حمدَك اللهمّ لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
نحمدك وقد وفقتنا لصيام هذا الشهر العظيم، الذي ودَّعَنا وودَّعْناه.
نحمدك وقد وفّقتنا للوقوف بين يديك في قيامه.
نحمدك يا ربنا ونعظّمك ونكبّرك وأنت الذي هديتنا بالقرآن.
نحمدك يا ربنا ونعظّمك ونكبّرك وأنت الذي حرّكت قلوبنا بمحبتك، وحركت ألسنتنا بذكرك.
فلك الحمد ولك الشكر، وما توفيقنا إلا بالله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله ولاشيء ولا شيء بعده.
لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، فجزاه الله عنا خير ما يجزي نبيًّا عن أمته.
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه ووالاه.
وأوصي نفسي وأوصيكم بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأنهاكم عن معصيته ومخالفة أمره.
هنّأكم الله بالعيد..
هنّأكم الله بهذا اليوم يومِ الجائزة الذي تصافحكم فيه الملائكة..
هنّأكم الله وهنّأ أمتَنا الإسلامية بهذا اليوم الذي تفرح فيه بعد أن أقامت شعيرة الله تبارك وتعالى في الصيام والقيام.
كان المصطفى صلى الله عليه وسلم في العيد يومًا مسجّىً في سريره وعنده السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها في يوم العيد عيدِ الفطر، فدخل أبوها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فوجد عندها جاريتين تغنيان وتضربان بالدف، فقال لها: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم،؟
فكشف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الغطاء عن وجهه الشريف وقال: (يا أبا بكر إنّ لكلّ قوم عيدًا، وهذا عيدنا)، وكان يومها عيد فطر.
وهكذا نبّه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى مفردة من مفردات العيد، وهي مفردة الفرح.
ومن أعظم عناوين مفردات العيد: الفرح، والتواصل، والبرّ.
1- أما الفرح: فإنه قضية معنوية يجهلها المادّيون، ففرح العيد هذا ليس الفرح بجديد الثياب، ولا بما يكون في يد الإنسان من المادة.
ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}؟ فهو يشير بهذا إلى نعمة القرآن العظيم وآثارها في النفس الإنسانية والسلوك البشري.
ثم قال بعدها: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57- 58}.
وهكذا تجلّى في هذه الآيات معنى الفرح الذي يستقر في قلوب أهل الإيمان، إنه فرحٌ بالله..
الفرح في القرآن فرح بالله، لأن القرآن كلام الله، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف (كما يقرر أهل العلم)، فإذا فرح بوصفه فرح به.
والآثار التي ينتجها القرآن في سلوك المسلمين آثارٌ تُظهر على أرض الواقع إصلاحًا، وتُظهر إحسانًا، وتُظهر سَعةً ظاهرة وباطنة، وتُظهر نهضةً وحضارة ومجتمعًا يحبه الله تبارك وتعالى، ويحب أوصافه، ويحب أقواله وأفعاله وأحواله...
إذًا قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} هو فرح أهل الإيمان.
نفرح اليوم بعدما مررنا بشهر القرآن، وأخذَتْ أرواحُنا وقلوبنا واستمدّت من معانيه وأنواره وأسراره، فكيف لا نفرح في يومٍ أُمِرنا فيه أن نفرح بفضل الله وبرحمته؟
أكرم عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، وتُلِيَ القرآنُ الكريم، ووقف الناس يستمعون في الصلاة إليه، وامتثلوا أمره نهارَهم كله، وصامت جوارحهم، وصامت قلوبهم، فأيُّ نعمة أعظم من هذه؟ وأي فضل أكبر من هذا يُفرح به؟
أما الفرح بالمادة فنقرؤه في كتاب الله تبارك وتعالى في قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26].
وهكذا قلَّل الله تعالى في القرآن من شأن الفرح بالمادة.
وقال في الآية التي سبقتها: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي هو خيرٌ مما يجمعون من المادة.
