الخيرية الكامنة في المحن
ربما يكون الإنسان في حالة الاسترخاء، فلا يألف إلا الرخاء، وينسى واجب إنسانيته، ويغفُل عن وظيفته في الكون، ويتساوى مع الأنعام، ثم يكون الأَضلَّ منها، فتأتي عناية الله سبحانه وتعالى به، تُنبِّهه وتُوقظه وتُخرجه من استرخائه ذاك، وتُبدِّل عنه حال الرخاء، فإذا كان صاحب استعدادٍ طيِّب ٍومعدِنٍ طاهر، يفهم معاملة الله تعالى تلك، فتعود المِحنة عليه بالخير، لأنه يستيقظ من رُقاده، ويتذكر واجبه ووظيفته، أما إذا كان خبيث الطويَّة، كَدِر الباطن، غافِلاً مُغفَّلاً، مُصِرًّا على أن يُساوي نفسه بالأنعام، لا همَّ له إلا أن يأكل أو يفترس أو يَظِلم أو يبغي، فمثلُ هذا لن يُفيده الدَرْس، ولن يفهم فيه معنى المعاملة مع الله سبحانه وتعالى.
فما كُل ضررٍ ظاهرٍ شرًّا محضًا، فكم من شِدَّةٍ أو مِحنة غيَّرت الأحوال وبدَّلت الرجال.
وإذا كنتَ قارئًا مُتدبِّرًا لكتاب الله تعالى، فإنك ستلاحظ في مواضع كثيرة تكرار هذه السُنَّة وتأكيد هذه الحقيقة.
ألم يُخاطب ربُّنا سبحانه وتعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، يوم خرجوا يُخطِّطونَ لغنيمةٍ عاجِلةٍ، وعِير قريش في الطريق بين مكّة والشام، وخرج المصطفى صلى الله عليه وسلم بعَددٍ يفوق عَدد العير، وبعُدَدٍ لا تستطيع العِير أن تواجهها أبدًا.
خرج صلوات الله وسلاماته عليه بما يزيد عن الثلاثمائة رجل، ليَغنَم مال قافلة، فانقلبت المعادلة، وهيَّأ الله سبحانه وتعالى بتدبيره هروبًا لتلك القافلة، وجاء عوضًا عنها جيشٌ للعدو مُدجَّجٌ بالسلاح، فخاطب الله سبحانه وتعالى هذا الجَمْع الكريم في القرآن الكريم، يقول له:
{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} كُنتم تطلبون المَغْنم من غير إثخانٍ وقَتْل، وشِدّة ومِحنة، ومن غير تقابل مع جيشٍ مُدجَّج بالسلاح في العَدد والعُدد.
ويضع الله سبحانه وتعالى تلك الثلّة الطاهرة المُطهَرة في شدّةٍ ومِحنةٍ مفاجئة.
{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} يريد الله سبحانه وتعالى أن يُبيّن أن النصر للحقِّ لا للعَدد، وأن التفوّق للصدق والموافقة لأمر الله سبحانه وتعالى لا للعُدد.
إنَّ الله سبحانه وتعالى أمر هذه الأمة بالإعداد، بقوله:
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} لكنه ما جعل هذا الإعداد عِلّة نصر، لكنه جعله عِلّة إخافة.
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]
وقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم}
فلم يتجاوز في التكليف استطاعة الإنسان.
ويوم تَفرَّق المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُنين، ولم يبق معه إلا عدد الأصابع من الرجال، وانقطعت الأسباب، وأغار عليه صلى الله عليه وسلم ألفان، كلهم يريد قتله صلى الله عليه وسلم!
في مثل هذا الحال وهذا الوقت ما الذي يملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
تكليف الإنسان مختصره أن يكون باطنه مُعمَّرًا بالإيمان، وأن يبذل في ظاهره ما يستطيع.
