كيف يغير الإسلام الإنسان
حين غيَّر الإسلام في يوم من الأيام وجه العالم، لم يكن يملك ما يملكه الآخرون من المادة.
فلم تكن قوة المسلمين ولا ما يملكونه من المال والسلاح يقابل أو يعادل بعضًا مما كانت تملكه قوة الشرق وقوة الغرب.
ولا بد لنا أن نرجع إلى بعض النماذج التي تحولت وتغيرت لنفهم بعد ذلك السؤال:
لماذا لا نستطيع اليوم إحداث تغيير ظاهر لا في العالم بل ولا في مجتمعاتنا نحن؟..
عندما نرجع إلى أفرادٍ من الجيل الأول، جيلِ الإسلام الذي تخرَّج من مدرسة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، على سبيل المثال:
حينما نراقب شخص أبي عبيدة، عامر بن الجراح: نجد أنه شاب، ثم رجل حيي، شديد الرقة، شديد اللطف، ليس له ظهور واضح لشدة حيائه ورقته ولطفه، ثم نجده بعد أن دخل مدرسة الإسلام، يصبح فاتح البلدان، ويصير القيادةَ العسكرية العليا التي تُصدر الأمر، وتفتح الأمصار.
وخرج هرقل من سوريا وهو ينظر إليها ويقول: "سلام على سوريا سلامًا لا لقاء بعده".
قالها هرقل، بعدما أخرجه أبو عبيدة الذي يحمل بيده النور والعدالة، والحق، ويبعد عن الأرض الظلم، والبغي، وعبادة الإنسان للإنسان، فكيف تحول أبو عبيدة هذا الشخص اللطيف الرقيق الحيي إلى رجل يستطيع إخراج هرقل من بلاد الشام؟!.
وعندما ننظر إلى شخص كخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه: نجده قبل الإسلام شخصية لا تتجاوز القبيلة المحلية، فقد كان رجلًا شجاعًا في قومه، وشابًا مغوارًا لكنه لم يكن يتجاوز حدود القبيلة.. كان ينصر قبيلته في كل موطن، وعرف بالدهاء، والقوة، والشجاعة... لكنه لم يكن أبدًا ليصير الشخصية العسكرية العالمية التي تُدَرَّس في أعلى المعاهد العسكرية العالمية، إلا بعد أن دخل مدرسة الإسلام، وتخرج من جامعة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
وبعدها صار يلمع في الشرق وفي الغرب،(سيف الله المسلول) كما أطلق عليه رسول صلى الله عليه وسلم...
صار سيف الله في الأرض يجول فيها يمنة ويسرة، حتى ينتشر نور الله في الأرض، ويتحرر الإنسان من الرق: رقِّ نفسه، ورقِّه لأبناء جنسه،
صار ينشر العدالة، والحرية الحقيقية التي لا تكون إلا في العبودية لله وحده.
فكيف أصبح خالد هذه الشخصية العالمية المذهلة المدهشة؟. إنه سؤال آخر.
وعندما ننظر إلى شخص كسلمان الفارسي الذي كان يسكن قرية صغيرة في بلاد فارس وكان يتنقل في البلدان عبدًا رقيقًا يتنقل من مكان إلى مكان، يخدم في الأرض، ويزرع ويحرث، ويعتني بالأشجار ، فكيف تحول بعد أن دخل مدرسة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وتخرج منها إلى حاكم يحكم في مكان كسرى نفسه؟
وصار حاكم المدائن، عاصمة بلاد فارس في العالم، وهو في نفس الوقت يسكن الكوخ ويخرج بين الناس حاملًا متاعه على ظهره...
ارتقى إلى سدة حكم عاصمة كسرى وبقي كما تربّى في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا لله لا تغريه مشاهد الحكم، كيف تحول من عبد رقيق إلى حاكم لعاصمة كسرى؟!!
ماذا نفعل نحن الذين نمتلك ما نمتلكه من العلوم والمعارف و ما لا نهاية له مما يمكن أن يُذكر.
وعندما ننظر إلى شخصية كزيد بن حارثة الذي هو عبد رقيق أيضا عند خديجة وقد قدمته هدية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم...
