أولا - مقدمة:
الحديث عن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه حين ينطلق من الموضوعية والبحث المجرد عن الهوى؛ هو حديث يُجمّعُ ولا يفرق، ويؤلف ولا يشتت، لأنه رضي الله تعالى عنه شخصية اتفقت على عدالتها ونزاهتها ووضوحها كل أطياف الأمة.
فالسلفيُّ يجد في شخصيته صلابة التمسكِ باتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
والصوفي يجد في شخصيته كأسَ المعارف وبحر الحقائق وينبوع الزهد ومادة الترفع على المادة.
والشيعيّ يجد فيه شخصيةَََ عميدِ الآلِ وقمرِ القربى وزوجِ الزهراء البتول ووالدِ السبطين الشهيدين.
والسنيُّ يجد فيه مظهر الخلافة الراشدة ومحلَّ البطولات والفداءِ في مكةَ والمدينةِ والخندقِ وخيبر، وجامعَ الوصفين الكريمين قرابة المصطفى وصحبته.
وعلى ما تقدم فإن من الخطأ أن نتحدث عن شخصية سيدنا علي رضي الله عنه انطلاقًا من مبدأ التحيز أو التحزب أو المذهبية والطائفية، لأنه شخصية لا تقبل في ماهيتها ومضموناتها الضيق والتقوقع والتحجّر والعصبيات، والذي يريد سيدنا عليًا رضي الله عنه مادة للخلاف يكون كمن ينازع في قطيرات مياه البحر.
ولن نقدر على قراءة شيء في شخصية أمير المؤمنين سيدنا علي رضي الله تعالى عنه حتى نتجرد عن الأهواء والعصبيات والأحكام المسبقة التي نبحث لها عن التبرير، وبتعبير آخر حتى نستمد من سيدنا علي رضي الله تعالى عنه هذا الاستعداد الروحي الذي استطاع من خلاله أن يتجاوز الأهواء كلها ويرقى إلى ينبوع الحق ومداد الحقيقة من دون تلطخ بكدورات العصبيات وتعكيرات النـزعات النفسانية، ومَنْ تجاوز الأهواء وتحرر عنها يجعل المبدأ حاكمًا على رغباته، ولا يجعلُ رغباتِه مُسَيِّسَة للمبدأ ومحوِّرَةً له، وهنا تتجلى حقيقة التحرر عن الأهواء.
فالنفس تميل إلى عاداتها، وتنحاز إلى محبوباتها، وترغب فيما تألفه من العلائق الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (24) التوبة
فتحرر الإنسان عن أهوائه يتحقق حين يُحكِّمُ مبدأ الحق على نفسه فتتوجه علائقُه الثمانية لتصير خادمة للمبدأ الحق بعد أن كانت عائقًا ومثبطًا ومبطئًا له.
ثانيا - البحث:
ولنا أن نستعرض بعض النماذج في حياة سيدنا علي رضي الله تعالى عنه التي نشهد فيها حقائق التحرر عن الأهواء.
1. تحرر نفسه من تقديم الأب على المبدأ:
فمنها تحرره رضي الله عنه عن الأهواء حين قدّم عند إسلامه الاستجابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على استشارة أبيه بعد تفكيره وتأمله[1]، والنفس تميل بعادتها إلى استشارة الأب في مثل هذا الحدث الكبير الذي كان يمثل انقلابًا على دين الأجداد، ورفضًا لمنهج العشيرة والقوم، وهكذا كان رضي الله عنه يحكِّمُ المبدأ على عادات النفس .
2. تحرر نفسه من حب البقاء وتقديم المبدأ عليه:
ومنها تقديمه فداءَ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم على حبِّ النفس للبقاء والعيشِ الدنيوي، يوم نام داخل فراش النبي صلى الله عليه وسلم وقتَ الهجرة[2]، والنفسُ ترغبُ عادة في البقاءِ وتهربُ من الموت.
3. تحرر نفسه من تحكم البغضاء المانعة من العدل :
ولم يمنعه إيذاؤهم له بالضرب من رد الودائع إليهم وكانوا أودعوها عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة[3] ، والنفس تتمنعُ عن إيفاء العدو حقه، فوافق المبدأ الرباني الذي يقول: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ){8}المائدة ، وحكّمه على ميول النفس العادية.