فإذا تعمَّر القلب بالإيمان، وتعمَّر البدن بالعمل الصالح الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، ثم بَذَل الإنسان ما يستطيعه في الإعداد المادي، تكون الغَلَبة للحق ولأهل الحق بحسب سُنّة الله سبحانه وتعالى في كونه.
لو أن شخصًا جاء يُقاتل شخصًا آخر، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا، وهو قريب من التراب، أو الرمل، أو الحجارة.. لن يجد نفسه إلا وهو يُمسك الحجارة أو الرمل أو التراب ليضرب به عدوّه، هذا ما يستطيعه.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف يغفُل عن مثل هذا الإعداد الصغير، وهو يُقابل ألفي فارس، فأمسك صلى الله عليه وسلم بيده حفنة من الأرض فضرب بها وجوههم، وتحولت بأمر الله كلُّ ذرّة إلى ما يُشبه القنابل العنقودية، وإذا الألفا فارس يهربون، فما الذي حصل.. وأي سلاح استُعمل حتى فَرَّ الألفان..!
وقال تعالى:
{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ} [آل عمران: 160]
لكن {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ}
إذًا ثمةَ فعلٌ ربّاني اسمه النصر.. وقد جعل الله سبحانه وتعالى له مقدِّمات، فقال سبحانه:
{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]
فإن كُنّا على مستوى السلوك الفردي ننصر الله ينصرنا، وإن كنا على مستوى أُسَرِنا ننصر الله ينصرنا، وإن كنا على مستوى المجتمع ننصر الله ينصرنا، وإن كنا على مستوى مدارسنا ننصر الله ينصرنا، وإن كنا على مستوى جامعاتنا ننصر الله ينصرنا، وإن كنا على مستوى أسواقنا ننصر الله ينصرنا، وإن كنا على مستوى معاملاتنا الاقتصادية ننصر الله ينصرنا، وإن كنا على مستوى معاملاتنا السياسية ننصر الله ينصرنا..
وإذا نصرنا الله فلا غالب لنا.
{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}
إنه يضعكم في هذا الموقف الصعب، الذي لا تكافؤ فيه، في العَدد أو العُدد..
لا ينبغي لنا يا أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن ننبهر بما يُسوّقه الإعلام من قوة عدوّنا الصهيوني، وما يملكه من العتاد الذكي..
املكوا أنفسكم، فإذا ملكتم أنفسكم ستهزمون عدوّكم، وتذكّروا سُنّة الله المتكررة، فمثل هذا العدد الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع طالوت، يوم وقف أمام جالوت، فقتلَ جالوتَ داودُ الذي كان تحت إمرة طالوت، وقال لهم:
{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة: 249]
فإذا كُنت تستمد سلوكك من الله بإذنه، فإنك ستغلب بإذنه، وإذا كنت تخرج عن إذنه في سرّائك، فإنك ستُهزم بإذنه أيضًا..
إن كنت معه في سرائك، سيكون معك في ضرائك.
ها هي الحرب قريبة منّا، فما الذي تغيّر في مجتمعنا؟
نُطبِّل.. ونُزمِّر.. ونُثير الحماس.. ، وحتى وإن وقفنا بعض المواقف، ففتحنا بيوتنا وأنفقنا أموالنا..
لكن هل تغيّرنا، وهل تغيّر سلوكنا، وهل أعلنّا أننا جنود الله، وهل أعلنا أنّنا عبادُ الله، وهل أعلنا أنّنا بحاجة إلى تغيير جذري في واقعنا، أم أننا ما نزال نستهتر بأمر الله؟
إن الإنسان يريد الخير لنفسه من غير تعب، ولكن سُنّة الله تعالى تأبى، أن يظهر الخير إلا بعد شدة ومحنة.
وهذه السنة لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً..
لا تكون الولادة إلا بعد مخاضٍ فيه الدم، ولن تُولدَ نهضتنا وحضارتنا وكرامتنا وعزّتنا إلا بعد مخاض.
