العدالة في الإسلام ونتائجها الإنسانية
من المحور 11: العدالة وأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
أولا- تمهيد:
مع تحول العالم في هذا الزمن إلى سوقٍ فوضوي يختلط الحابل فيه بالنابل، ومع ضياع حقوقِ الضعفاء والفقراء، وطغيان الأقوياء والأغنياء، وسيطرة السلاحِ الدموي على القيم الخُلُقية، وارتفاعِ الأصواتِ الطبلية الخادعة فوقَ الكلمات الإنسانية الصادقة، مع كل هذا يتساءل الإنسان: ما الذي أصابَ أرضنا المعمورة؟
إنَّ الملائكة قالوا لربهم يومَ خَلَقَ آدمَ: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) فأجابهم العليم الحكيم: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، فهل يمكن لخوف الملائكة أن يكون متفوقًا على حكمة عالم الغيب والشهادة؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا..
لكنه سر اختلاف الليل والنهار على الأرض، فإذا حلَّ الليل وطال أصدر الملك القدوس الحكيم العدل أمرا يقول فيه: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) وما كان للحكيم الموصوف بالحكمة والعدالة أن يسمح بخلل التوازن الذي أقره في مملكته الكونية، فقد قال سبحانه: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}، نعم إنه طلب من الإنسانِ المتوَّج بالاختيار أن يحافظ على هذا التوازن، فقال له: {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}، والميزان مبيَّنٌ برسالات الرسل (ليقوم الناس بالقسط ) وحين يتمرَّدُ هذا الإنسانُ على نظام العدالة والتوازن الواضح المبَيَّن يوقظه مولاه من غفلته بإيلامٍ تطبيـبيٍّ، لعله يرجع عن طغيانه: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ){21} السجدة، فإذا أصرَّ على الطغيان ودام عليه زاده من صنوف البلاء (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ) {133}الأعراف، فإذا عاند بعد كُلِّ هذا وكفر وجحد، يفتح الله تعالى له بابَ المادة ولذائذها، ومُتَعها، فيستغرقُ فيها ويغفلُ تماما عن رحلة الآخرة، وعندها يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ {44}الأنعام، ثم تعقد لهم بعد ذلك في الآخرة محكمة العدالة الكبرى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ){47}الأنبياء، فيكون بعدالة اللهِ تعالى للمتمردين (خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ) وَيكون لَهُمْ (فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وتكون بفضله تعالى للمحسنين الحسنى وزيادة، و بهذا يتواصل خيطُ نظام العدالة في الكون مع خيط نظامه المتوجه إلى الإنسان، ويتجلى الخطاب الأزلي المجلجل قائلا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ){16-18} الأنبياء
فيتتابع التوازن في الموجودات اضطرارا، وفي عالم التكليف والاختيار الإنساني مآلا .
ثانيا - البحث:
1- مفهوم العدالة:
لمفهوم العدالة في رسائل النور مِساحة كبيرة، مردُّها إلى التزام الوسطية من غير إفراط أو تفريط، وهي فيما يرى الأستاذ النورسي عينُ (الصراطِ المستقيم) الذي وضَّحته الشريعة الإسلامية، واختصره القرآن في قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) .
والتزامُ الوسطية في منظور الأستاذ وإن تسمّى بأسماء متعددة في مستوياتٍ متعددة، لكنه في جميع الأحوال يمثل العدل:
- ففي مستوى العقل يسمى (الحكمة) ويكون الإفراط الذي على طرفها الجربزة الخادعة والتدقيق في سفاسف الامور، أما التفريط المقابل في الطرف الآخر فهو الغباوة والبلادة.
- وفي مستوى الاعتقاد بصفات الله تعالى يسمى العدلُ (مذهبَ التوحيد) ويكون الإفراطُ الذي على طرفه نِحْلةَ التعطيلِ ونفيِ صفاته تعالى، أما التفريطُ المقابل في الطرف الآخر فهو في نِحلةِ تشبيه الخالق بالخلق.