4. تحرر نفسه من الإخلاد إلى الراحة على حساب المبدأ:
ومنها هجرته بعد ذلك من مكة إلى المدينة وحيدا وماشيا على قدميه في طريقٍ طويلٍ شاقٍّ، راغبا في الله ورسوله[4]، والنفسُ تتعللُ عادة بالضعف، وتعتذر عن مثل هذا بالمشقة، لكنه تجاوز ضعف النفسِ وحكَّم عليها مبدأ الحق.
5. تحرر نفسه من الهوى وهيمنة الرأي باستسلامه للقرآن:
ومنها تفاعله رضي الله عنه مع القرآن الكريم، إلى درجة كان يعجبُ فيها ممن يقرأ القرآن ويدخل النار، وما ذاك - بنظر الإمام – إلا لأنه عابثٌ فقد جَدِّية التفاعل معه، وهو في هذا يقول: "من قرأ القرآن، فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوً"ا[5]، وكان يعبر عن معرفته بالقرآن فيقول: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت"[6] وربما كان رضي الله عنه يميل إلى إعمال ظاهر القرآن الكريم حين لا يرى القرينة التي تقتضي صرفه عن ظاهره، فإنه كان يتوضأ لكل صلاة مستدلا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]لأن ظاهرها يدل على الوضوء عند إرادة الصلاة كل مرة، وكان يرى أنَّ إرضاعَ من تجاوز الحولين لا يحرمه؛ استنادًا إلى ظاهر آية الرضاعة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فالرضاعة المعتبرة بنظره - رضي الله عنه - سنتان[7]، وكل ما تقدم دالٌّ على شدة تفاعله مع القرآن، ولا يقدر على التفاعل مع القرآن إلا الحرُّ عن الهوى، فقد قال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ) {15}الشورى وقال تعالى: (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) {49}المائدة
6. تحرر نفسه من أسر الأحكام المحسوسة تصديقا بالغيب الصادق:
ومنها أنه - رضي الله عنه - كان يترفعُ عن الانحباسِ في المرئيِّ المحسوس، مرتقيا إلى تصديقِ الغيبِ المخبرِ بالحقائق الإلهية الصادقة، فقد جاء رجل يسأله عن قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] والرجل يرى تسلط بعض الكافرين على المؤمنين، فأجابه - رضي الله عنه - أن ذلك يكون يوم القيامة اعتمادًا على قوله سبحانه وتعالى في نفس الآية: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[8]، فأراد سيدنا علي - رضي الله تعالى عنه – أن تكون عينُ القلبِ حاكمة على عين النفس والجسد، وهي من حقائق التحرر عن الأهواء.
7. تحرر نفسه من الرغبة في الملبس المزيَّن اتباعا للمصطفى وموافقة له:
ومنها أنه - رضي الله عنه - كان يلتزم الموافقة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، حين يأمره عن شيء أو ينهاه عنه وإن كان مرغوبا للنفس، فقد أعطاه النبي rحلة مخططة بالحرير، فلبسها وخرج فيها، فقال: يا عليّ، إني لم أكسُكَها لتلبسها، فرجع بها إلى فاطمة، وقال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبسها، فالبسي واكسي نساءك[9].
8. تحرر نفسه من عداوة الخلفاء الراشدين:
ومنها أنه - رضي الله عنه - كان مظهر موافقة للجماعة، ومحافظة على وحدة الأمة، وكان من خلال هذا المنطلق حريصا على استقرار الحالة السياسية في الأمة، وكان مؤازرا للخلفاء الراشدين الثلاثة الذين جاؤوا قبله، وكان عليهم حريصا.
ففي البداية والنهاية ينقل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ أبا بكر لما استوى على راحلته قاصدا الغزو، أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: (لُمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا فرجع.[10] ، وهو واحد من مواقفه التي كان فيها جماعيا يشغله شأن الأمة عن شؤون الفردية المقيتة، ويمثل ارتقاء إلى ذروة التحرر عن الأهواء.