فتجلت بهذا التبيين المفردة الأولى التي هي مفردة الفرح في يوم العيد بعد فضل الله تبارك وتعالى ورحمته.
2- التواصل: الذي تترك فيه النفوس ضغائنَها، والذي تتطهر به النفوس وترتقي وتتزكى، والذي يجمع أبناء الرحم ويجمع إخوانًا في الله بعضَهم إلى بعض، فيجمع الصاحب والصديق، ويجمع القريب والحبيب، وهو الذي يعيد إلى الأمة في العيد لُحمتَها ورونقها، لأن الشتات والفرقة ذهاب الريح وذهاب القوة، كما بيَّن ذلك ربّنا تبارك وتعالى بقوله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
ينبغي على الإنسان أن يستثمر فرصة العيد حتى يصل القاطع.
مَن قَطَعَك صِلْه وكن في يوم التواصل مظهرًا إيمانيًّا محمديًّا.
التواصل هو الذي تعطي فيه من منعك، وتصل فيه من قطعك.
التواصل يجمع المتفرق، ويجعل من هذا المجموع جسدًا واحدًا إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
صل رحمك في العيد، وصل صاحبك وصديقك، وأظهر مفردة التواصل في سلوكك كما يحبها الله تبارك وتعالى ويريدها.
3- البِرّ: ولئن كان الفرح بالله تبارك وتعالى وبفضله ورحمته في القلوب، ولئن كان التواصل بالنفوس الطاهرة، فإن البرّ يتوجه إلى الأبدان.
وهكذا تظهر النعمة على عباد الله، واللهُ سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
فبالبرّ يتّسع الضيق، وبالبرّ يخرج الإنسان إلى معنىً قد لا يلتفت إليه في غير يوم العيد، لأنه تبارك وتعالى في الرزق فيرضى به، لكنه حينما يجد في العيد البرّ منبعثًا منه أو منبعثًا إليه فإنه يرى صورة التكافل الاجتماعيّ، ويقلّ الفقر، وتضمحلُ الفاقة، وتُقضى الحاجات...
فما أروعه من عيد حينما يعود بعوائده على عباد الله!
وما أكرمه حينما يجد فيه المؤمن هويته الباطنة والظاهرة! يجد هويته الباطنة من خلال الإيمان ولوازمه، ويجد هويته الظاهرة من خلال التماسك الاجتماعيّ الذي يدعو إليه الإسلام.
ومن كان غافلاً عن زكاة الفطر فليتذكر أن صيامه مرتهَن بها، ولئن كان بعضهم وسّع وأجاز إخراجها بعد الصلاة لكن الجمهور على إخراجها قبل الصلاة، فإن فاتته يقضيها قضاء.
زكاة الفطر مظهر من مظاهر البر، لكن البر في العيد يتضمن من معاني البر مادة ومعنىً، فمن البر كلمةٌ طيبة، ومنه تبسُّمُك في وجه أخيك، ونُصحٌ بالمعروف، وكلماتٌ ينتظرها أخوك منك تجبر بها كسر قلبه...
فليكن هذا العيد تجربةً سلوكية نختبر فيها سلوكنا، ونختبر فيها أخلاقنا وأحوالنا، ولئن كنّا قد خرجنا من شهر تكثر فيه الاستقامة وتعظم فيه من الله تعالى الكرامة، فإن ربّ شهر رمضان هو رب العام كله.
وهو القائل: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218]، وقال: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]
فلنعاهد ربّنا على أن نكون في الظاهرة السلوكية كما كنّا في شهر رمضان، وإن كانت المدعّمات أقلّ، لكن بالصحبة والتواصي بالحقّ والتواصي بالصبر تدوم الاستقامة ظاهرًا ويبقى في سرّك حال مع الله.
اللهم أعد عوائدك علينا يا ربنا وعلى المسلمين نصرًا وفوزًا وكرمًا وفضلاً وإنعامًا.
واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
|