إنه عبد يباع ويشترى ثم نجده بعد ذلك يدخل مدرسة الإسلام، ويتخرج منها ليكون قائد جيش مؤتة الذي فيه ابن عم رسول الله القرشي الهاشمي جعفر بن أبي طالب، والذي فيه البطل المغوار خالد بن الوليد، ويكون هذا العبد الذي كان في يوم يُباع ويشترى قائد جيش مؤتة، فيأتمر بأمره خالد، ويأتمر بأمره جعفر الهاشمي القرشي الذي هو من عائلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الحاكم الأعلى في الأمة وابن عمه مأمور يأتمر بأمر من كان عبدًا يباع ويشترى.
إنها قضية ينبغي أن لا تمر على العقلاء دون دراية ودراسة.
وعندما ننظر إلى شخصية عمر بن الخطاب:
عمر الذي كان شابًا يرعى الإبل لأبيه الخطاب، وحين كان يخطئ في رعيها ينتهره أبوه الخطاب...
هذا الشاب الذي يحب أن يفخر بأنسابه، وعشيرته ويحب أن يعتد بشبابه، نجده في عمر السابعة والعشرين يدخل مدرسة الإسلام، وإذا هو يصير شخصية أخرى تتخرج من مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقرأ ويقرأ التاريخ فيها العجائب، ويصبح أول من أرَّخ لهذه الأمة، ويكون صاحب العبقرية العظمى فينظم دولة الإسلام، وينشئ الدواوين، ويستقضي القضاة ويجعل في البلدان الوظائف، ويجعل في كل مدينة قاضيًا، ويصرف بأمره وفق نظام عظيم في المحاسبة للموظفين ما يستحقونه من الرواتب..
صار شخصية ترحم العجوز العمياء وتقوم بخدمتها، وبات يسير وهو خليفة المسلمين في طرق المدينة يتفقد شؤونها في الليل..
وهو أول من قام في دولة الإسلام بهذه الوظيفة (وظيفة العسس) أي الشرطة الذين يتفقدون حال الأمن في ليل المدينة، وقام بها بنفسه.
فكيف غير الإسلام هذه الشخصية؟ وما الذي صنعه الإسلام؟..
راعي إبل وشاب يتفاخر بنفسه ويعتد بشبابه يتفجر فجأة عبقرية وقيادة وحنكة وحكمة وفهمًا وعلمًا، ويصبح المرجع في فقه الإسلام ونظامه، ويسن للأمة سننًا!
وصلاة التراويح التي نحن الأمة الإسلامية عليها اليوم هو الذي سنها جماعة، وبقيت سنته هذه إلى اليوم وستبقى إلى يوم القيامة!
أما البلاد التي فتحها عمر فيُدهش الإنسان، وهو يرى سعتها فهو قد فتح الشام كله، ففتح بعلبك، وحمص، وقنسرين، وحلب، وأنطاكية، واليرموك، وبصرى، ودمشق، وبيسان، وطبرية، والجابية، والرملة، وعسقلان، وغزة، ويفتح سواحل المتوسط الشرقية كلها، ويتوجه إلى سواحل المتوسط الجنوبية، فيفتح مصر، ويفتح الإسكندرية، ويفتح طرابلس الغرب في ليبيا، ويفتح برَقة، ويتوجه إلى المشرق والشمال بأمره الخطي، فيفتح الجزيرة، ويفتح حران، ويفتح الرها في الشمال، ويفتح الرقة، ويفتح نصيبين، ورأس العين، وديار بكر، وديار ربيعة، ويفتح الموصل، ويفتح بلاد أرمينية...
ويفتح العراق وبلاد فارس، فيفتح القادسية، ومدائن كسرى، والحيرة، والبصرة والأهواز، ونهاوند، وهمذان والري وخراسان، وأصبهان، ونيسابور، وأذربيجان...
فما الذي حصل، وما الذي حول راعي الإبل، الشاب المعتد بنفسه ؟.
عندما تحدث معاوية مقارنًا قال: أما أبو بكر رضي الله عنه، فلم يرد الدنيا، وأما عمر فأرادته الدنيا ومع ذلك لم يردها.
أبو بكر رضي اله عنه أعرض عن الدنيا ولم تكن الدنيا في زمنه مقبلة، وعمر أقبلت عليه الدنيا وأرادته الدنيا ولكنه أبى ولم يردها.
ثم يقول معاوية: أما نحن فتمرغنا فيها ظهرًا لبطن.