- وفي مستوى الاعتقاد بخلقِ الأفعال الإنسانية الاختيارية يسمى العدلُ (مذهبَ أهل السنة) ويكون الإفراط الذي على طرفه الاعتقاد بالجبر ، أما التفريط المقابل في الطرف الآخر فهو الاعتزال والاعتقادِ بخلق الإنسان لأفعال نفسه .
- وفي مستوى الغريزة البشرية يسمى العدلُ (العفة) ويكون الإفراط الذي على طرفه الفجور فيشتهي ما صادف حَلَّ أو حَرُمَ، أما التفريط المقابل في الطرف الآخر فهو الخمودة وعدم الاشتياق إلى شيء.
- وفي مستوى الأخلاق الإنسانية لا سيما ما يتعلق منها بقوة الغضب يسمى العدلُ (الشجاعة) وبذلَ الروح بعشقٍ وشوق لحماية مبادئ الحياة الإسلامية، ويكون الإفراط الذي على طرفه التهوّرَ الذي هو والدُ الاستبداد والتحكم والظلم، أما التفريط المقابل في الطرف الآخر فهو الجبن والتوهم والخوف مما لا يُخاف منه.
ويقاس كل شيء على ما تقدم .
2- منطلقات العدالة ومصادرها بمنظور رسائل النور:
2- 1- العدالة من مقاصد القرآن:
يرى الأستاذ النورسي أن مقاصد القرآن الكريم منها ما هو تعريفي بالغيب يرتقي به الإنسان في عوالم الحقائق الإيمانية، ومنه التعريف بالتوحيد والنبوة والحشر، ومنها ما هو توجيهي يسترشد به الإنسان في حياته السلوكية الخاصة والعامة، وهو عين منهج العدالة، وبهذا يعتبر الأستاذ العدالة مقصدًا من مقاصد القرآن الكبرى ، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى){90} النحل .
كما أنَّ ذكرَ القرآن الكريم لتفصيلات الكائنات لا يكون – في نظر الأستاذ- إلّا تبعيًّا واستطراديًّا للاستدلال على ما تقدم من المقاصد، لأنَّ القرآن – كما يراه- ما نزل لدرس الجغرافيا وعلوم التجربة إنما نزل معرِّفا للإنسان، ومرشدًا له، ودالاًّ إيَّاه من خلال النِظام الكوني البديع على النَظّام جلَّ جلاله، وما في نظامه من العدالة والحكمة ، وكأنَّ حكومةَ الخِلقة أرسلتْ إلى البشر المخلوقين بالقرآن رسالةً ضمنتها فَنَّ الحكمةِ، تُذَكِّرُهُم بالمبدأ والمآل وتقول لهم: "يا بني آدم! مِن أين؟ الى أين؟ ماتصنعون؟ مَنْ سلطانكم؟ مَنْ خطيبكم؟"
2- 2- دعوة الإسلامِ الإنسانَ إلى التناسب مع العدالة المتجلية في الكون:
كان الأستاذ النورسي يرى أنَّ العدالة التي هي وصفُ الله تعالى في الأزل تتجلّى في هذا الكون، فيصيرُ بها متوازنا ومنتظما في حركاته وسكناته اضطرارا لا اختيارا، وأنَّ الإنسانَ بين كل الموجودات مكلَّفٌ اختيارا بالإسلام الذي هو في حقيقته خطابُ العدالة الأزلية ، "وأنه في وسط مخروط الكائنات قائمٌ، حاملٌ للأمانة، مقلَّدٌ بالخلافة.... يرى النظام العام الذي يأمر بالعدل في كل شيء، ويرى الميزان التام الذي ينهى عن الميل في كل شئ ، ويرى "الاقتصادَ والطهرَ والعدالةَ سننًا إلهيةً جارية في الكون، ودساتيرَ شاملة تدورُ رحى الموجودات عليها لا يفلت منها شيء إلاّه، فهو الموجود المختار الذي شقي بعلل نفسه" ، وكان الأستاذ يرى أنَّ الإنسانَ حين يخالفُ سُنَنَ العدالة الإلهية السارية في الموجودات سوف" تنفرُ الموجوداتُ منه وتغضب عليهِ غضبا يستحقُّه" لأنه كان الشاذَّ الأوحد بينها .
