رسالتنا إلى العالم الإسلامي
الحلول العملية في واقع عالمنا الإسلامي
(الجزء الأول)
رسالة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم رسالة عالمية، أُخبرنا في الوعد الرباني أنها تبلغ ما يبلغ الليل والنهار، أحب من أحب وكره من كره.
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) الأعراف: 158.
ومن خلال هذا المعنى قلت: إن على الدعاة أن يوجِّهوا خطاباً قد دُرست مضموناته وأساليبه على مستويات ثلاثة:
في المستوى الأول: يفهمون الشرق غير المسلم، ويقدِّمون خطاباً مناسباً إليه.
وفي المستوى الثاني يفهمون الغرب غير المسلم، ويقدمون خطاباً مناسباً إليه.
أما المستوى الثالث فهو عالمنا الإسلامي الذي ينبغي علينا أن نفهم واقعه، وأن نقدم الخطاب الذي يتناسب معه إلى كل فرد فيه.
وبعد أن تحدثت عن المستوى الأول والثاني، وجزء من الحديث في المستوى الثالث، أنتقل بحضراتكم إلى الجزء الثاني من الخطاب المتعلق بعالمنا الإسلامي، وذلك من خلال الحلول العملية التي لا نكون فيها مثاليين، ولا أصحاب جمهوريات أفلاطونية.
ولن يكون الحديث مجدياً ولا مستوعباً، حتى يُصنَّف ويُفقَّر ويُأطَّر...
وهكذا أجد أن علينا مطلوبات كثيرة على مستويات ثقافية وتربوية، ودعوية، واجتماعية، وإعلامية، واقتصادية وسياسية..
ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة لم يوجد من أجل إثارة العواطف وحسب، إنما وجد ليضع اللمسات على موضع الألم، وليصف الدواء الذي معه يُشفى المريض.
أولا- على المستوى الثقافي:
1- مطلوب منا أن نفرِّق بين النص المعصوم الذي له القدسية وبين النص الاجتهادي الذي له الاحترام والتقدير، وبين القراءة التاريخية التي فيها وفيها، التي تحتاج إلى تصفية ليستفاد من كل إيجابي فيها، ويجتنب منهاكل سلبي.
واليوم يُمارس من خلال العلمانيين تشويهٌ ثقافي كبير، لاسيما مع شلالات القنوات الفضائية، حيث يُخلط النص المعصوم المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي جعله الله سبحانه وتعالى أساس منهجنا الذي لا يتغير ولا يتبدل، والذي لا يمكن التنازل عن جزئية منه أبداُ مع الفهم الاجتهادي، ومع القراءة التاريخية.
فأول واجب علينا هو أن نعلِّم الصغير والكبير ما يسمى برتبة (المعلوم من الدين بالضرورة) التي من خلالها يكون ثبات منهجنا، ومن خلالها ننطلق من الأصول الثابتة، فالنص المعصوم المقدس هو ما قاله الله ورسوله، فلا يفرَّطُ بحرف منه، وبعد هذا تدخل دائرةَ الثراء والسعةِ وأنت تقرأ فُهوم أهل الاجتهاد، فإذا انتقلت إلى التاريخ الطويل لتقرأه، تعاملت معه ناقداً بصيراً مستعملاً كل القواعد من غير أن تعاني من عقدة تقديسه.
2- على المستوى الثقافي أيضاً: مطلوب أن يكون لدينا عدالة في قراءة الثقافات المحيطة بنا مع الاعتزاز أصلاً بثقافتنا الإسلامية.
وهذه العدالة وجدت في سلفنا في العصر الذهبي، فبعد أن فتحوا البلاد قرؤوا ثقافات الآخرين من غير انبهار ومن غير ازدراء..
قرؤوا ثقافات الآخرين من غير انجذاب ومن غير عداء.
وهذه العدالة هي التي جعلتهم يُمارسون الانتقائية فيُدخلِون ما نفع عند الإغريق ويرفضون ما ضر، ويدخلون ما نفع من ثقافات فارس ويجتنبون ما ضر..
فلم تكن الشخصية الإسلامية المتميزة وقتها ذائبة إمَّعة وهي تنظر إلى ثقافة الآخرين، ولم يكن سلفنا حينما لامسوا تلك الثقافات المحيطة بهم ينسلخون عن ثقافاتهم وخصوصياتهم.
