هل تصلح الشريعة الإسلامية أن تكون مصدر السلطة التشريعية
قال شعب فلسطين للمنضبطين بالإسلام نعم، ومن قبلهم قال الشعب التركي للمنضبطين بالإسلام نعم، مع اتجاهاتهم المختلفة.
ففي تركيا على سبيل المثال، قال للمنضبطين بالإسلام: نعم، يمينيٌّ ويساريٌّ، وشرقي وغربي..
لماذا !؟
هل لأنهم جميعاً تبنوا أن يلتزموا بالإسلام!؟
لا يا إخوتي.
إن بعض الشعوب الذكية بدأت تدرك أن المنضبط باِلإسلام لا يسرق، وأن المنضبط بالإسلام لا يكذب، وأن المنضبط بالإسلام يصدق مع شعبه، وأن المنضبط بالإسلام لا يحيد عن منهج العدالة حتى ولو كان خصمه يخالفه تماماً في المعتقد أو يخالفه في المنهج والاتجاه.
فقد جربوا غير المنضبطين بالإسلام فنُهبت ثرواتهم.
نهبت الثروات، وبقي الفساد مع الشعارات التي تدعو إلى الإصلاح.
إننا نأمل أن يستفيد إخواننا المنضبطون بالإسلام في فلسطين من منهج الوسطية والتوازن، ونعتقد أنهم كذلك.
لكن لماذا نتحدث ونحن في سوريا عن تركيا وفلسطين؟.
إن هذا المنبر يا إخوتي وُجد ليكون مُحركاً لجذوة الإيمان ومُولداً للفكرة التي ينتفع بها كل الناس.
والناس كل الناس في بلادنا وفي غير بلادنا، في عالمنا الإسلامي، وفي العالم كله، يبحث عن العدالة.
توجَّه إلى ما يسمى بالعدالة الدولية؛ فأصيب بخيبة أمل لأنه رأى أنها وضعت من أجل الأقوياء، وكان الفيتو قاصماً للظهور، ولم يكن للعالم الإسلامي كله، المليار ونصف فيتو واحد.
بدأت الشعوب تدرك أن العدالة التي ينشدها العالم عدالة تضيع في ميادين المصالح.
والعدالة هي المسؤولية الكبرى لمن يُمسكون بأيديهم مقاليد الأمور، فهي تقع على جهاز الحكم في كل بلد، وفي كل أمة.
وفي هذا نذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الإمام الترمذي وأحمد:
( إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل)
احب الناس إلى الله فلا يجاريه في الفضل أحد، ولا ينافسه في المنـزلة أحد،
( إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة ,أقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامه واشدهم عذاباً إمام جائر)
وبهذا يتضح أن الإسلام بمنهجه وأصوله ومبادئه وتشريعاته يدعو إلى العدالة ويطلب من أصحاب الحكم أن تكون هذه العدالة مسؤوليتهم الكبرى.
لكن وكما تحدثنا في الأسبوع الماضي عن مفهوم الغش أنه في تطبيقاته يتباين حينما تنظر إلى مثال الحنطة المبسط ومثال الغش لشعب، وقد تناولنا هذا البحث ببعض تطبيقاته في الأسبوع الماضي.
أقول أيضا وكما أن مفهوم العدالة يمكن أن يكون على المستوى الفردي قريب التناول فلا يصعب على الإنسان أن يتصور تطبيقاته، لكن مفهوم العدالة في البلد يحتاج إلى شيء من التفصيل.
لكن هل يمكن للعدالة أن تتحقق من خلال فرد يحكم؟.
لقد مضى الزمان الذي يقف الملك فيه ليقول إنني أرى كذا ولا أرى ذاك، فالعالم اليوم يعيش حكم الإدارات والأجهزة، وحكم الشعب للشعب، فلابد من توضيح معالم العدالة، ولابد من وضع نقاط وعلامات تساعد في تحقيق المنهج الموصل إلى العدالة.
واليوم كما تعرفون تسعى الشعوب إلى العدالة من خلال سلطات ثلاثة:
سلطة تشريعية تنبثق عن مجلس الشعب.
وسلطة تنفيذية يمثلها جهاز الحكم وإدارته.
والسلطة الثالثة هي السلطة القضائية التي تراقب أداء السلطة التنفيذية.