ويشهد لما بيَّنه الأستاذُ النورسي رحمه الله ما قاله الصحابيُّ ابن مسعود: "إن الجبل ينادي الجبلَ باسمه: أي فلان هل مرَّ بك اليوم أحد ذكر الله؟ فإذا قال: نعم استبشر، قال (عون) أحد رواة هذا الحديث: "فيسمعن الشر، ولا يسمعن الخير؟! هنَّ للخير أسمع، وقرأ:(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا) {88-92} .
وبخروج الإنسان عن توجيه الإسلام يحصلُ إخلالٌ بهذا التناسب، وقد فسَّرَ الأستاذ قوله تعالى: (لاَ تُفْسِدُواْ) أنه: "لا تفعلوا هكذا، والاّ نشأ منه الهَرْج والمَرْج، فينقطع خيط الإطاعة، فيتشوش نظام العدالة ... فلا تفعلوا لئلا تفسدوا ، وبفساد البعض يحصل فساد النظام العام ويعود أثر ذلك الفساد على الكل، كانكسار مسنن واحد في دولاب ساعة فتتأثر به الساعة كلياً أو جزئياً ، ويشهد لهذا المعنى تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع بسفينة، فحين يخرقُها بعضُ الحمقى يغرق فيها الذكيُّ والأحمق ، وهكذا يعود فساد الإنسان وظلمه وخروجه عن منهج العدالة بالشر على أبناء جنسه وعلى ما حوله من الموجودات.
2- 3- سيادة العدالة على القوة في الإسلامِ:
بين الأستاذ النورسي أنَّ القرآن الكريم يجعلُ (الحقَّ) منطلقَ السلوك في الحياة بدلاً من (القوة) ويجعل الغاية رضاء الله سبحانه بدلاً من (المنفعة) ويدعو إلى قانون (التعاون) بدلا من نزعة (الصراع) ويدعو إلى تجاوز رغبات النفس الأمارة، انطلاقا بالروح إلى معالي الأمور، كما أنه يسوق الإنسان نحو الكمال والمثل الإنسانية ، وهكذا تصبح قوة المبدأ غالبة لمبدأ القوة، وفي هذا يقول الأستاذ: "النبوة تقرر أن القوة في الحق وليس الحق في القوة، فتقطع بهذا دابر الظلم وتحقق العدل" .
ويعرّي بعد ذلك المادِّية المعاصرة، ويبين أنها على عكس منطلقات القرآن، لأنها تؤمن بفلسفتها أنَّ ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي " القوة " و تستهدف " المنفعة " في كل شئ، وتتخذ " الصراع " دستوراً للحياة وتلتزم العنصرية والقومية السلبية رابطةً للجماعات، وغايتها إشباع رغبات الأهواء وميول النفس ، لكن إلى جانبها يسير تيَّارٌ نافعٌ يقدم للبشرية خدماتٍ كثيرة، لا سيما في حياة الإنسان الاجتماعية، بما توصل اليه من صناعاتٍ وعلومٍ تخدم العدل والإنصاف .
3- آثار العدالة الإسلامية:
3-1- الآثار الاجتماعية:
3-1- أ – وحدة المعايير المنظمة:
إذا كان للعدالة مكانة في المجتمع فسوف تقوده إلى وحدة المعايير والموازين المنظمة لهذا المجتمع، فتتحقق مساواة الجميع أمام القانون والتشريع، وتنتفي الاستثناءات المخلة بمضمون العدالة واعتباراتها، وقد تأسس المجتمع الإسلامي الأول الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم على وحدة المعايير المنظِّمَة، فتحققت مساواة الأفراد كافَّةً أمام القانون، ويوم طلب بعض الناس في المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم الاستثناءَ من العقوبة نادى فيهم: (أَيّهَا النّاسُ إنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ، تَرَكُوهُ، وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدّ، وَايْمُ اللّهِ لَوْ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) .