واليوم لم يدرب شبابنا ولا مثقَّفونا على هذه العدالة، فما تجد ملامساً لثقافة غربية أو شرقية حتى تجده قد انسلخ عن خصوصيته الإسلامية، وذاب ذوباناً تاماً، أو تجده متجمداً متقولباً لا يستطيع الانتفاع بالحكمة، ولا يستطيع أن يفهم المقاصد الإنسانية النافعة فيما لامسه.
3- لابد أن نتدرَّب ونُدرِب على وسطيتنا الإسلامية الثقافية، ففي عالمنا الإسلامي مع الأسف مفرِطون يريدون الأخذ بظواهر النصوص مقطوعة عن مقاصدها، وهم أصحاب الإفرَاط، ونجد من يلبس الصور الإسلامية ولا يتمسك بشي من ثوابتها، وبحجة المقاصد ينسفُ ما كان معلوماً من الدين بالضرورة، فتراه يميل كلما أراد الآخرون منه أن يميل، متتبعاً هوى الآخرين دون أن ينظر إلى ثوابته، ودون أن يعلم أنه في كل ميلة قد نسفَ ثوابت دينه.
وإمام هذه الوسطية الثقافية التي تخرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو وسط الوسط.
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143].
4- وعلى المستوى الثقافي أيضاً لابد لنا أن نعيد المطالعة الانتقائية، فاليوم أصبح التلقي الثقافي مع انجذاب أكثر شعوبنا إلى الإعلام الفضائي غير انتقائي، فلابد أن نجعل من منهجنا الجهادي الدعوي الفكري الإعادة إلى المطالعة الانتقائية.
في الماضي كانت المطالعة الانتقائية منحصرة في الكتاب، فكان يذهب الدارس إلى الكتاب الذي يريده، ويسأل عن تزكية أهل العلم له، ويعرف المعتمد من غيره، ثم يتبناه، واليوم قد أضيف إلى الكتاب وسائل كثيرة، كالشبكة الحاسوبية العالمية، ووسائل التوثيق المتنوعة المسموعة أو المرئية، ولابد فيها أيضا من الانتقائية الثقافية، وإذا لم يدرَّب شبابنا ومتعلمُونا على هذه الانتقائية فإن الغزو الثقافي سيستثمر بُعدنا عن المنهج الذي يضعه التربويون.
ويا ليت شعري، أين هم مِن موضع القرار أولئك التربويون.
وفي حالة الفوضى الثقافية، لا أقل من أن يكون الدعاة مظهر التنوير ومصدره، يذكِّرون الناس بالأصالة ويربطون الفروع بالأصول، ويذكرون التابع بالمتبوع الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمطالعة الانتقائية مسؤولية ثقافية ينبغي أن نفهمها، وأن نركز عليها وأن نشيعها.
لا ينبغي علينا أن نتحدث حديثاً مكروراً عن مقاطعة البضائع الأجنبية، و ثقافتنا نفسها هي مستوردة.
يحتاج العالم إلى ثقافتنا، فأين نحن من مبادراتنا!!
هل كنا خدم الثقافة الاسلامية بحق؟.
وهل كنا خدم التعريف بالمُعرِّف صلى الله عليه وسلم؟.
5- وعلى المستوى الثقافي أيضاً مطلوب منا أيضاً أن نربط ثقافة الصلاح بالعبادات والمعاملات، فمن دواعي تخلفنا أن مفهوم الصلاح قد رُسخ في أذهان الكثيرين مرتبطاً بالعبادات ومنقطعاً عن المعاملات، ومنقطعاً عن بناء الحضارة، ومنقطعاً عن الواقع، حتى صار مفهوم الرجل الصالح يعني أنه من يكثر ذكر الله، ويكثر قيام الليل فقط.
إذاً فأين موقع المبدعين والمعلمين ومن يصنعون للناس بناء حضارتهم امتثالاً لأمر الله؟.
أين موقعهم من الصلاح؟.
أين نحن من حديث:
(من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)
حيث جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم منطلق صلاح.
أين نحن من حديث أفضل الأعمال التي فيها:
(تعين صانع أو تصنع لأخرق)؟.
حيث جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من أفضل الأعمال.
فإذا حصل الانفصال و الانفصام تحولنا إلى الرهبانية، ولا رهبانية في الإسلام.
ثانيا- إذا انتقلنا من المستوى الثقافي إلى المستوى التربوي، واليوم أصبحت التربية قَطعاًَ نادراً.