ومن خلال التوازن والثراء المعنوي وبمقدار ما تمتلكه هذه السلطات الثلاثة، من السمو الإنساني، تقترب من مفهوم العدالة.
هكذا تنظم البلاد المتطورة شؤونها حتى تقترب من منهج العدالة، لكن لايستطيع أحد القول: إن هذه الدول استطاعت تحقيق العدالة داخل مجتمعاتها أو في معاملاتها مع الدول الأخرى، فمع كل هذا التطور في النظام تعاني من أزمة عدالة.
أقول هذا تمهيداً للحديث عن عدالة الإسلام.
وقبل أن أتحدث عنها أقول:
أكثركم يعرف أن المجتمعات المادية المتطورة في الغرب والتي تمثل برلماناتها السلطة التشريعية، لا يصل إلى تلك البرلمانات أو مجالس الشعب إلا من يدعمه أصحاب المصالح الكبرى، وحينما تبسط الأموال ، ويدعم المرشحون تكون السلطة التشريعية البرلمانية مرآة لمصالح الذين دعموها ومولوها، ويزول معنى العدالة لأن التشريعات لن تتعامل مع الجميع على حد سواء، إنما ستراعي مصلحة الأقوى.
وإذا فقد مفهوم العدالة في السلطة التشريعية الأولى ستكون السلطات فاقدة للعدالة لأن السلطتين الباقيتين تتأثران بالسلطة الأولى.
العدالة في الأنظمة الشرقية البائدة كانت مفقودة لأنهم عاشوا سياسة الاستبداد والقهر والقمع، والقتل وازدراء الفرد، وادعاء الجماعية مع التناقض بين الواقع وما يطرح من أيدلوجيات.
ولم يعد العالم يتلفت إلى تلك الأنظمة البائدة لأنها أصحبت جزءاً من تاريخه، إنما يحلم الضعفاء في العالم الثالث أن يستوردوا ما وصل إليه العالم الغربي المتطور مادياً..
وليس سراً مخبوءاً أننا في هذه المرحلة نتطلع إلى بناء مجتمعنا بكل تركيبته
ونحن نريد أن نصوغ المجتمع من جديد، نقدم في عملية البناء بعضاً مما نستطيع تقديمه من الفكرة، والنصح.
لاشك أن الأنظمة المتطورة مادياً في هذا الأيام هي خير مما كنا فيه؛ لأن الذي كنا فيه كان الأبعد عن العدالة.
ولكن ونحن نريد صياغة مجتمعاتنا أقول: سنُجرِّب ما جرَّبوا, ونصل ما وصلوا إليه من العدالة المنقوصة.
فلماذا لا نستفيد من خصوصيتنا الثقافية؟
لقد قال البرلمانيون الأوربيون مرة, في مجلس كنت مُحاوراً فيه: نحن لا نستورد ديموقراطية أمريكا, فنحن لنا خصوصيتنا.
وقلت يومها لرئيسة البرلمانيين: تذكَّروا أننا نملك خصوصية أيضاً.
فنحن لا نريد أن نستورد من غير أن نُفكِّر، ومن غير أن ندرك أننا أصحاب حضارة, وأننا أصحاب ثقافة, وأننا أصحاب هوية.
لهذا أقول: حتى لو أردنا العمل بهذا النظام المستورد, المُجرَّب على المستوى المادي؛ فلابد من إضافات تكون فيها خصوصيتنا حاضرة.
وفي دستور سوريا: "الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع" وهذا بند من بنود دستورنا.
لكن لابد لتحقيقه من آليات..
هل تتحقق هذه الآليات عندما نقول: من كان يستطيع الوصول إلى مجلس الشعب فليتقدم إليه ونعيد نفس القصة؛ لأنه لن يصل إليه إلا من يقدر على الإعلان, وبذل الأموال.
إذاً, ما الحل؟
بعد دراسة طويلة ومُعمَّقة لفقهنا الإسلامي، أقول: لئن كان مما يُطرح في سوريا: أن ينقسم مجلس الشعب إلى قسمين, مجلس شورى, ومجلس نُوَّاب. أقول: إن مجلس الشورى المُعبَّر عنه بأهل الحل والعقد في ثقافتنا الإسلامية هو عبارة عن مجلس يمتلك تخصصات عالية.