وينقشُ عمر على خاتمه عبارة، فكلما نظر إلى خاتمه قرأها: "كفى بالموت واعظًا يا عمر" إنه لا يكتب: الملك العظيم عمر، ولا يكتب: القائد الأعلى عمر، إنما يكتب على خاتمه: " كفى بالموت واعظًا يا عمر".
ويكون معه أنس فيدخل حائطًا ليقضي حاجته وهو خليفة للمسلمين فيسمع أنس من وراء الحائط، عمر وهو يقول: "عمر أمير المؤمنين!! بخ بخ والله لتتقين الله بُنَيَّ الخطاب أوليعذبنك".
إنه يُصَغِّرُ ابن الخطاب إلى بُنَيّ، وكأنه يقول لنفسه أيها الصغير الذي لا شأن له: "والله لتتقين بني الخطاب أو ليعذبنك".
ويحمل في السوق قربة على كتفه وحينما يسأل: لم تفعل هذا، يقول: "إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها".
وحينما جاع الناس في عام الرمادة جوعًا شديدًا بسبب الجدب والقحط امتنع عن أن يأكل إلا الخبز والزيت، وهو خليفة المسلمين، وأمير البلاد التي تحدثنا عنها، فيسودّ جلده من الجوع.
وحينما يُسأل يجيب: "بئس الوالي إن شبع والناس جياع"
إنها كلمة ينبغي أن يضعها كل مسؤول أمام مكتبه.
ينبغي أن توضع هذه اللوحة في عنوان مشروع إصلاح الفساد الذي نزعم أننا نتحرك إليه لكن كما تتحرك السلحفاة.
وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء.
ويسمع عمر بكاء صبي فيتوجه إلى أمه معاتبًا ويقول: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ولكنه يبقى إلى آخر الليل يسمع بكاء الصبي فيأتي إلى أمه ويقول: ما لي أرى ابنك لا يقر من البكاء، فتقول: يا عبد الله إني أشغله عن الطعام فيأبى، فيقول: ولمَ؟ فتقول: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم، فأريد أن أفطمه حتى ينال عطية عمر.
أتعجل الفطام لأنال العطية له.
فيسهر عمر طول الليل باكيًا ويذهب إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه إمامًا فلا يستطيع الناس أن يفهموا ما يقرأه في صلاته من كثرة بكائه، وعندما ينتهي من صلاة الفجر يقف فيقول: بؤسًا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين !
ثم يأمر مناديه أن لا تعجلوا بصبيانكم عن الفطام، فإنا فرضنا عطية لكل مولود في الإسلام منذ ولادته.
ويرى امرأة في حرة المدينة ومعها صبيانها تعللهم وهي تضع أمامهم قدرًا فيه الماء، وتوهمهم انتظار نضج الطعام وليس في القدر إلا الماء.
ويسألها عن الأمر فتقول: الله بيننا وبين عمر.
فيبكي عمر ويهرول ويأتي بعِدل من دقيق، وكيس مملوء بالشحم يحملهما على ظهره، فيقول خادمه ومولاه له أنا أحمله عنك فيقول له: لن تحمل عني وزري يوم القيامة.
كل هذه الأمثلة، أبو عبيدة، خالد، سلمان، زيد، عمر، ما سر تغيرهم، ماهو السر الذي ظهر فيهم؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نسأل أنفسنا عنه، يا أيتها الأمة التي عاطفتها قوية لكنها لاتتغير ولا تغير.
سؤال ينبغي أن نسأل أنفسنا عنه.
القرآن بيننا، وسيدنا محمد عليه الصلاة و السلام بكل معانيه وبكل دقائق حياته موجود بيننا.
هل تنقصنا المعلومات؟.
الله سبحانه وتعالى الذي خلقهم وأيدهم وأنزل الملائكة تأييدًا لهم هو هو لم يتغير، وهو ربهم وربنا فما الذي حصل، وما هو السر؟
إنه سؤال ينبغي أن نسأله مرات ومرات، وأن لا نتعجل بالإجابة عليه.
لكنني في كلماتي ربما أضع بعضًا من الجواب، فالسؤال كبير والجواب عنه أكبر منه.
أولًا: كان قرارهم حينما دخلوا تلك المدرسة مدرسة الإسلام أنهم منذ دخولها لن يكون مصدر سلوكهم هواهم، ونزعات نفوسهم، بل أصبح مصدر سلوكهم أمر الله، فهي حالة الانتقال من الجهالة البشرية إلى العلم، المستمد ممن علم الإنسان.
(قْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)العلق:[ 2-4]
فالإنسان هو بحاجة إلى تعليم الله.
وهواه ورغبته الذاتية لا تُخرجه عن الجهالة البشرية، فلا يخرجه عن الجهالة البشرية إلا تعليم الله تعالى له.
لماذا نجعل رسالتنا رسالة الدعوة لا رسالة التحزب؟.
لأن التحزب هو صراع مصالح، وأما الدعوة فهي رسالة هداية إلى كل بني آدم، كبيرًا كان الإنسان المدعو أو صغيرًا، مسؤولًا حاكمًا أو محكومًا.
والتحزب لا يسوق إلى هذا، إنما يحدد الخطاب ويقيده.
وشتان بين قادة الأحزاب وبين من يدل الناس على الله الواحد الوهاب.
ألم يقل ربعي الذي تخرج من نفس المدرسة: "أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد" لكن إذا لم يكن الإنسان متحررًا فكيف يحرر غيره؟
إذا كنا نعاني من رق نفوسنا، وأزمة أهوائنا فكيف لنا أن نغير، وفاقد الشيء لا يعطيه؟!
ثانيا- ألا تلاحظون أنهم انتقلوا من التفاخر الأناني إلى حرية العبودية لله سبحانه وتعالى؟
تخاف من فلان؟ وتحسب الحساب لفلان؟ وتطمع في فلان...
ماذا لو مات فلان وهلك، من الذي حركه، من الذي أيدك به؟...
حينما تعلم أن الجميع عبيد لله، فتربط شؤونك به وحده عندها تعيش حالة الحرية، عندها لا ترجو المُحَّركَ إنما ترجو المُحرِّك.
لماذا تعيش أسر الرغبة والرهبة، لأنك بقيت مع الدمية المتحركة بأمر محركها، ولو أنك وجهت قلبك إلى المُحَرِّك لتخلصت من رقِّ الدمى، ورحم الله من قال:
أُرانيَ كالآلات وهو محركي
أنا قلمٌ والاقتدارُ أصابعُ
إن الذي حركك حركهم، وهو على كل شيء قدير، فلو أنك وجهت قلبك إليه بصدق، وتحررت من كل رق، عندها تنطلق من القيود التي تقيدك يمنة ويسرة.
وهو سر تحول الأخلاق.
فالصدق الذي هو نتيجة التحرر هو سر تحول الأخلاق.
فيتحول الإنسان من التفاخر إلى العبودية، ومن الجبروت والكبرياء إلى الرحمة، ومن الحرص إلى التضحية.
تعالوا نقرأ نصًا يتحدث عن هذا الجيل في كتاب الله، فأحسن من يصف هذا الجيل ربه، إنه سبحانه يصف المهاجرين والأنصار، واقرؤوا في سورة الحشر:
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8]
لماذا أخرجوا من ديارهم وأموالهم؟
ألم يكن كل واحد منهم يستطيع أن يداهن، وأن يجامل وأن يتنازل عن بعض الثوابت، فيبقى في داره وماله؟
والإنسان اليوم يعبُد داره وما فيها وماله وما ينتج عنه.
إن الأصحاب أخرجوا من ديارهم وأموالهم، لأنهم رفضوا العبودية لغير الله، وتمسكوا بالمبدأ الحق، وتحركوا من خلال إيمان صادق وحقيقة في بواطنهم.وهذا هو امتحان.
اليوم نحن نعيش حالة غريبة نقول فيها: ما أحسن دروس السيرة والعقيدة والتفسير بشرط، نحبها بشرط بقاء مصالحنا، وبشرط أن لا نخسر شيئًا.
نقول: نريد أن نربح فعلمونا وفقهونا، وما أحلى مجلسًا فيه التعليم، ونفهم فيه القرآن، ونتعلم الأحكام بشرط أن لا نخسر شيئًا، فإذا كان ما نفعله ينتج خسارة لا تجد في الساحة أحدًا.
فنحن نريد القرآن بشرط، ونريد سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام بشرط.
لو قيل لك بيتك الذي صار ملكًا لك، ولديك سند أنك تملكه، وأموالك وثروتك ستُخرج عنها، وستُخرج منها، في مقابل مبدئك ماذا تقول؟ إنه امتحان.