وفي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الوزير والمستشار له، وقد التزم أمره له باستخلافه على المدينة مرارًا، منها استخلافه حين خرج عمر إلى ماء صراء فعسكر فيه، وكان الروم قد حشدوا للمسلمين،[11].
ومنها استخلافه له في المدينة عند نزوله بالجابية في رحلته إلى فلسطين[12].
ومنها استخلافه له في المدينة حين حج بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث وعشرين من الهجرة[13].
وقد زوج سيدنا علي رضي الله عنه ابنته أم كلثوم وابنة الزهراء فاطمة بنت المصطفى من عمر رضي الله عنه حين طلبها منه وقال: قد فعلت، فأقبل عمر إلى المهاجرين، وذكر لهم أن سبب زواجه منها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: (كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا ما كان من سببي ونسبي) فأحبب أن يكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب نسب[14].
وقد ذكر هذا الزواج من علماء السنة الطبري[15]، وابن كثير[16]، والذهبي[17]، وابن الجوزي[18]، وذكره في التراجم، ابن حجر[19]، وابن سعد[20]، وأسد الغابة، وأقر به محدثوا الشيعة وفقهاؤهم، وأورد الشيخ إحسان إلهي ظهير روايات بخصوص ذلك في كتابه (الشيعة والسنة)[21].
وكان علي رضي الله عنه مؤازرا لعثمان رضي الله عنه وكان يعيب على من يذمه في توحيد المصحف ويقول: يا أيها الناس! لا تغلوا في عثمان، وقولوا خيرًا ـ فو الله ما فعل الذي فعل ـ أي في المصاحف ـ إلا عن ملأ منا جميعًا ـ أي الصحابة ـ... والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل[22].
ولما كانت الفتنة أرسلَ إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي، فأمنعك من القوم، فإنك لم تُحدث شيئًا يُستَحَلُّ به دمك، فقال: جزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم في سبـبي[23].
وروى الحاكم بإسناده عن قيس بن عبّاد قال: سمعت عليًّا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قومًا قتلوا رجلاً قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة)، وإني لأستحي من الله أن أبايَعَ وعثمانُ قتيلٌ على الأرض لم يُدفن بعد، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس فسألوني البيعة فقلت: اللهم إني مشفق مما أُقدم عليه، ثم جاءت عزيمةٌ فبايعت، فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين، فكأنما صُدِع قلبي، وقلت: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى[24].
وما أحسن ما قاله الصوفي العارف أيوبُ السختياني حين قال: "من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله عز وجل، ومن أحب عليًا فقد استمسك بالعروة الوثقى"[25].
وجاء في تاريخ الطبري أن سيدنا عليا رضي الله عنه قال يوم بويع: "إني كنت كارهًا لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم، ألا إن مفاتيح ما لكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهمًا دونكم، ثم قال: يا أيها الناس، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد، ثم رفع صوته قائلاً: رضيتم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد عليهم، وأقبل الناس يبايعونه[26]، ويتبين مما تقدم أنه رضي الله عنه كان زاهدا في الخلافة، حرا عن رغبة النفس في الرياسة والصدارة راغبا في الله، طالبا رضاه.
ولما امتلأ بيت المال في زمانه أعطى المسلمين جميع ما فيه وهو يقول: يا صفراء ويا بيضاء غُرِّي غيري، ها ها، حتى ما بقي منه دينار ولا درهم، ثم أمره بنضحه وصلى فيه ركعتين رجاء أن يشهد له يوم القيامة[27].
ولما تذاكروا الزهادَ عند عمر بن عبد العزيز، قال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب[28].
وذكر الذهبي أن سيدنا عليًّا رضي الله تعالى عنه ركب حمارًا ودلّى برجليه وقال: "أنا الذي أهنت الدنيا" [29].
ثالثا - الخلاصة:
واجبنا أن نجعل سيرة عظمائنا كسيدنا علي نبراسا نجتمع عليه ولا نتفرق، ونستفيد من جوانب عظمته ولا نتحزب، فقد كانوا رمز الفناء في الله عن نفوسهم ونموذج الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم في الاستقامة والاتباع.
|