الولادة لا تكون إلا بعد مخاض، والربيع لا يكون إلا بعد شتاء فيه الرعود، وإن النصر لا يكون إلا بعد الاختبار.
وقال الله تبارك وتعالى:
{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}
فإذا جاء الاختبار قال الذين لا يملكون الإيمان: لا طاقة لنا اليوم بعدوّنا وجنوده.
وقال المؤمن:
{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ}
{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}
وكيف ستشهد على ما لا تعرفه، ومقام الشهيد هو مقام الشاهد.
{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]
ومن أسماء الله تعالى الشَهِيِد.
فإذا لم نقف على أرض العِلْم بالله، والثقة بالله، واليقين بالله، حتى نوقِنَ بما هو عنده في الغيب أكثر من يقيننا بما هو في أيدينا.. إذا لم نكن كذلك، كيف سنكون الشهداء..؟
أين نحن من هذا؟ أين الإعداد؟
هل الإعداد أن تتعلّم كيف تُطلق الرصاصة على العدو؟
وهذا في زماننا لا يَصعُب، لأن الحرب أصبحت حرب تقانة، وما أيسر أن يتعلّم الإنسان كيف يَقتُل.
فلم تَعُدْ الحروب في زماننا حروب شجاعة، لكن أين نحن من العِلْم بالله، وأين هي قلوبنا؟
كيف هو واقع مساجدنا، كيف هو واقع إخائنا، كيف هو واقع ترابطنا، كيف هو واقع معاملات بعضنا لبعض..؟
هل نعيش واقع ظلم بعضنا لبعض في السوق وفي المجتمع وفي السياسة، أم نعيش العدالة والمساواة، وتساوي الفُرص؟
{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 141-142]
بأي شيء تتعلّق يا أيها المسلم ؟ وعلى أي شيء تَحرِص، أتُراك تحرص على بعض متاع جمعته..؟
ما هكذا شأن أهل الإيمان.{وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73]
تَذكَّر سحرة فرعون، الذين قالوا لفرعون الطاغية:{وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
قُلها لكل طاغوت، و ظالم.
ولا تطمع في ظالم ولا من ظالم شيئًا.
أسقط من اعتبارك منافعك الشخصية، وكُن على الحق وإن فاتتك المطامع والمصالح، فعندها ستكون رجلاً.
{وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} رجل.. لا شِبْه رجل.
{يَسْعَى}وما يقعد.
{قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20-21]
وهذا هو وصف الدُعاة، فلما قتلوه قال:
{يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26-27]
هذه هي المنـزلة والمكانة في مقعد صِدق، لا في دنيا كذبٍ وغشٍّ وخداع.
على أي شيء تَحْرِص وحياتك ذُلٌّ، وكلُّ ما يحيط بك هوان؟
عِش كريمًا، وإلا مُت شهيدًا، فإن لم تكن كذلك، فما الذي يُفرِّق بينك وبين الأنعام؟
سُنّة الله في خلقه، أنَّ الخير لا يأتي إلا بعد شِدّة ومِحنة.
واقرؤوا في سورة القصص:
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [القصص: 4-5]
فأفهمنا أن المِنَّة لم تَرِد حتى ذُبِّح من ذُبِّح، وحتى نزلت الشِدّة والمِحنة.
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 4-5]
وحين أراد الله سبحانه وتعالى أن يُظهر فضل الصدّيقة عائشة، وأن يُبرهِن على ما قاله فيها رسول الله:
(فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى سَائر النّسَاءِ كَفَضْلِ الثّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطّعَامِ)
حين أراد أن يُبرهن على فضلها، أوقعها وحدها، وما أوقع غيرها من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك العصيبة.
وقال الله سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: 11]
وهكذا يستطيع الإنسان بمنظور الإيمان أن يقرأ معنى الخير الذي هو: ما زاد نفعه على ضرره.
وأن يفهم معنى الشر الذي هو: ما زاد ضرره على نفعه.