كيف نمارس حلولاً عملية واقعية تربوية على مستوى أمتنا ؟.
1- ينبغي أن نلاحظ أن الأمة كلها زاخرة بعاطفة جيَّاشة هي محبة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وحينما لا نهمل هذه العاطفة، وحينما نُحسن توظيفها من خلال قراءة فيها دراية وفهم لسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا تكون مجرد سرد تاريخي، حينها نوجه العاطفة إلى السلوك.
العالم الإسلامي كله يُحب سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ويفديه بروحه، وما علينا إلا أن نوظِّف هذه العاطفة، فإذا قرأنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة هادفة نوظف العاطفة لتتحول إلى التبني السلوكي.
وشخص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم متفق عليه ولا يُنازع فيه أحد.
فينبغي أن نعتني بالسيرة النبوية وأن نقدمها بكل الوسائل، واللغات، وقد أعجبني أن كثيرا من الناس اتصلوا بي يريدون خدمة السيرة النبوية باللغات الأجنبية، وقلت تمهلوا حتى نقدم السيرة مع درايتها لا مع مجرد روايتها.
2- ينبغي على المستوى التربوي أن نعمق حقيقة الإيمان باليوم الآخر, فالله سبحانه وتعالى أول ما خاطب به حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم, في مبتدا الدعوة, قبل أن تنـزل الأحكام, وتفصيلات الدين, قال له:
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى) [الضحى: 4]
فالأمة التي لا يتعمَّق إيمانها باليوم الآخر؛ ستبقى أمة مادية.
وهل الذي يفرِّقنا عن الغرب إلا الإيمان بالغيب.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 3] فالإيمان بالغيب مقدم قبل الصلاة، وقبل الزكاة.
لابد من ربط الدنيا بالآخرة حتى يكون عمل الإنسان مستنداً إلى قوله تعالى:
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [لقصص: 77]
3- إذكاء جذوة الأمل ومحاربة اليأس فقد انتشر اليأس في العالم الإسلامي انتشار النار في الهشيم، وما ألتقي بأحد إلا وأجده يائساً يعاني من الإحباط فإذا أراد أن يخرج من يأسه خرج إلى الانفعال الذي لا توظيف فيه.
نحارب اليأس حينَ نذكِّرُ عالمنا بآيات الوعد الرباني في قرآن الله.
والقرآن يقول:
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)[التوبة: 33]
فلماذا تعاني من اليأس؟.
الله سبحانه وتعالى قرر ذلك، وهو المسؤول عن كلامه، وحبيبه صلى الله عليه وسلم فيما لا يحصى من الأحاديث يؤكد حتمية ظهور النور، ويأمرنا بأخذ أسبابه.
رحم الله من قال: "لا تطالب ربك بتأخر مطلبك، وطالب نفسك بتأخر أدبك".
فالوعد لم يتأخر لكن تأخرنا بأخذ أسبابه.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ) [النور: 55]
لماذا تسيطر اليهودية اليوم على العالم؟
ولماذا يسيطر أهل الغش والسرقة واللصوصية..؟
الجواب: بسببنا.
فلو أننا قمنا حقَّ القيام, بأسباب ظهور الوعد؛ لظهر الوعد.
فينبغي علينا أن نطالب أنفسنا, بدلا من أن نطالب ربَّنا.
وعند المحن نجتهد في الدعاء, ولا نجتهد في طلب أسباب إجابة الدعاء.
4- آن لنا أن نربط جماعة المسلمين بالرمزية الجماعية اعذروني فلقد طال علينا الأمد, ونحن نربط كل تجمع برمز فردي.
إن العالم المادي تخلَّص من هذه العُقدة, وارتبط بالإدارات, لكننا ما نزال على مستوى العمل في الدعوة نربط الناس بالرموز الفردية, والرموز الفردية ربما تلتقي وربما لا تلتقي, وربما تتحول حين تكون جادة ومخلصة إلى رمز جماعي, وربما لا.
والقرآن ذكر لنا نماذج الإدارات, لتكون متناسبة مع كل ظرف, فرأينا الإدارة التي فيها الرمز الفردي كنوح عليه الصلاة والسلام, ورأينا الإدارة التي فيها الثنائية كموسى وهارون, ورأينا الإدارة التي فيها المرسلون الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية.
