قالوا : حان الوقت الذي بدأ فيه الإنسان يخلق الإنسان .
ونقول : أمّا أن يكون أحدٌ من المخلوقات خالقاً لشيء فلا والله .
قال تعالى:
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(16)الرعد
فكل شيء في الكون هو من خلق الله تبارك وتعالى ، وهو سبحانه وتعالى خالق الذوات والصفات والأفعال الكونية ، هذه حقيقة اعتقادية قررها كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ودلت عليها كل العقول السليمة .
وبقي السؤال متعلقاً بالسلوك الإنساني الذي هو مناط التكليف ..
فالإنسان هو المخلوق الذي كلَّفه الله تعالى بضبط المعاملات بينه وبين أبناء جنسه الإنساني ، وبينه وبين الكون بأسره .
قال تعالى :
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30) البقرة
وقال تعالى :
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72)الأحزاب
فالأمانة هي الخلافة وهي استخلاف الله تعالى الإنسانَ في كونه بعد أن سخر له كل المخلوقات ليكون هو مسخراً لله تعالى وحده :
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13)الجاثية
وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)النحل
وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ(32) وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)ابراهيم
فإذا أصاب هذا الإنسان في سلوكه وأحسن فقد أدى الأمانة وقام بحق الخلافة .
وإذا أخطأ هذا الإنسان في سلوكه وأساء فقد خان الأمانة ، وفرط بحقوق الخلافة .
ولا يعني كون الإنسان خليفة مؤتمناً في الكون أنه يشارك الله تعالى في الخلق لأنه سبحانه المنفرد في الخلق – كما تقدم - قال سبحانه :
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3)فاطر
وطريق التكاثر الإنساني خاضع لذلك الضبط الذي تقدم الكلام عليه ، فقد يتكاثر الجنس الإنساني من خلال الإباحية الجنسية المطلقة ، ويُخلق بسببها الإنسان ، والذي يخلقه في هذه الحالة هو الله تعالى بالتأكيد ، لكن الإنسان لا يكون محسناً في هذه الحالة ولا قائماً بحقوق الاستخلاف ، بل يكون خائناً لنفسه ولربه .
فشريعة الله تعالى أمرت أن يكون التكاثر الإنساني في دائرة زواج وأسرة ينشأ المولود فيها مستفيداً من روابطها النفسية والعاطفية والوراثية والبيئية ، وتتلاقح الأمزجة وتختلط الأعراق باجتماع الرجل والمرأة وكل منهما يحمل شيئاً مختلفاً عن الآخر ، ويخرج المولود متكاملاً، يبحث عن الأكمل بطريق الاكتساب البيئي والعلمي .
هذه الشريعة الربانية المطهرة حددت طريق التكاثر الإنساني بنص صريح، قال تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7)المؤمنون
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(31)المعارج
فمن ابتغى تكاثراً إنسانياً خارج الطريقين المحددين ( الزواج أو التسري من الجواري – ولم يعد اليوم إلا الطريق الأول بسبب انعدام وجود الجواري ) من ابتغى خارج هذين الطريقين فهو من المعتدين .
والله سبحانه وتعالى يؤكد دلالة اللفظ ( ابتغى ) في موضع آخر :
فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ (187)البقرة
أي ابتغوا الولد بالمباشرة التي رسمت الشريعة صورتها .
وهكذا يكون الإنسان الباحث عن الولد من غير الطريق المحدد له بشريعة الله تعالى معتدياً .
إنه لا يرتكب محرماً صغيراً باللجوء إلى ما يعرف بالاستنساخ وحسب ، بل يرتكب جريمة في حق الإنسانية كلها .
قال تعالى :
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ {32} المائدة
إن ما يعرف بالاستنساخ يحرم الطفل من مفهوم الأبوين .
وبالهندسة الوراثية يضيع نسبه بين أصول متعددة .
ويُدخل على الأسرة – إن بقي للأسرة مفهوم – صفاتٍ دخيلة تتناقض معها نفسياً ووراثياً .
ويحول كرامة الإنسان وحرمته إلى ما يشبه في المستقبل المفرخة الحيوانية.
وصدق الله العظيم إذ قال :
أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(179)الأعراف
أين من هذا الطفل الممسوخ صورةُ الطفل المكرم الذي تمت الهندسة الوراثية المناسبة له في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس ) ( رواه ابن ماجه وغيره )
ثم يُبتَدَأُ وجود خليتيه من أبيه وأمه ( ببسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا )
فإذا تمم الله تعالى الحمل قيل فيه :
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {35}آل عمران
فإذا يسر الله تعالى سبيل خروجه إلى الدنيا عُوِّذَ بالله من كل شر ، وأُذِّنَ في أذنيه ، ودعي الناس ليشهدوا المخلوق المبارك الجديد المكرم من خلال سنة مائدة ( العقيقة ) .
إن ما يعرف بالاستنساخ يشكل مسخاً إنسانياً فكرياً ونفسياً وخلقياً .
قال تعالى :
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6)وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(7)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ(8) الحج
وهكذا يُضيَّع الإنسان حينما لا يهتدي بهدي ربه .
على أن علينا أن ننبه إلى أن مفهوم النطفة في القرآن الكريم لا يعني الحيوان المنوي بل يعني الخلية الجنسية الذكرية ، والخلية الجنسية الأنثوية، فكلاهما يسمى نطفة ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك :
فقد قال له يهودي : يا محمد مم يخلق الإنسان قال: يا يهودي مِنْ كُلٍّ يُخلَق مِنْ نطفة الرجل ومِنْ نطفة المرأة ( مسند أحمد )
فإذا استطاع الإنسان أن يجمع نواة خلية بنطفة امرأة فرغت نواتها – كما يقولون – فليس معناه أن الإنسان لم يخلق من نطفة ، فالنطفة خلية ، والخلية نطفة ، والنطفة في اللغة : الماء القليل جداً .
لكنّ ذلك الإنسان – كما قدمنا - قد اعتدى بهذا السلوك لأنه تجاوز الطريق الشرعي المرسوم للإنسان .
ثم إننا نتساءل ونعجب : ألم يكونوا يدعون إلى تحديد النسل ؟
لماذا يبحثون اليوم عن الطرق غير الشرعية للنسل ؟
قد يجيب بعضهم نريد الأعضاء البشرية التي نستخدمها للناس في المعالجة! ونقول لهم إن الشريعة الربانية كرمت حتى أعضاء الإنسان ، فلا يكرم إنسان بإهانة غيره ، ولا يكون الإنسان ولا أجزاؤه وسيلة مستخدمة مستهلكة لأنه كريم مكرم له حرمته منذ وجوده في عدده الصبغي الإنساني ( 46) قال تعالى في سورة سماها سورة الإنسان :
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا {2} الإنسان
والنطفة الأمشاج هي ذات العدد الصبغي ( 46 ) أي التي اجتمعت فيها :
نطفة الأب ( 23 ) + نطفة الأم (23 )
فانظر إلى الخطاب الرباني نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا بعد ذكره للنطفة الأمشاج ( وارجع إلى مقالة تنظيم الإنجاب في هذا الموقع ) .
فالاستنساخ انطلاقة من العدد ( 46 ) لكن مع تجاوز الحد الشرعي والأخلاقي كما يحصل في الإباحية الجنسية التي تقدم الكلام عليها .
أما ما يتعلق بقوله تعالى :
إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا {116} إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا {117} لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا {118} وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا {119} يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا {120} أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا {121}النساء
فسوف أفرد له مقالة خاصة إن شاء الله تعالى والله تعالى ولي التوفيق والحمد لله رب العالمين . |