ومجلس النُوَّاب موجود في فقهنا الإسلامي في مباحث السياسة الشرعية باسم العُرفاء, أي من يَعرف مجموعة من الشعب بكل تفصيلات أحواله, فلا توجد مسافة بين العريف أو النائب بالمصطلح الجديد, وبين من يُمثلهم.
فمجلس النواب يُمثِّل في فقهنا الإسلامي مرآة كاملة للشعب بكل أصنافه, بكل أعراقه, ومعتقداته.
أما مجلس الشورى في فقهنا,؛ فهو مجلس تخصصي, لا يدخل فيه إلا أصحاب التخصصات العالية.
أقول هذا لألفت الانتباه إلى هذه الخصوصية في ثقافتنا.
أي أن مجلس الشورى لا يستطيع الدخول إليه إلا من يمتلك المُؤهِل, حتى لولم يكن قادراً على أن يمتلك المال.
يدخل فيه العالِم في الإدارة, والعالم في التخطيط, والعالم في الاقتصاد, والعالم في الشريعة, والعالم في القانون، فيكون مجلس علماء البلاد, ومجلس أصحاب الأهليات.
يمكن أن يكون دخولهم من خلال المسابقة, بدل الانتخاب, أو من خلال الانتخاب بعد تحقق الأهليات، ويبقى الانتخاب في كل حالٍ لمجلس النواب,لأنه سيُمثِّل الشعب, وسينقل ما يحتاج الشعب إليه.
وهكذا يكون مجلس الشورى ممثلا أعلى سوية في المجتمع من حيث الكفاءة (أوالكفاية) والأهلية والتخصص.
وهكذا يستطيع علماء البلاد أن يُقدِّموا الحلول العادلة بعد سماعهم من مجلس النواب كل مشكلات البلاد, ويستطيعون تقديم النظام الذي يحقق العدالة, ويفي بما يحتاج الناس إليه, من غير تمييز, ومن غير انزلاق لمفهوم العدالة.
كثيرون هم الذين يتحدثون بانفعالات, ويقولون: نريد الدولة الإسلامية. وكثيرون هم الذين يرفعون شعارات العنف, والتطرف؛ دون أن يناقشوا بعقل ومنطق.
نحن نعادي التطرُّف والعُنف, وندرك أن إسلامنا رحمة, وعدالة, وندرك أن إسلامنا يُمثِّل الـنـزاهة, والاستقامة والصدق, لهذا قال شعب فلسطين الذي عانى طويلاً قال للمُنضبطين بالإسلام: نعم.
أيها الأخوة إنني أعد ما قلته عناوين, وأتمنى أن يُسمَعَ وأن يُدرس؛ لأننا كمجتمع نستطيع أن نحتفظ بخصوصياتنا ونحن ننتقل إلى الديموقراطية, أو المؤسسات المدنية, ومع انتقالنا من الفوضى إلى الانتظام, ومن الفساد إلى الإصلاح؛ لابد لنا أن نضع بعض اللمسات التي تُبقي خصوصيتنا, فلا تُذوب هويتنا.
الخطبة الثانية:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه:
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25]
وهذه الآية تقدم للعالم كله: أسلوب الوصول إلى العدالة؛ لأن القسط هو العدالة.
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أي ليس في هذا الذي أنزله الله سبحانه وتعالى غموض, فكله وضوح، وبيان.
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) فلا يوجد في المنهج الرباني المُقدم للإنسانية ليكون سلطة تشريعية, أو مصدراً تستفيد منه السلطة التشريعية أي غموض.
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) والكتاب فيه القواعد العامة للفضيلة, والعدالة, والصدق, والبِر.
(وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ)الذي في القواعد العامة المشروحة والمُبينة بسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
(وَالْمِيزَانَ) ما هو الميزان؟
الميزان هو المنطق. والعقل.
وهكذا تكون وظيفة مجلس الشورى، أو مجلس الحل والعقد استعمال الميزان, مُستفيداً من القواعد العامة في الكتاب, التي هي قواعد الفضيلة ومبادئ الإنسانية والأخلاق.
فالبينات جاءت مع الرسل بوضوح ليس فيه غموض, والكتاب فيه القواعد العامة, والميزان هو المنطق.
وما هي النتيجة:
( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي لتتحقق العدالة.
إذاً فالمنهج واضح, وليس علينا إلا أن نطلب النتيجة بصدق؛ لنجد الآليات يسيرة التحقيق, قريبة المنال..
|