إذا استطعت أن تقرأ في كل الأشياء هذه المعادلة، ستَصِل إلى جواب على كل سؤال: هل هذا خير أم شر؟.
والله سبحانه يقول حادثة الإفك خير.
عائشة رضي الله تعالى عنها، التي كان يُحبُّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليست مجرد عائشة الحسناء الصبيّة البِكْر.. التي يحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنها فَرعُ أبي بكر الصديق، وقد سئل: من أحبُّ الناس إليك. قال: (عائشة) قالوا: من الرجال. قال: (أبوها).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُوزَن بموازين الجِنس الخسيسة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعلّق بما تتعلّق به النفوس الدنيئة، ولم يكن حُبُّ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لعائشة الصِدِّيقة رضي الله تعالى عنها لذلك.
وكَذَبَ الذين يفترون عليها، وكَذَبَ الذين يُلحقون بها القصص الكاذبة.
والطريقة الاستشراقية الخبيثة، تريد تصوير النبي صلى الله عليه وسلم في صور الجِنس والغريزة.
لقد أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها كانت العَالِمة المُتعلِّمة الصادقة الوفية.
وحين غارت عائشة وقد أُدخلت إلى بيتها صَحْفَة من بيت ضَرَّتِها، أمسكت الصحفة وكسرتها، وتبسَّم صلى الله عليه وسلم، وهو ينتظر ما ستفعله عائشة بعد ذلك، لكنها رضوان الله تعالى عليها ما لبثت أن رجعت إلى قواعد الشريعة، وإلى الميزان التي تربَّت عليه، فاشترت صحفة وأعادتها إلى ضرتها، فهي لا تريد أن تكون الظالمة.
عائشة العالِمة الصِدِّيقة، التي كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أن يُمرَّض عندها، لما يجده فيها من الأنوار، ولما يجده فيها من الأسرار.
هذه الصِدِّيقة عائشة ما ترقت إلى هذه المنـزلة، إلا بعد أن تعرَّضت للإفك، لذلك قال الله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
لأن العالمَ سيتلقّى إلى يوم القيامة ما يزيد على ثلاثة ألاف حديث ترويه عائشة من حُجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولابد أن يظهر للعالم أنها ركن عظيم من أركان الإسلام، لأنها ستروي جانبًا مُهمًّا في ديننا هو علم الأحوال الشخصية، الذي ترتكز عليه معاملات الأمة الإسلامية، فلابد من تزكيةٍ يكون المُزكِّي فيها هو الله، فقال:
{بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ولم يقل هو خير لعائشة، لأن الخير الذي خرج من تلك الحادثة، يعود على الأمة كلها، لأنها ستُحدِّثها بعلم لا يقدر أن يُحدّث به عمر، ولا أبو بكر، ولا عثمان، ولا أبو عبيدة، ولا سعد، ولا أبو هريرة..
وكانت المَرجِع حين يختصم الأصحاب.
إذًا فكل مِحنة بعدها مِنْحة، ولا يظهر الخير إلا بعد شِدّة.
والمخاض معه دم، والولادة لا تظهر إلا بعد مخاض، والربيع لا يظهر إلا بعد رعود الشتاء. فهذه هي سُنّة الله.
ويُوسف عليه الصلاة والسلام هو نموذج من النماذج التي تحكي أنَّ الخير لا يظهر إلا بعد الشِدّة.
تقول امرأة العزيز وهي ترى انبهار صواحباتها بيوسف عليه الصلاة والسلام، كما ينقل القرآن:
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ}
إنه ثَبَت عند مِحنة الانجذاب الغريزي، الذي لا يرضى الشرع به، والشرعُ فتح للإنسان قنوات من خلالها يستطيع أن يُنفِّذ رغبته، تقول:
{وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ}
(..وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إنّي أَخَافُ اللّهَ)
وما على وجه الأرض وقتَها ذاتُ منصبٍ وجمالٍ كامرأة العزيز.
