توطئة:
درج جلال الدين الرومي في مدارج السالكين إلى العلم، فكان له من العلوم نصيبٌ وافر، ولما أصبحَ عقلُه يضاهي العقولَ بالحجة والدليل، احترق بشمس الجمال المطلق، فألقى رداءَ عقله وعمامتَه ليكونا رهناً عند كأس عشقه[1] ، وصار وهو المطلع على جملة المذاهب حيرانَ تائها في مذهب ذاك العشق[2]، ولاحظ ارتقاءه من علمِ (يجوز ) و( لا يجوز ) في درسِ أبي حنيفة ورواية الشافعي إلى علمٍ[3] يتعرَّف فيه إلى آلاف الآداب الروحية التي لم يكن له أن يتعلمها من المكاتب[4].
هكذا انتقل جلال الدين من وصف عالم النقلِ والدليل إلى وصف العاشقِ ثمَّ العارفِ الذائقِ المشاهد، وكانت مقدماتُه المعرفيةُ في طفولته وشبابه كالكوب الذي ينتظرُ ما سيوضع فيه من الشرابِ العتيق.
مقدمة عامة في حياة جلال الدين الرومي:
الأسرة:
ولد في بلخ عام ألف ومائتين وسبعة (1207م) الموافق لـستمائة وأربعة 604 من الهجرة النبوية المباركة، وكان لسمات الأسرة التي نشأ فيها دور في تكوينه، فكان والده محمد بن الحسين بهاء الدين ولد . [5] عالماً وواعظاً وصوفيا يدعى (سلطان العلماء) وهو اسم قالوا: أطلقه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام [6]، و قيل أيضا إن نسبه يتصل بالصدِّيق أبي بكر. .
البيئة المحيطة:
كانت بلخ كما هو معلوم حاضرة إسلامية كبيرة، فيها العلم والفلسفة، لكنَّ (بهاء الدين) والد جلال الدين كان يبغض الفلسفة، ولم يكن على وفاق مع معاصرِه في بلخ المتكلم فخرِ الدين الرازي[7]. . .
الهجرة:
في السنة التاسعةَ عشرة بعد المائتين وألف الموافقة للعام السادسَ عشر بعد الستمائة من الهجرة هاجر جلال الدين مع أبيه من بلخ قبيل دخول المغول إليها[8] وعمره خمسة عشر عاما، وكان اختيارُ أبيه في السفر الأول الحجَّ إلى مكة، ومر في الطريق بخراسان واجتمع فيها بالصوفي الكبير فريد الدين العطار، وأهداه كتابه: (أسرار نامة ) وتفرس في استعداداته ومواهبه، ومر مع والده بهاء الدين ببغداد فكان له في الأيام الثلاثة التي مكثها فيها استقبال حافل وحضر الخليفة العباسي مجلسه وذهب شهاب الدين أبو حفص السهروردي صاحب (عوارف المعارف) للسلام عليه ولقائه.
أدى الحج جلال الدين وعاد مع أبيه وأسرته فمكثوا في سورية، في دمشقَ وقليلا في حلب، ، وقد قيل إنه سافر مع أبيه إلى أرْزَنْجان في أرمينية ثم تحول إلى لارَنْدة المعروفة بـ (قَرَمَان) في أواسط الأناضول (تقع 100 كم جنوب شرق قونية) وبدعوة من علاء الدين كَيْقُبَاذ سلطانِ سلاجقة الروم حطّ الرحال بهاء الدين ولد مع أسرته وابنه جلال الدين في قونية، في العام التاسع والعشرين بعد المائتين وألف الموافق للسادس والعشرين بعد الستمائة( 626هـ -1229م) وأكرمهم السلطان غاية الإكرام.
الصدارة العلمية:
وفي العام الواحد والثلاثين بعد المائتين وألف في التأريخ الميلادي الموافق للثامن والعشرين بعد الستمائة من الهجرة توفي بهاء الدين ولد، فتصدر جلال الدين مجالس الفقه والإفتاء والتدريس وعمره إذ ذاك أربعة وعشرون عامًا.