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)
من في هذه الأمة اليوم يستطيع أن يجتاز هذا الامتحان حين يسأل نفسه ذلك السؤال؟ مبدؤك أم بيتك الذي تحبه؟
مبدؤك أم مالُكَ الذي تعبت سنوات طويلة فيه؟
الغالب يقول لا.. لا.. أريدهما معًا!!
يقول: نلتزم الحكمة، ونفعل ما بوسعنا، ويأتي بالأدلة (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)، وكأن الله سبحانه وتعالى حين وصف ذلك الجيل ليس هو الذي قال:
(لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)[البقرة: 286]
ألغينا كلمة النفاق، ووضعنا بدلًا عنها الحكمة، وننافق باسم الحكمة، ونداهن باسم الاتزان، ونجبن باسم الحلم، ونخاف باسم الوقار، ونخدع أنفسنا ونحن نتوهم أننا على حق.
هذا السؤال هو الأول الذي أوجهه إلى كل أمتنا: من منا يضع المبدأ في كفة، وداره وماله فيرجح المبدأ في الكفة الأولى على داره وماله ؟.
وغالبيتنا يفشل فيه.
وبعدها جاء وصف ذلك الجيل الأول بقوله تعالى:
(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ).
وهنا الآية القرآنية تعالج القضية بعمق، وتُرجعك إلى المعطي أصلا، فمن هو الذي أعطاك دارك ومالك؟.
تستطيع أن تخرج من الدار والمال إذا فهمت أن الذي أعطاك الدار والمال هو الله لا أنت.
وحين وقفنا مع توهم أننا الذين أحضرنا المال والدار تمسكنا بالدار والمال، وحينما تغيرت المعادلة لدى ذلك الجيل فرأى أن الذي أعطاه المال والدار هو المتفضل سبحانه خرج يبتغي فضلًا من الله لأن الذي أعطاه هناك يستطيع أن يعطيه في الوقت الذي يشاء ثانية وثالثة، ويستطيع أن يعطيه أضعافًا مضاعفة.
(يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)[البقرة: 276]
(كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء) [البقرة: 261]
إنهم (أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ) فأعداء الله أخرجوهم لكنهم في التفاعل الإيجابي مع القضية يبتغون فضلًا من الله، لأنهم ما تركوا إلا لله.
(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ).
(وَرِضْوَانًا)
فلا يكفي أن يطلب الإنسان حينا يتخلى ويخسر التعويض المادي من الله تعالى، بل عليه أن يلاحظ أنه ما ترك إلا ليرضى الله:
(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)
فهو قد ترك لله من أجل أن يرضى الله.
(وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
فالواحد منهم لا يريد نصر نفسه، ولا يريد نصر مزاياه، إنما يريد نصر الله ورسوله، يريد للحق أن يعلوَ ولو كان على حساب نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتصر لنفسه ولكنه كان يغضب لله.
(أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8]
فهؤلاء هم صنف المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة المنورة، من مكة ومن غير مكة.
وسر صدقهم قد أنتج ذلك.
ثم وصف الصنف الآخر الذي هو صنف الأنصار، الذين لم يخرجوا من أموالهم، وديارهم فقال:
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)
فصار الإيمان مسكنًا لهم، وصار بين الدار والإيمان اتحاد.
ألم يرد في قصة موسى عليه الصلاة والسلام:
(وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)[يونس:87]
فاتحد الإيمان مع الدار، وحين اتحد الإيمان مع الدار صارت أهلًا لنـزول المختار، فاختارها الله تعالى له، فهي أهل لنصرته، وعندما يكون الإيمان متحدًا مع الدار لن تستطيع أن تمسك شيئًا في الدار عن الله إذا طلبها الله، فكأنه خرج من الدار مع أنه لم يخرج،لأن الإيمان اتحد بتلك الدار.
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ)
يعني في المسكن، فالمهاجرون وصلوا بعد وصول الأنصار إلى تلك الدار، لأن الأنصار وصلوا إلى المدينة أولًا، وسكنوها.
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)
وهذا الوصف فيه فناء الأنانية، ويستحيل أن يحصل التحابب بين أفراد المسلمين مع وجود الأنانية، فإذا لم يخرج الإنسان عن الأنانية لا يحب إلا نفسه، وإذا خرج عن الأنانية يستطيع أن يحب أخاه.