وقد أشار الأستاذ النورسي إلى هذه الحقيقة بقوله: "إن العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة أصلا" .
3-1- ب – الإنصاف والتأديب:
أما تجليات العدالة الاجتماعية على أرض الواقع فمظاهرها كثيرة، لكنها كافة ترجع إلى أمرين:
- التوزيع العادل للحقوق في المجتمع، أي إعطاءِ كل ذي حق حقه، وهو ما يسمى بلغة الأستاذ (شق العدالة الإيجابي) وهو عين الإنصاف.
- وإنزال العقوبة بكل مخل بالعدالة، وتأديب غير المحقين، مهما كانت رتبتهم أو منـزلتهم وهو ما يسمى بلغة الأستاذ (شق العدالة السلبي) .
ويرى الأستاذ أنَّ هذين الشقين تجلت بهما في الأصل العدالة الإلهية الأزلية، فكان الشقُّ الإيجابيُّ ظاهرا في توازن الكون، وكان الشقُّ السلبي واضحا في إنزال سَوط العذاب بالأقوام المتمرِّدة السالفة كقوم عاد وثمود ، وعلى الإنسان الخليفة في الأرض أن يلاحظَ هذين الشقَّين من العدالة في السلوك الاجتماعي الإنساني، أعني توزيعَ الحقوق بعدالة، وتأديبَ المتمرِّدينَ على سلطنة العدالة، فليس تطبيقُ هذين الشقين من واجبات السلطة السياسية فقط، بل يجب على المجتمع كله أن يتبنّى هذا التطبيق، لتكونَ السلطةُ الحاكمة في هذا منفذةً لرغبة المجتمع بتطبيق قسمي العدالة هذين.
3-1- ج – السلام، وانتفاء الظلم العالمي:
وحين يتوسع الإنسانُ في احترام العدالة ليبلغَ المِساحة الكلية على الكوكب الأرضي، ويعتبرُ أصل المساواة بين البشر كافَّة، باعتبار أنهم جميعا أبناءُ الأب الواحد آدم، سيجدُ اتساع السلام على الأرض.
ويرى الأستاذ النورسي أنَّ وقوعَ النفوسِ في رُعوناتها القبيحة يرجعُ إلى قاعدتين خبيثتين يستخدمهما الإنسانُ في سلوكه الاجتماعي:
- الأولى: إن شبعتُ فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع.
- والثانية: اكتسب أنت لآكل أنا، واتعب أنت لأستريح أنا. وهاتان القاعدتان تنتجان في حياة الإنسان تردّيا وانحدارا وانحطاطا .
وإنَّ العالم يعيشُ اليوم حالة ظلمٍ شديد من الدول المهيمنة في الشمال على الدول الفقيرة في الجنوب، وهذا الظلمُ يستند إلى ذرائعَ واهية لا صلة لها بميزانِ العدالة أبدا، فقد شُنَّت في الآونة الأخيرة حربٌ على شعب أفغانستان بأكمله لتأديبِ مجموعةٍ من الشباب كما يزعمون، وشُنَّت على شعبِ العراقِ كلِّهِ حربٌ ظالمةٌ لتأديبِ مجموعة حاكمة كما يدّعون، وقُطِعَ الإمدادُ الاقتصاديُّ عن شعبِ فلسطين، لأنَّ جماعةً لا يهواها الغربُ قد وصلت إلى الحكومة، فأينَ العدالة من كل ذلك، والأصلُ في العدالة المحضة – كما يقرر الأستاذ- أن لا يعاقبَ أحدٌ بذنب أحد ، ودليله ما قاله الله تعالى في قرآنه: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى)الأنعام 164، بل إنَّ الأستاذ يرى أنَّ الذي يهون عنده ظلمُ شخصٍ واحدٍ أو هلاكُه تحقيقاً لحرصه وإشباعًا لنـزواته وهوى رغباته، فإنه مستعدٌّ لتدمير العالم والجنس البشري إن استطاع .
