قيمة الأمم بقيمها ، ومكانتها في سُلَّمِ الإنسانية بأخلاقها ، وما كانت الحضارة لتقاسَ بكثرة أموالها إذا كانت لا تعرف للتحضُّرِ طريقاً ..
وليس التحضُّرُ إلا مفارقة التوحشِ الغالبِ على البداوة سعياً إلى مجتمعٍ فيه حضور الإنسانِ مع الإنسان متعاوناً متكاملاً ..
فالحضارة حضورٌ إنساني ، فإذا وُظِّفتْ فيه الوسائل المادية المتطورة توظيفاً يزيدُ ذلك الحضور الإنسانيَّ تماسكاً وتكاملاً وانسجاماً تحققت الحضارةُ بكل معانيها ومبانيها ...
وحين صحا ضمير العالم على مشاهد أسرى العراق في سجون الاحتلال تساءل الملايين : إذاً فأيُّ حضارة تلك التي يدعيها القوم وراء المحيطات ؟
وحين أثنى كبير الإدارة على وزير دفاعه واصفاً إياه بالبطل وصاحب الأعمال الرائعة قالَ كُلُّ عاقلٍ في العالم : فإذا كانت الأعمالُ الرائعةُ كهذه ففي أيِّ صفٍّ من صفوف الروعة ستصنف في الغابات ( دموية الذئاب ) ، و( وحشية الوحوش ) ؟
وانحطَّ رأسُ الراياتِ المروِّجَةِ لحرية الإنسان ...
وخجلتِ الأبواقُ الصائحةُ بحقوق البشرية ..
وتلعثمت الألسن الواعدة بالمستقبلِ الجِنانيِّ الأخضر ..
ولم تستحِ تلكَ الإدارة من وصفِ وزير دفاعها بصاحب العملِ الرائعِ ؛ مع أنَّ شعب أمريكا يصيحُ فيه : إن أقلَّ ما ينبغي عليه فعله الاستقالة والتقدم للعدالة!
ويعود الفكرُ إلى صانعِ العدالةِ والأخلاق ومثالِ الإنسانية النبي الكريم سيدنا محمد  وهو يدعو أمته إلى البرِّ بالأسير وإعانته وصولاً إلى إطلاقِ سَراحه قائلاً :
( فُكُّوا الْعَانِيَ - يَعْنِي الْأَسِيرَ - وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ ) أخرجه البخاري ..
ويتذكَّرُ الخيال حادثةَ الأسير ( ثمامة بن أُثال ) في مسجد النبيِّ  والمصطفى يسأله مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟
فيجيبه : عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ ..
إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ( أي إن كنت تنوي قتلي فلستَ بظالمٍ لأنك تقتل مجرماً قاتلاً )
وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ( أي وإن كنتَ تنوي الإنعام عليَّ بإطلاقِ سراحي فستجدني شاكراً )
وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ .
ويتركه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أيامٍ وهو يحاوره بمثلِ ما قال له ..
وفي اليومِ الثالثِ يقول  : أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ ..
وما يكون من ثمامة الذي عاشَ ثلاثةَ أيامٍ مراقباً سلوك النبيِّ  وأصحابه حتى تأثر به إلا أن ينطلقَ خارجَ المدينة إلى نخلٍ قريب فيغتسلُ ويعودُ إلى المسجد قائلاً:
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ..
يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ ..
فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ ..
وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ ..
فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ ..
وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ ..
فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ .. أخرجه مسلم .
هكذا تكون الحضارة ..
وهكذا تسمو الأمم ..
فهل من مبلِّغٍ يبلِّغُ من يدعي الحضارة كيف تكون الحضارة ؟