العناية التربوية والعلمية:
بعد سنة من وفاة والد جلال الدين وصل إلى قونية برهانُ الدين محققُ الترمذيُّ تلميذُه فاعتنى بجلال الدين ولدِ شيخه عناية شديدة واقترح عليه السفر إلى الشام وأرسله إلى حلب فمكث فيها مدة يزيد محصوله العلمي ومنها يمم شطر دمشق وفي المدينتين حصّل من العلوم الإسلامية ما لا يحصى واجتمع بابن عربي في دمشق، ثم عاد إلى قونية فكانت مدة إشراف برهان الدين على جلال الدين تسع سنوات[9]...
وكانت الحصيلة العلمية لدى جلال الدين في هذه المرحلة كبيرة، فقد قرأ باللغة العربية كتاب الأغاني، و اهتم بالشعر العربي وخاصة بشعر المتنبي ،[10] وتأثر بمقامات الحريري [11] ودرسَ كثيرا من العلوم على مؤرخ حلب كمال الدين بن العديم وتأثر بمقامات الحريري ودرسَ كثيرا من العلوم على مؤرخ حلب كمال الدين بن العديم ودرسَ كثيرا من العلوم على مؤرخ حلب كمال الدين بن العديم ودرسَ كثيرا من العلوم على مؤرخ حلب كمال الدين بن العديم ودرسَ كثيرا من العلوم على مؤرخ حلب كمال الدين بن العديم وتأثر بمقامات الحريري ودرسَ كثيرا من العلوم على مؤرخ حلب كمال الدين بن العديم[12] وقرأ باللغة العربية ( قوت القلوب ) لأبي طالب المكي ، و( الرسالة القشيرية) في التصوف ، و(إحياء علوم الدين ) للغزالي [13]، واجتمع في سورية بسعد الدين الحمَوي، وأوحدِ الدين الكرماني طبقا لما نصحه به برهان الدين .[14]، واجتمع في سورية بسعد الدين الحمَوي، وأوحدِ الدين الكرماني طبقا لما نصحه به برهان الدين .، واجتمع في سورية بسعد الدين الحمَوي، وأوحدِ الدين الكرماني طبقا لما نصحه به برهان الدين .
أضيفَ كل ذلك إلى ما درسه على أبيه من العلوم، وما تلقاه بالفارسية من رقائقَ ومعارف، وما نهله من كتبِ سنائي والعطار الفارسية، وما حصله أصلا منذ طفولته من حفظٍ للقرآن الكريم وحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام .
توفي مولانا جلال الدين سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، الموافقة لاثنين وسبعين بعد ستمائة من الهجرة.
الجذبة الرومية.
توفي برهانُ الدين واستمرَّ جلال الدين على التعليم والتدريس بعد وفاته، وما هي إلا سنة حتى كان الحدثُ الكبير الذي أحدث في مسيرة جلال الدين انقلابا كبيرا، فقد ظهر في قونية رجلٌ في سنّ الستين يدعى (شمسَ تبريز) مديدُ القامة التقى في عينيه الغضبُ والشفقة، وامتلأ وجههُ بالحزن، وأشرقَ روحه بالحال، وكان لاجتماعه بجلال الدين شأن كبير فأثر فيه وملك لبهُ وقلبه، وأنشده شمسُ تبريز بيتًا من الشعر لأبي المجد الصوفيِّ الكبير سنائي وفيه: ( إذا لم يحرر العلم النفسَ من النفس فإن الجهل خيرٌ من علم كهذا )[15]...
فاشتعلت في قلبه جذوة الشوق ، ودخل مع شمسِ تبريز خلوةً طويلة أحرقته، وخرَّبت عادته ومعهوده.