ومع الأسف تسعى المادِّية المعاصرة لتحصيلِ الرفاهيةِ لدى سكان الشمال على حسابِ سحقِ سكَّان الجنوب، فهي – كما يرى الأستاذ- تضحي بالأكثرية في سبيل الأقلية، فتنتفي بذلك المساواةُ البشرية، وينتقض منهج العدالة، أما عدالة القرآن الكريم المحضة فلا تضحّي بحياة أحد، لا في سبيل الأكثرية، ولا لأجل البشرية قاطبة، بل تنظر إلى الفرد والجماعة والشخص والنوع نظرة واحدة .
ثم إنَّ عدالة القرآنِ تحفظ الدماءَ وتمنعُ سفكها في المجتمع، وبذلك يترفَّعُ المؤمن المنضبط بمنهج هذه العدالة عن قتل بريءٍ لا ذنب له، وقد أعلن القرآن ذلك بوضوح: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) {32} المائدة ، ويؤخذ من هذا البيان –كما جاء في رسائل النور- أعظمُ دستور للعدالة يبيِّنُ أنه لا يهدر دم بريء ولا تزهق روحه حتى لو كان في ذلك حياة البشرية جمعاء، اللهم إلا أن يوجدَ فردٌ فِدائيُّ محبة، فيحمي بنفسه الكلَّ، حينَ يضحّي بنفسه من أجل وطنه أوشعبه أو أمته، وعندها يكونُ مُغَيِّبًا لـ (أنا) في (نحن) ومولدًا بهذا الفداء روح الجماعة، وهو ما سماه الأستاذ النورسي ( العدالة الإضافية) .
3-1- د – الانضباط السلوكي الاجتماعي:
إنَّ العدالة حين تسود في المجتمع تفشو الفضيلة وتعم، فيكون الإنسان عادلا في نفسه، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ...} [النساء: 135] ، ويكون الإنسان عادلا في أسرته، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا ـ يَعني الذّكُورَ ـ أَدْخَلَهُ الله الْجَنّةَ" .
ويكون الإنسان في هذه الفضيلة عادلا في أقواله، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] فتنضبط الأقوال بمنهج العدالة، ولا يكون الكذب والزور والبهتان ديدنَه، وكذا يكون الإنسان عادلا فما يُدَوِّنُ ويَكتُبُ، وقد قال تعالى: { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] ، وخصوص السبب في كتابة المعاملات التجارية بالعدالة لا يمنعُ عُمومَ دلالة اللفظ الموجه إلى عدالة الكتابة والتدوين، فلا يزيد في كتابته على الحق ولا ينقص منه، ويكون الإنسان في هذه الفضيلة عادلا حتى مع عدوه وبغيضه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} أي لا يحملنَّكم بُغْض قومٍ على ترك العدالة, فدينكم يريدكم أصحاب عدالة مع من تحبّون و تُبغضون، وبهذا يُباينُ المنهجُ الربانيُّ الذي يتبنّاه المؤمنون والذي غايته رضاء الله تعالى، طريقَ المادِّية الذي غايته (المنفعة) وأيُّ منفعة في العدالة مع الخصم في منظور الماديين؟
3-1- هـ – العالمية الرحيمة بدلا من القومية المتزمتة:
لقد تجاوزت عدالة الشريعة الإسلامية حدود الأعراق والقوميات والأقاليم، وحققت تواصلا بين من ينتمون إلى تلك النسب المختلفة في خُمس البشرية منذ أربعة عشر قرناً، وكان هذا التواصل قائمًا على الحق والعدل بطريقة لا تقبل مثيلاً أبداً ، بل إنَّ الأستاذ النورسي كان يرى أنَّ الإسلام بعدالته سيرفع من شأننا في زمن قصير بتوحيد العرب والطوران وإيران والساميين.. ، أي أنه سيتجاوز حدود الأعراق والقوميات ليكون الجميع تحت شعار: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) {13}الحجرات