{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}
كان يوسف عليه الصلاة والسلام ينظر بالمعادلة التي كنا نتحدث عنها.
الخير: ما زاد نفعه على ضرره. والشر: ما زاد ضرره على نفعه.
ويُقارن يوسف عليه الصلاة والسلام:
بقاؤه في قصر امرأة العزيز في مصر خير له في النتيجة، أم بقاؤه في السجن معزولاً..؟
إن تكرار مِحنة الغريزة، يُخوِّف يوسف.
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33]
فاختار يوسف مِحنة الظاهر لبدنه في السجن، التي هي مِنْحة لروحه وباطنه وتقواه ووصاله وقُربه ومحبته لربِّه.
بقاؤه في القصر فيه النعيم لجسده والشقاء لروحه، أما وجوده في السجن فإنه نعيمٌ لروحه وشقاءٌ لبدنه، والبدن زائل وسائر إلى فناء، أما الروح فإنها من الأمور السبعة الباقية، التي هي: العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار والروح.
الروح باقية، والجسد هالِك، فهل يعطي للزائل نعيمه، ويترك الباقي في شقائه أبد الآبدين؟
لا.. إنه عاقل يستعمل المعادلة بمصداقية مع نفسه وذاته.
ويا ليتنا نتعلّم كيف نستعمل هذه المعادلة في كل وقت، لنكون صادقين مع أنفسنا في كل نَفَس.
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي} [يوسف: 32-33]
أَحَبُّ إِلَيَّ} لأنني أرى أنه الخير الذي يزيد نفعه على ضرره، وأكره بقائي في القصر لأن ضرره يزيد على نفعه.
جاء جنود السلطان إلى العِزِّ بن عبد السلام الإمام الولِّي الفقيه، ووقف أولاده على الباب ينظرون من شقوق الباب، قالوا: لا تخرج، فإن جنود السلطان قد جاؤوا يريدون أخذك. فأسرع العزُّ بنُ عبد السلام ليفتح الباب، وهو يقول لأولاده:
لا تخافوا على أبيكم، فأنا لا أصلح لمقام الشهادة.
أي لا تظنوا فيّ الخير، فلست مؤهلاً بعدُ لمقام الشهادة..
هؤلاء هم الرجال الذي استعملوا المعادلة بمصداقية مع ذواتهم.
وقال الله سبحانه وتعالى وهو يصف الزلزال في غزوة الأحزاب:
{وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا}
لكن ما الذي كان بعد هذا الزلزال؟
إنها كانت آخر مِحنة في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تُغزَ المدينة بعدها أبدًا.
فكانت غزوة الأحزاب الحصن الحصين الذي أبقى المدينة المنورة مُحصَّنة إلى يوم القيامة.
وقال: لن يَرِدَ عدونا إلى المدينة بعدها أبدًا.
حتى الدجّال حين يظهر، فإن الله سبحانه وتعالى يعصم المدينة ومكة منه.
لأن المِحنة حصلت، ولأن الزلزال تم.
كانت غزوة الخندق المِحنة الخاتمة التي بها حُصِّنت المدينة إلى يوم القيامة، وشارك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل التراب، حتى اغبرّ بطنه صلى الله عليه وسلم، وأنشد من شِعر الأصحاب:
والله لولا اللهُ ما اهتدينا
فأنزلن سكينة علينا
إن الأَليَّ قد بغوا علينا
ولا تصدَّقنا ولا صلِّينا
وثبِّت الأقدام إن لاقينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
والألي: الكذّابون المخادعون الذي يُكثرون الحَلْف، ولا عهد لهم ولا ذمّة.
وحين كان صلى الله عليه وسلم يصل إلى قوله: (أبينا) كان يُعيده ويقول: (أبينا.. أبينا..) ليُعرِّفنا صلى الله عليه وسلم أن رسالته ليست رسالة حرب، إنما هي رسالةُ سِلم، ورسالةُ رحمة إلى العَالَم.