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) [يس: 14]
و الثلاثة تعني إدارة جماعية, وعلى مستوى ما مُورس في سياستنا الشرعية, نجد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه, ينقل في خلافته المسلمين من الرمزية الفردية ويؤسس للرمزية الجماعية.
أفرح حين أجد تباشير الرمزية الجماعية بدأت تظهر في عالمنا الإسلامي!
فقد بدأنا نسمع باتحاد علماء المسلمين, وبدأنا نسمع بالمجمع الفقهي, وبدأنا نسمع بهيئة علماء المسلمين.
و شيئاً فشيئاً ستتنامى في بلادنا وفي كل العالم الإسلامي هذه الرمزية الجماعية, فعلينا على المستوى التربوي أن نربط الناس بهذه الرمزية الجماعية.
وأفرح حين أجد تحولاً في بعض مساجد مدينتنا, يصبح فيه سبعة من العلماء وطلبة العلم, مقررين للمواد الشرعية!
إنها ظاهرة تحوّل, تعني ربط الجماعة بالرمزية الجماعية, والخروج عن الرمزية الفردية التي مضى وقتها وفات.
وقد آن لكل رمز فرد أن يتحول إلى الانصهار في الرمزية الجماعية.
ثالثا- على المستوى الدعوي, أو باصطلاح بعضهم الحركي, أشير إلى أمرين:
1- علينا أن نكون أصحاب منهج يعتمد على فعل, لا على ردة فعل.
واليوم ينام المسلمون وينامون وينامون... وفجأة تظهر ردة الفعل؛ لأنهم لم يملكوا منهج الفعل, وليس لديهم الخطة المستقبلية, وليس لديهم التصور عنها, فحينما يوقظهم مسيء يتحركون, ثم تنتهي ردة الفعل, فأين هو منهج الفعل!
2- علينا أن نتدرب ونُدرّب في العمل الدعوي على آليات فريق العمل.
فلم يعد مجدياً يا شباب أن يقول كل واحد منكم: سأقوم بمبادرة, وسوف أقوم بعمل بطولي.. إنه من السذاجة, أيها الشباب, وأيها المثقفون, وأيها المتحمسون.., أن نبقى مع هذه المفهومات؛ دون أن نعمل من خلال فريق العمل, فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف الأمة بالجسد, والجسد أعضاء متكاملة, لهذا لا ينبغي لكل منَّا أن يكون جسداً, بل ينبغي أن يكون كل منا مُكمِّلاً للعضو الآخر, وكفانا فردية..
أملك ما لا تملكه, وتملك ما لا أملكه؛ إذاً فلنتكامل في فريق عمل..
وفريق العمل يتكون من مجموعة هادفة فاعلة, تمتلك قدرة على توظيف ما لديها من استعدادات.
رابعا - على المستوى الاجتماعي:
لابد أن نتبنى ربطاً شعورياً بيننا وبين مجتمع الإسلام الأول, الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن التراكمية التي حصلت في مجتمعنا, لم نعد نُفرِّق فيها بين ما هو من ديننا وما هو من قبيل الأعراف والعادات والتقاليد, بل دخل علينا ما يتنافى مع أصولنا, حتى أصبحنا في غاية البعد عن ذلك النموذج الناصع.
أتمنى أن أًُفرد خطبة خاصة في سمات ذلك المجتمع, لكنني هنا على وجه التنويه السريع العاجل أقول: أصبحنا في مأكلنا, وفي مشربنا, وفي ملبسنا, وفي منكحنا, وفي عاداتنا.. نرتبط بتقاليدنا أكثر بكثير من ارتباطنا بذلك المظهر الحضاري الذي يعبِّر عن الرقي الإنساني في مجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل وفيمن جاؤوا بعدهم, وتأثروا بهم, أين من مجتمعنا قصة ابنة سعيد بن المسيَّب, الذي لما ماتت زوجة تلميذه, أنكحه ابنته التي طلبها خليفة المسلمين الأموي فلم يقبل أن يزوجه إياها, وجاءه في المساء وهو يقدِّم إليه ابنته, الذي عقدَ عقْد نكاحه عليها, ويقول له: هذه هي زوجتك, فخذها..!
هذه الصورة التي كانت في سلفنا فاعتبرها كأنموذج, وتعال بعد ذلك وانظر إلى مجتمعنا, وانظر إلى رُكامٍ يمثِّل مجموعةَ عُقد اجتماعية, فالذي نعانيه من عُقدنا وعاداتنا في بعض الأوقات؛ يكون أثقل علينا مما نعانيه من عدونا.