ولا يمكن في نظر الأستاذ تحقيق العدالة الإنسانية مع وجود هيمنة النـزعة القومية على البشر، وهو يرى أنَّ مقاومة السبطين الشهيدين الحسن والحسين رضي الله عـنهـما للأمويين هي في حقـيقـتها صراع بين الدين والقومية، إذ اعتمد الأمويون على جنس العرب في تقوية الدولة الإسلامية، وقدّموهم على غيرهم، أي فضّلوا رابطة القومية على رابطة الإسلام، فآذوا الأقوام الأخرى بنظرتهم هذه، ووّلدوا فيهم الكراهية والنفور، واتبعوا الأسس القومية والعنصرية الظالمة التي لا تتبع العدالة ولا توافق الحق، لأن الحاكم العنصري يفضل من هم من بني جنسه على غيرهم، فكيف يبلغ العدالة؟ أما الإسلام فيربِّي أبناءه على أنه يجبّ وينسخُ ما قبله من الكفر وعصبية الجاهلية، ولا فرق فيه بين عبد حبشي وسيد قرشي إذا هما أسلما، لكن حين تصبح رابطة القومية بدلاً من رابطة الدين لن تكون عندها عدالة قط بل تهدر الحقوق ويضيع الإنصاف.
وفي النتيجة فإنَّ تفضيل قوانين المادِّية المعاصرة في عالم الاجتماع على عدالة القرآن يشبه في رأي الأستاذ تفضيل ظلم "يزيد" الملعون على عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وترجيحَ محاكم التفتيش الظالمة على عدالة القرآن الكريم العظيمة.
3-2- الآثار الاقتصادية:
3-2- أ- العدالة الاقتصادية في نفس الإنسان:
من أوائل الآثار الاقتصادية لعدالة الإسلام أن يكون عادلا في نفسه بين الإفراط والتفريط، وهو ما أشار الأستاذ النورسي إليه بـ (الاقتصاد) في سلوكه المالي، وكان يحَدِّث بنعمة الله عليه في الاقتصاد، حيث أنتج لديه الاكتفاء، والاستغناء عن الناس، وكان يسوق الحديث الشريف "لا يعول من اقتصد" ويبيِّنُ أن هناك من الدلائل القاطعة التي لا يحصرها العدّ أنَّ الاقتصاد سبب جازم لإنزال البركة، واساس متين للعيش الافضل، ويخبرُ أنه حصل مع اصدقائه على عشرة أضعاف من البركة بسبب هذا الاقتصاد، ورفض لذلك عطاء بعض الأثرياء من محبِّيه حين قدَّموا إليه زكاة أموالهم، ورأى الأستاذُ أنَّ كثيرا من المال يستعمل في الاسراف، وتدفع احياناً الكرامة والشرف ثمناً ورشوة له، بينما لو اقتصر الانسان على الحاجات الضرورية واختصرها وحصر همّه فيها، فسيجد رزقاً يكفل عيشه من حيث لا يحتسب، وقرر الأستاذ أنَّ الآية الكريمة: (وما من دابة في الارض الاّ على الله رزقها) (هود:6) تتعهد بذلك تعهداً قاطعاً.
3-2- ب- العدالة الاقتصادية في المجتمع:
مما يعين على تحقيق العدالة الاقتصادية في المجتمع الاعتقاد بأن المال مال الله وأنَّ الإنسان مستخلف فيه، وقد رأى الأستاذ النورسي أن الأغنياء إذا لم يمنحوا الفقراءَ المالَ في سبيل الله وباسم الله فانهم سيُـبدون منّةً وتفضلاً عليهم ، ويجعلون الفقير المسكين تحت أسر تلك المنَّة مكبَّلا بأغلالها، وسوف يُحرَمونَ من دعائه الخالص المقبول عند الله تعالى، زيادة على كونِ ذلك الثريِّ منهم جاحدًا بنعمة الله تعالى لأنه ظَنَّ نفسه صاحب المال، وما هو إلا مؤتمن مستخلفٌ فيه، مأمورٌ بتوزيعِ مال الله على عباده ، فليس المال إلا مال الله وما على الأغنياء إلا أن ينفقوه باسم الله.