لكن الله سبحانه وتعالى علَّم هذه الأمة ألا تكون خانعة ذليلة حين يعتدي عليها عدوُّها، إنها لا تُصدِّر العدوان، لكنها تَصدُّ العدوان.
لكن ما الذي يحصل الآن.. يُعتدى علينا ونحن في هوان، وذلّ..!
لدينا جيوش مُجيّشَة، لكنها قد وضعت على السلاح غطاءً.
الجيوش العربية من المغرب إلى الخليج، قد وضعت على أسلحتها التي تراكم عليها الغبار ألف غطاء وغطاء..!
وهذا هو حال الأمة الإسلامية أيضا، لأننا فقدنا الترابط، وفقدنا الشعور بالأمة الواحدة، ونحن ننادي كل يوم في الصباح والمساء: أمة واحدة..!
لكن أين هذا الترابط على أرض الواقع، نعيش هوانا، ونعيش ذُلاً.
رسالتنا ليست رسالة عدوان، ونحن نُصدِّر الرحمة، ونُصدِّر القِيم، ونُصدِّر المبادئ، ونُصدِّر السمو الإنساني.. لكنَّ الذي يسكت على العدوان ذليل، يسكت على العدوان وقد أَذِن الله له أن يَرُدّ على العدوان؟
قال تعالى:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]
إنَّ أكبر مِحنة كانت للأصحاب، أنهم لبثوا طويلا لا يُؤذن لهم في ردّ العدوان، فكان يُعتدى عليهم، ولا يأذن الله سبحانه وتعالى لهم بردِّ ذلك العدوان.
كانت أكبر مِحنة وكانت تتنافى مع أخلاق العربي الذي لا يسكت على ضَيْم، فلما نزل قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] فرحوا فرحًا شديدًا.. وها نحن قد أُذن لنا منذ أكثر من أربعة عشر قرن، أن نَرُدّ العدوان، لكننا نتحدث عن التسامح، ونتحدث عن العفو عن المسيء، ونتحدث طالبين رحمة الجزّار للشاة، فينبغي عليه أن يُحِدَّ شفرته حتى لا يُؤلِم وهو يذبح..!
نقول: فليستأصل قيمنا .. لكن لا بهذا الشكل الشنيع، وهو يُخرِّب الجسور ويُهدِّم البيوت..!
إذا كان يريد أن يُنهي المقاومة في الأمة الإسلامية، فلا مانع لدينا.. لكن ليفعل هذا بطُرق مُهذَّبة..!
إذا كان يريد أن يذبح قِيم الأمة فليذبح.. لكن بنوعٍ من التحضُّر..!
وهكذا أصبحنا نُسَوِّق للجزار أن يذبح الشاة، لكننا نُوصيه أن يذبحها ذبحًا رحيمًا..!!!
أختم وأقول:
لا شك أن واجب الوقوف مع إخواننا في فلسطين ولبنان هو من آكَدِ الواجبات الشرعية.
فإذا كُنّا لا نستطيع أن نُساهم إلا في المال، فلنساهم، وهذا هو المُتاح الآن.
لكن أقول لشعوب العالم الإسلامي:
أنتم اليوم تساهمون بالمال، لكن تهيئوا للغد فستساهمون فيه بالنفس أيضا، لأن بلادكم لن تكون بمنأى عن العدوان.. فانتظروا.. وكل البلاد الإسلامية سيُعتدى عليها، وعندها سنقول:
(أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض)
أعداؤنا يسلكون سبيل التقطيع، ثم التهام فريستهم قطعة قطعة، لأنهم لا يستطيعون ابتلاعها دفعة واحدة.
إذا كنتم تتوهمون أنكم ستكونون بمنأى عما يحصل في فلسطين ولبنان، فارجعوا عن وهمكم.
إذا وقفتم مع إخوانكم المنكوبين، سيوقف معكم يوما ما، وإذا تركتم المنكوبين، ستُتْركون.
اللهم رُدّنا إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.
|