وبعد ذلك يُلاحظ في المجتمع الأول أنه كان مجتمع وحدة, فلم نكن نسمع فيه عن الفُرقة, حتى ظاهرة النفاق لم تكن قادرة على تقسيم المجتمع.
واليوم في عالمنا الإسلامي توجد النعرات.. فمن نعرة عرقية إلى قومية إلى شعوبية أو قبلية, في المجتمع الأول وُجد سلمان, وإلى جانبه بلال, وإلى جانبه علي, وإلى جانبه أبوبكر.. فلم يكن ذلك المجتمع يعاني من أي نعرة, ولم يكن ذلك المجتمع يعاني الحقد الطائفي, الذي يُذكِيه أعداؤنا اليوم, وما أرض العراق منا ببعيد..
وفي يومين.. ما يقرب من مائتي مسجد, يحصل فيها الإحراق والقتل..., وكلهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله..
ومع الأسف هناك من يُذكي تلك الجذوة الطائفية المقيتة.
كنت لا أستغرب أن يحصل مثل هذا في العراق؛ لأن في العراق حالة من الفوضى, لكنني أستنكر واستغرب أن يدخل مثل هذا إلى بلدنا سورية, في بادرة خطيرة لا أحبها ولا أريدها..
فقد وجِّهت إلي دعوة للحضور في الرقة, لإحياء ذكرى صِفِّين!!
وقلت: ياللهول.. لو أحيينا ذكرى عين جالوت, فعين جالوت مظهر وحدة, ولو أحيينا ذكرى بدر, التي فيها آل رسول الله وأصحابه معاً فهي مظهر وحدة, ولو أحيينا مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فهو مظهر وحدة؛ أما أن نُدعى لإحياء ذكرى صفين, التي كانت مظهرا لحرب وفرقة وخلاف..!
إنه تسرب الطائفية الذي ينبغي على الأجهزة الأمنية أن يوقفوه, لأن بلدنا سورية لا تقبل الطائفية, وينبغي أن يُستأصل كل لسان يدعو إلى الفُرقة, وينبغي أن يُقتلع كل لسان يُفرِّق بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته..
لا نحتاج في هذا الوقت إلى مثل هذه التُرهات الطائفية.
إن المدَّ الطائفي يأتي من الشرق.., ويبدو أن الأجهزة التي تقول إنها حريصة على وحدة البلد؛ لا توقفه.
كيف نسمح ونحن في بلد متماسك, يرتقي فوق النعرات, ويرتقي فوق الطائفيات, يرتقي فوق الأحقاد.. بإحياء ذكرى حرب بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, إنها تلتحق بالتاريخ الذي قلت في مُبتدا الخطبة: علينا أن نقرأه وأن ننظر إليه, لا على أنه مصدر تشريع, بل نقرؤه قراءة من يريد التصفية ليأخذ الإيجابي, وليجتنب السلبي.
رحم الله الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز حين قال:
لقد عصم الله سيوفنا من دمائهم, فنحن نعصم ألسنتنا منهم.
إننا ننظر إلى هذا الحدث وهذه البادرة, على أنها بداية سيئة ينبغي على المسؤولين في هذه البلاد أن يعالجوها بسرعة, وأن لا يُعلن بعد الآن عن أي مهرجان مفرق.
فنحن أهل السنة والجماعة لا نعقد مؤتمراً من أجل التنديد بطائفة ما؛ فكيف يمكن لبلادنا هذه أن يُعقد فيها مثل هذا الحشد, الذي يُراد منه في النتيجة: التشهير بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه تنبيه وقرع أجراس خطر.
أما عرف من يعطون الموافقات الأمنية أن هذه هي شرارة نار..
إذاً مجتمعنا لابد أن يرتبط بالمجتمع الأول, مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بيته, الذي فيه الأصالة, وفيه النقاء, وفيه ينبوع كل نور ومعرفة وفضيلة, وفيه مظهر الحضارة الإنسانية, والرُّقي.
كنت أود أن أتحدث عن المستويات الباقية الإعلامية والاقتصادية والسياسية, لكن الوقت لا يسمح.
فأكتفي بهذا لأتابع في الأسبوع القادم, إن أحيانا الله سبحانه وتعالى.
اللهم رُدَّنا إلى دينك رداً جميلاً, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.
|