والأستاذ يرى أنَّ العدالة تزول بجريان الربا، وعدم أداء الزكاة، وأنَّ الدواء الشافي الذي يعيد المجتمع إلى العدالة هو تطبيق الزكاة في المجتمع وفرضها فرضاً عاماً، وتحريم الربا كليا، لأن في البشرية طبقتين: الخواص والعوام والزكاة تؤمّن الرحمة والاحسان من الخواص تجاه العوام، وتضمن الاحترام والطاعة من العوام تجاه الخواص، ويرى الأستاذ أنَّ هذا التناغم بين الطبقتين إذا لم يحصل، فستنهال مطارق الظلم والتسلط على هامات العوام من أولئك الخواص، وينبعث الحقد والعصيان اللذان يضطرمان في أفئدة العوام تجاه الاغنياء الموسرين، وستظل هاتان الطبقتان من الناس في صراع معنوي مستديم، وتخوضان غمار معمعة الاختلافات المتناقضة، حتى يؤول الامر تدريجياً الى الشروع في الاشتباك الفعلي والمجابهة حول العمل ورأس المال كما حدث في روسيا.
3-2- ج- العدالة الاقتصادية في قانون المواريث الإسلامي:
لقد قسم التشريع الإسلامي ميراث المتَوفّى على أسرته توزيعا عجيبا يعتبرُ واقعَ السلوك الإنساني المتباين، ولم يرتقِ إلى عدالة هذا التشريعِ أيُّ قانونٍ بشريٍّ وضعيّ، وكيف يكونُ تنظيمُ البشر متفوِّقا على تنظيم عالم الغيب والشهادةِ سبحانه، وقد ناقش الأستاذ النورسي بعضَ الفروعِ التفصيلية في تشريع الميراث، كقوله: "ان الحكم القرآني (فللذكر مثلُ حظِّ الانُثيين) النساء 176 محض العدالة وعين الرحمة .. لأن الرجل الذي ينكح امرأة يتكفل بنفقتها كما هو في الاكثرية المطلقة، أما المرأة فهي تتزوج الرجل وتذهب اليه، وتحمّل نفقتها عليه، فتلافي نقصها في الارث" ، ثم إنَّ الأستاذ يعيب على القوانين الوضعية التي حرمت الأمَّ من ميراث ولدها ويقول: "فحرمان الوالدة من تركة ولدها، ظلم مريع وعمل اجرامي، وإهانة بحقها، وكفران نعمة إزاء الحقيقة الجديرة بالتوقير" ثم يقول: "فان لم يُدرك هذا وحوش البشرية الذين يدّعون خدمتها، فان الناس الحقيقيين الكاملين يعلمون ان حكم القرآن الحكيم في قوله تعالى (فلأمه السدس) عين الحق ومحض العدل ، وهذا هي بعض نماذج من تبيين الأستاذ لهذا الجانب الاقتصادي العادل في الشريعة الإسلامية الحكيمة.
3-3- الآثار السياسية:
3-3- أ – تحقق عناصر الجمهورية:
يرى الأستاذ النورسي أنَّ الدولة توصف بالشرعية، ودولة القانون حين تتضمن:
1- الرغبة في تحقيق العدالة.
2- إعمال الشورى.
3- خدمة القوة للقانون. .
وإذا رغب الشعبُ في تأسيس الجمهورية فأسسها الكبرى هي العدالة والشورى وحصر القوة في القانون .
3-3- ب – وجود أسباب العدالة السياسية:
يرى الأستاذ أنَّ زوال استبداد الدولة يكونُ بوجود المهيمن الوجداني عليها في قوله تعالى: (ان الله لقوي عزيز) (الحج: 74). وأنَّ هذا لا يكون إلا بالمعرفة التامة أو بتعبير آخر بالاسلام، وإلاّ فسيكون الاستبداد هو المستولي دائماً.
