحرية، والتفلت والفوضوية النفسانية، وحينما فقدوا ذلك انعدمت عندهم احترام ثقافة الآخرين، وساروا على منهج التفريق بين دول الشمال ودول الجنوب.
نحن كمسلمين أينما كنا نحترم الإنسان، ونحترم المخالف.. مستمدين ذلك من قوله سبحانه:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]
واقرؤوا خطابنا للمخالف، من خلال القرآن، واقرؤوا لغته التي تسمو فوق الشتائم والسباب، لأننا أمة إنسانية، ولأننا أمة أخلاق، ولأننا أمة فضيلة، ولأننا أمة رقي وسمو.
اقرؤوا هذا النموذج من الخطاب:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 14] ولم يقل تحرِّفون.
{وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} هي إذا لغة العفو.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]
{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ} هو محمد صلى الله عليه وسلم كما يقول المفسرون.
ألا تريدون النور، أتصرون على البقاء في الظلمات.
{وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} موضح ليس فيه لبث يخاطب العقل والمنطق والحجة.
{يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} يوصل الإنسان إلى السلامة.
{وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{[المائدة: 15]. هذا نموذج من خطاب ديننا للمخالِف.
ونقرأ قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} والذي يظلم يُقتص منه ولا يُعتدى عليه.
{وَقُولُوا} وأنتم تخاطبونهم. {آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]
هذه هي حضارتنا وهذا نموذج خطابنا للآخرين.
قارنوا بين هذه اللغة، وموقف المخاطَبين المخالِفين الذي وصفه القرآن: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنـزلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ} [البقرة: 105].
يؤذيهم أن يكون لنا خير أيًَّا كان نوعه.
{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنـزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنـزلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].
هذا هو نموذج خطابنا، وهذا هو نموذج خلقهم الذي يصفه القرآن فيما مضى، واليوم يضاف إلى ما مضى ما يعيشه الغرب من التحلل الخلقي، والانحطاط باسم حرية الفرد، في الوقت الذي يدَّعون فيه أنهم يفرضون القوانين، وينظمون المجتمعات.
قال الله سبحانه وتعالى:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]
أي رُدوا عدوان المعتدي حينما يأخذ المال، وحينما يعتدي على الأرض، وحينما يؤذي النفس....
لكن ما رد المسلمين حينما لا يكون الاعتداء على الأرض، والمال، والنفس؟
ما رد المسلمين عندما يكون الاعتداء والجرأة على أعظم رموز العالم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
إنَّ المثلية مفقودة هنا، فنحن نعظَّم الرسل كلهم، ونحترم المخالف، ونعتبره.
أقول بصراحة: في مثل هذه الحال، لو كان للمسلمين دول..
توجد شعوب إسلامية، ويوجد مسلمون، لكن لا توجد دُولٌ تحامي عن إسلامهم، فالقوة التي تملكها هذه الدول توجَّه إما إلى الشعوب لتكون عليهم، وإما أن تكون لحفظ السلطان، أما الإسلام، فليس له إلا الله.
أين الدول في العالم الإسلامي التي لها دفاع فعلي عن الإسلام ورموزه؟
لا توجد دول إسلامية تدافع.
في مثل هذا الحال يجب أن يتوجه خطابُ الدولة الإسلامية إلى الدولة التي حصل فيها هذا لتقول لها: إما أن تفرضوا عقوبة على من فعل ذلك، لأنه يعتدي على أعظم رموزنا ومقدساتنا، بأن توقعوا عقوبة شديدة عليه بين السجن والقتل على اختلاف فيما يبينه علمائنا في الذمي الذي يسب سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم.
وإما أن لا يكون بيننا وبين تلك الدولة أي صلة، وهي دولة عدو، لأنها توافق على الاعتداء على أعظم رموزنا، أو لأنها لا توقع العقوبة بفردٍ فيها أساء إلى أعظم رموزنا.
يكون هذا فيما لو وجدت الدولة التي تحمي الإسلام وتدافع عنه.
لكن عندما تخلَّفَ من يملكون مقاليد الأمور، ويملكون القوى المادية في هذه الدول الإسلامية، عن الدفاع عن رموزنا ظهرت الظواهر الفردية التي نراها اليوم، وبدأنا نسمع كل يوم بجماعة جديدة تارة تعلن الجهاد وتارة تعلن القتال، وتارة وتارة..
لماذا هذه الفوضوية؟
لأن دور الدولة غاب، ولما غاب دور الدولة ظهر هؤلاء الذين يمارسون تلك الممارسات الفوضوية، بأسماء متعددة وشتى.
إذًا نحن نعيش أولاً الأزمة بسبب فقدان الغرب للأخلاق على مستوى دولهم وشعوبهم، لأن دولهم لو كانت تملك الأخلاق لكانت عاقبت.
الأمر الثاني هواننا، وضعفنا، وتبعيتنا.
أين وجودنا الحضاري؟ هل نملك القوى الرادعة؟
الشاذ عن حضارتنا في مجتمعاتنا كثير، فإذا نظرت إلى واقع الأمة الإسلامية تجد من أنواع الشذوذات البعيدة عن حضارتنا الإسلامية الشيء الكثير.
فقد دخل الانحلال الخلقي وهذا بعيد عن حضارتنا، ودخلت الرشوة، وهي بعيدة عن حضارتنا، ودخل الغش، وهو بعيد عن حضارتنا، ودخل الجهل وهو بعيد عن حضارتنا، ودخل الظلم وهو بعيد عن حضارتنا، ودخل التسلط وهو بعيد عن حضارتنا...