إننا لا نتحابب على مستوى المعلمين، والمدرسين، والمتعلمين، وطلبة العلم الشرعي، والقيادات، والأذيال....
فالكره هو الأصل بيننا اليوم، وكل يحفر حفرة لأخيه...
فُقد جانب الحب، والتماسك، وابتعد مفهوم الأسرة الإيمانية الواحدة في المجتمع، وهذه المفهومات أصبحت بعيدة.
(وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي المهاجرين ولا يعطي الأنصار، كانت المغانم تأتي فيعطي المهاجرين، يا سبحان الله!!
هل قال الأنصار: نحن أعطيناهم بيوتنا، وأعطيناهم أموالنا؟
إنهم كانوا يشاطرون المهاجرين أموالهم فيعطي الأنصاري المهاجريَّ نصف ماله، يعطي نصف الثروة للمهاجري، فيعطيه نصف بيته، ويعطيه نصف ماله، وفوق هذا تأتي الغنائم فلا تقسم بين الأنصار والمهاجرين بل تعطى للمهاجرين فقط!!
ومع هذا لا يجدون في صدورهم حاجة، يعني لا تتحرك نفوسهم لتقول: أبَعد كل هذا الذي فعلناه لا نُعطى؟
إنهم تعلقوا بالله فخرج حب الأشياء من قلوبهم، وكان الأمر عندهم سيّان.
خيَّرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تشاطروا في الغنيمة المهاجرين وتبقى لكم حصة الثمر وحدكم، فقالوا: لا يا رسول الله، الغنائم للمهاجرين ونشاطرهم في الثمر، الثمر بيننا وبين المهاجرين مناصفة، والغنيمة لهم.
هذه أمة تستطيع أن تفتح الشرق والغرب.
أما نحن فأمة مهزومة من الداخل... مهزومة من داخل النفوس، مهزومة في الأخلاق، فأين هي تضحيتنا، وأين هو الإنسان الذي يحمل تلك القيم؟
لا تعيبوا على أمريكا، ولا تعيبوا على أصحاب المصالح الصهيونية، ولا تعيبوا على أصحاب المناصب.
إننا لا نتحرر من نفوسنا، فكيف نتحرر بمساعدة من هو عبد لمصالحه.
إذا المشكلة فينا نحن.
(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)
فكان الأنصاري يجوع ليشبع المهاجري.
(وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)
حرصه، وبخله، وأنانيته (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]
فوصف الله سبحانه وتعالى المهاجرين بأنهم هم الصادقون، ووصف الأنصار بأنهم هم المفلحون.
صنف الصادقين يعضده صنف المفلحين، فاجتمع صنف الصادقين مع صنف المفلحين، وما أفلحوا إلا لأنهم خرجوا عن نفوسهم إلى الله.
ويأتي من يقول هذا جيل اجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تأتي لتحدثنا عنه...إنه سر الصحبة ويكفيهم أنهم اجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ورباهم رسول الله.
وتعود القضية ثانية نريد إخراجها عنّا وكأننا ننتظر أن يأتي مرة ثانية سيدنا رسول الله أوأن يأتي من نرى بأعيننا أنه مشابه تمامًا لرسول الله، وربما يكون من ينوب عن رسول الهل صلى الله عليه وسلم بيننا..
لكن ألم يُعرِضِ المنافقون عن رسول الله؟
ألم يعرض المشركون عن رسول الله؟
إذا المشكلة هي في النفوس، إننا نخرج المسؤولية عن أنفسنا لنقول السر هو في الصحبة، ولذلك قال الله تعالى في هذا النص القرآني الذي اخترته لكم بعد تلك الآيات:
(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ)
وهذا النص القرآني يعم كلَّ من دخل في مدرسة الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأنتم يا أمة الحبيب المصطفى كلكم مندرجون في هذا الخطاب.
(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ)
وأنتم جئتم من بعدهم.
(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ) هو الصنف المنتظر.