وباستعراض تاريخ الأمة الإسلامية رأى الأستاذ أن المهيمن في خير القرون وعصور السلف الصالح كان الحق والبرهان والعقل والشورى، وأنَّ الحال كان كذلك في القرون الاولى والثانية والثالثة إلى القرن الخامس عامة. اما بعد القرن الخامس فقد غلبت القوةُ الحقَ.
ولكون منهج رسائل النور يتضمن (الشفقة والعدل والحق والحقيقة والضمير) فإنَّ الأستاذ يرى منع تلاميذ النور من التدخل بالسلطة الحاكمة، لأنَّ واقعها يفرضُ الانحراف.
لكنَّ الأستاذ يخاطبُ أفراد السلطات الحاكمة مذكِّرًا إياهم بواجب العبدية لله تعالى، وبأداء عبده الملكِ سليمان الذي كان يُنَفِّذُ عدالة الشريعة في الأرض ويقول: "أيها الحكام! ويا من تسلمتم امر البلاد! ان كنتم تريدون ان تسود العدالة انحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان - عليه السلام - واسعَوا مثله إلى مشاهدة ما يجري في الارض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع ارجائها، فالحاكم العادل الذي يتطلع إلى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والســلطان الــذي يرعـى شؤون ابناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل إلى مبتـغــاه إلا اذا اسـتـطـــاع الاطـلاع - مـتى شاء - على اقطار مملكته، وعندئذٍ تعم العـدالة حـقاً، وينقذ نفـسه من المـحـاســبة والتبـعات المعنوية ، فهو لا يريد من الحكّام أن يتحققوا بالعدالة في ذواتِ أنفسهم فقط، بل لا بد لهم من الاطلاع على دقائق ما يجري في بلادهم، ليتمكنوا من تحقيق العدالة للجميع.
ويدعو الأستاذ إلى الفصل التام بين المشاعرِ النفسية العاطفية، وقوانين الشريعة وأحكامها، وبهذا الفصل تتحقق العدالة المحضة، ويروي قصة حاكم مسلم عزل قاضيه، لما رأى منه شيئاً من الحدة والغضب اثناء قطعه يد السارق ، وإذا كان التدقيق على هذا الفصل بهذه الدرجة، فهل يمكن للأهواء والنـزعات النفسانية أن تُسَيِّرَ عدالة الإسلام، أو تكون جزءًا في دولتها؟
3-3-ج – انعدام التلبيس السياسي:
كان الأستاذ يتوقَّعُ أن يلبس الظلم في الحكومات التي ستأتي بعدَه قلنسوة العدالة، وأن ترتدي الخيانة رداء الحمية، وأن يسمّى الأسرُ الحيواني والاستبدادُ الشيطاني حرية.
وكان الأستاذ يعيب على أوربة التي تدَّعي التطور مساندتها للسياسات الدكتاتورية المعاصرة، حيث قسّمت مُلك الخالق الكريم على الطواغيت التي تُعبَد من دون الله ، فلا تتحقق العدالة الإسلامية السياسية حتى يزول من المعاملات السياسية الكذب والخداع و(الميكيافيللية) الابليسية التي قامت أكثر سياسات العالم عليها فصار التلبيس على العموم والخصوص دينها ودنياها.
ثالثًا-الخلاصة:
مما تقدم يتبين لنا أنَّ رسائل النور قد قدَّمت منهجا تعريفيا واضحا للعدالة، وشرحت أكثر آثارها الخاصة والعامة، وربطت المنطلقات العادلة بالنتائج الواقعية، وهو ما يحتاجه منظِّروا العالم النبلاء في أهدافهم، الصادقون في مسعاهم، فالعالم قد وقف بسبب الظلم والظلمات على شفا جرف هار، وما واجب الدعاة إلا إخراجه إلى العدالة والنور. |