إذًا نحن في الأمة الإسلامية نعيش أزمة شذوذات كثيرة وجدت في بيئتنا، ولم تعد هويتنا الحضارية الإسلامية ظاهرة لا على مستوى العلم، ولا على مستوى التقانة، ولا على مستوى البحث...
تخلفنا فوجدت عندنا شذوذات يجب تركها.
وفقدنا كثيرًا من مقومات حضارتنا يجب فعلها.
فنحن أمام أزمة شذوذات يجب تركها، ومفردات حضارية يجب فعلها.
وصناعة الحضارة تتركَّب من هذين الأمرين:
- هدم الفاسد.
- وبناء الصحيح.
ترك الدَنيِّ، وفعل السامي العَليِّ.
وصناعة الحضارة هي التي تجعل الآخرين يحسبون لنا ألف حساب، قبل أن يتجرأ وَقِح منهم.
صناعة الحضارة تقتضي رحلة عن السيئ بكل أنواعه، ورحلة إلى الحسن بكل أنواعه.
هكذا تُصنع الحضارة.
وكُنت أفكِّر.. هاهو رمضان يأتينا، فبأي شيء يأتينا..؟
ورأيت أنه يأتينا بهذا المشروع الحضاري التربوي، لو فَهِمناه.
شهر رمضان يأتينا بالمشروع الحضاري، الذي تُبنى الحضارة فيه، لأنه يُدرِّبنا على هذين الأمرين:
الرحلة عن السيئ، والرحلة إلى الحَسَن.
لو أننا فعلاً أردنا أن ندخل دورة شهر رمضان كأمة إسلامية، سنجد أنه يُدرِّبنا على الرحلة عن السيئ، والرحلة إلى الحَسَن.
لأن الأداة التربوية في الرحلة عن السيئ فيه هي الصيام.
لنترك الخُلق السيئ بكل أنواعه، ولنترك السلوك السيئ بكل أنواعه، ولنترك الشذوذات بكل أنواعها.
والأداة التربوية في الرحلة إلى الحَسَن، والترويض على الطاعة، وفعل الخير، هي القيام.
قال صلى الله عليه وسلم:
(إن رمضان شهر افترض الله عز وجل صيامه وإني سننت للمسلمين قيامه)
فهل الصيام هو مجرد ترك للطعام والشراب وشهوة الغريزة، أم أنه عنوان كبير على مضمونات الرحلة عن السيئ.
وهل القيام هو عبادة ليلية عابرة شكلية، يبحث الناس فيها عن الأئمة الذين يُصلِّون عشرين ركعة في ربع ساعة، لأن لديه برنامج طويل، هو برنامج ما بعد التراويح، فالتراويح باعتباره الشخصي وبقناعاته واجب يجب أن يؤدِّيه،.. ويؤنبه ضميره إذا لم يفعل ذلك..!
وما عَرَف أن هذا الليل كله في رمضان هو للترويض على الرحلة إلى الحَسَن، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر تدريبٌ على الرحلة إلى الحَسَن، ومن طلوع الفجر إلى غروب الشمس تدريب على الرحلة عن السيئ.
لهذا قالوا: شهر رمضان ظرفٌ لا يَسعُ غيره.
يعني لا يوجد فيه شيء آخر إلا التدريب على الرحلة عن السيئ، والرحلة إلى الحَسَن، في الليل والنهار، فمن لم يَكُن كذلك فما دخل دورة شهر رمضان.
وحينما تذكر لفظة القيام، يقف الإنسان بعقله عند مفهوم الصلوات المُكرَّرة، ركعتين ركعتين..!
والقرآن عندما يُكرِّر لفظ القيام، يكرره في كل سلوك حَسَن.
{وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127] العناية باليتيم.
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14] الدعوة سمَّاها الحق سبحانه قيامًا، حين تكون في الوسط الجاهلي، فتخرج لتُبدِّد الظلام.
وكرر هذا في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بعدما ذكره في حق فتية الكهف، قال سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] أي تجمَّعوا على حربه ومناهضته.
وقال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]
أي فليكن سلوكُكُم متوازنًا، فيه العدالة، ليس فيه إفراط ولا تفريط.
وقال سبحانه:
{وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأشار إلى معنى الطاعة مُطلقًا، بكل أنواعها.
هذا هو القيام.
فالصيام ترك لكل سيئ، والقيام فعل لكل حسن، والركيعات التي نُصلِّيها{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} هي نموذج، ولكن ماذا بعدها؟
هاهو مشروع شهر رمضان يأتي، وها هي صناعة الحضارة، والتربية للفرد وللجماعة...
لكن السؤال: هل سنصوم وهل سنقوم؟
هذا هو السؤال: هل سنصوم بهذا المعنى، وهل سنقوم بهذا المعنى؟
وحين ستكون لنا حضارة، لن يتجرأ الآخرون علينا.
لو أن هذا المشروع الحضاري التربوي حصل، لن يتجرأ الآخرون علينا، حتى وإن ساءت أخلاقهم في الغرب، سيحسبون لنا ألف حساب، لأننا صِرنا أصحاب حضارة، أما بقاؤنا بعيدين عن العِلم وعن العمل وعن السلوك المتوازن، ملتصقين بشذوذاتنا، فسيدفع الآخرين كل يوم ليشتموا مُقدَّساتنا، ويتجرؤوا على أعظمها.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل من هذا الشهر الكريم المبارك شهر خير لنا، ونهضة ورجوع إليه وتوبة وأوبة، نسأله سبحانه وتعالى أن يُنبِّهنا إلى أسراره وأنواره، وأن يجعلنا فيه من المقبولين.
أقول هذا القول واستغفر الله.
|