(يَقُولُونَ)
وهذا دواء لنا، والآن في هذه الآية يوصِّف الحق سبحانه وتعالى النخبة التي يمكن أن تكون مغيِّرة كما غيَّر ذلك الجيل الأول:
(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)
وأفهم منها أن العلاج لن يكون إلا حين نجعل شعارنا (أن يغفر بعضنا لبعض) ولئن كان الجيل الأول تميز بما سمعناه، فالأخطاء من غير شك ستكون في الأجيال اللاحقة، ولن نكون قطعا على مستوى الأداء الذي كانوا عليه، فينبغي أن يكون شعارنا (أن يغفر بعضنا لبعض)، و(أن لا نستخف بمن كانوا من ذلك الجيل قبلنا).
فهما شرطان:
الشرط الأول: أن لا ندعي أننا سنجدد ونطور ونأتي بالدولة الحديثة لنفصل الإسلام عن الدولة، ونفصل الدين عن الواقع.
وهذه دعوة يرفعها من لا يملكون اليوم نظامًا وقانونًا في دينهم.
نحن نملك تفصيلا في ديننا، في كل مجالات الحياة، بقانون مرن متطور فيه الاجتهاد والاستنباط.
الذين لا يملكون إلا أن يقولوا للناس انشروا المحبة، نقول لهم: هاتوا ما عندكم من القانون، وأعطونا ما عندكم من التشريعات.
فيقولون لا.. لا..
نحن قررنا أن نفصل الدين عن الحياة.
أنتم ما قررتم، بل لا يوجد لديكم ما هو عندنا من القانون الرباني المفصل في كل شيء، تعالوا حتى ندرس هذا القانون الإلهي، وتعالوا حتى نقارن هذا القانون الرباني بالقانون الوضعي.
سنجد تفوقًا على كل المستويات، على المستوى الحقوقي، والقضائي، وعلى مستوى الأحكام السياسية السلطانية والاقتصادية.
فلتفتح ندوة مفتوحة في العالم في المجتمع الإسلامي أو خارج المجتمع الإسلامي تقارن بين القانون الرباني والقانون الوضعي، ولتفتح الحوارات الواضحة الصريحة.
هاتوا قانونكم الوضعي الذي يستند إلى رأي الإنسان وتعالوا لنقابله مع قانون ربنا، الذي يقبل الاستنباط والاجتهاد.
لماذا يحارب الإسلام اليوم ؟
لأن المصالح تريد البقاء، إنهم يقولون الأرض قرية عالمية، ويعنون قرية عالمية مستعمرة.
فهذه هي الأكذوبة الجديدة، أنتحدث عن المجاعات، أم نتحدث عن القتل، أم عن التدمير، والخراب، أين الإنسانية، وأين السمو، وأين الرقي؟
إنه مفقود، ونحن نعيش كذبًا إعلاميًا.
يحارب الإسلام، لأنه يراد تغييب الحق، ويراد أن يغيب عن عقول الناس وجود تشريع رباني يغطي كل جوانب الحياة.
والذين يطرحون اليوم بكثرة مقولة: افصلوا الدين عن الواقع وعن الحياة، ابحثوا عن أصولهم، ومنطلقاتهم، إنهم يريدون تكرير تجربة أوربا التي نظرت في دينها فلم تجد ما يغطي واقعها، فقالت نخترع نظامًا.
(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)
يجب أن نعترف أن الذين سبقونا من صنف الصادقين والمفلحين قد سبقونا بحق، ويجب أن نعترف لهم بالسبق، لا أن نحاكم هذه الشخصيات العظيمة.
من أنت حتى تحاكم هذه الشخصيات؟
واليوم يوجد متنطعون، ما أجهلهم، وما أسخفهم، وما أقل بعدهم الإنساني، وتجدهم يحاكمون شخصيات الجيل الأول.
(يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)
فكل مؤمن يؤمن بالله ورسوله ويلتزم منهج الكتاب والسنة علينا أن لا نحمل في قلوبنا عليه، وعلينا أن نغفر له خطأه، وأن نسامحه، وعلى هذا نستطيع أن نلتقي جميعًا، ونستطيع أن يحب بعضنا بعضًا، وعندما نمسك دفتر التدقيق ليدقق كُلٌّ منا على أخيه، وليرى القذى في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه، فلن نستطيع أن تغيير أنفسنا ولا غيرنا.
(إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (لحشر: 10]
لمَ قال بعد تلك الآيات:(إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)؟
ليعلمنا كيف نتخلق بخلقه، فإذا كان الواحد منا رؤوفًا رحيمًا يستطيع عند ذلك أن يغفر لأخيه.
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة:128]
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول وأستغفر الله.
|