وقد قال في ذلك: ( دون العون المنقذ لسيدي شمس الحق التبريزي لن يكون في وسع أحد أن يتأمل القمر أو يغدوَ البحر )[16]...
فتخلى جلال الدين في هذه المرحلة عن التدريس والإمامة ووقع في الوجد، فكان ذلك سبب نقمة تلاميذه على شمسِ تبريز الذي رأوا فيه مُختطِفَ شيخهم، وأساؤوا إليه، وشعر شمسُ تبريز أنَّ الروميَّ قد وصلَ إلى حالٍ يستطيعُ فيه الاتصال مع الحقيقة، فغادر قونية فجأة من غير مقدماتٍ ولا إعلامٍ لجلال الدين بذلك، وكان هذا بعد عام من لقائه بالرومي.
تأثَّرَ الروميُّ بفراقِ شمسِ تبريز تأثُّرًا شديدًا، وأصابه الهزال، وكان في الشتاء القارس يصعد إلى سطح الدار ويقضي الليل في الصلاة والنحيب[17] . . .
وأرسلَ جلال الدينِ في الآفاقِ يبحثُ عن شيخه حتى عرفَ مكانه في دمشق، وأدركَ شمسُ تبريز أنَّ رحلة الروميِّ إلى مقام التمكينِ والاستغناء بالمحبوب الواحد عن مظاهره لم تكتمل بعد، وأنه ما بقي إليها إلا القليل، فعاد إليه بعد سنة من الفراق، وكأنَّ تلك العودة كانت سبب الإنضاجِ الكبير لجلال الدين، ومنطلقَ رحلته من المعرفة إلى التربية.
وبقي شمسُ تبريز عامًا مع جلال الدين حتى أيقنَ أنَّه استقرَّ في عشقه ومعرفته أو كاد، ففارقه أيضا من غير مقدمات.
وحزن الرومي هذه المرة أيضا بعد اختفاء شمسِ تبريز، وسافر إلى دمشق للبحث عنه، لكنَّه نظر في باطنه فوجد صورته الشمسية منطبعة فيه، ووجد معارفَ روحه متجمعة لديه، فعاش بقية عمره في رحاب تلك المعرفة وفي سطوع ذلك الإشراق[18]...
كان الرومي يرى في جذبته تلك أنَّ العشق يبدّل الإنسان إلى درجة يتحول فيها الأرمنيُّ إلى تركي[19]...
ويعشق محبوبه إلى درجة العبودية فيقسم بحياته : ( إن كل شيء ما خلا رؤية وجهه ، حتى لو كان ملك الأرض خيال وخرافة )[20]...
و يذكر المعشوق الذي ( أسرى بعبده ليلاً ؟ )[21]...
إنه المعشوق ، الأزلي الأبدي ..
وفرع عشقه في الأزل وأصله في الأبد[22]...
ويتساءل: إلى متى يعانق الحمقى معشوقاً ميتاً ؟! [23]...
هل السّكّر أحلى أم ذلك الذي يصنع السكر ؟
هل القمر أجمل أم ذلك الذي يصنع القمر ؟[24]
هل شمسُ السماءِ أعظم أم شمس الحقيقة ؟
لو كانت شمس السماء عظيمة إذًا فما الذي سيحدث لو أن أحداً طلبها في منتصف الليل؟[25]
إذ ذاك لن يبقى سوى "شمسِ شمسِ الشمس"[26]...
وشتان بين من يطلب الكون ومن يطلب المكوِّن:
فعيسى عليه السلام ثمل بالحق، وحماره ثمل بالشعير.[27]
عيسى، ابن مريم، مضى إلى السماء، وبقي حماره في الأسفل..
لذا قرر الرومي أن يبقي جسده على الأرض، وأن يرسل قلبه إلى الأفق الأعلى[28]
إنه سيرقص كجبريل في عشق جمال الحق
ولن يكون كالعفريت الذي يرقص في عشق شيطانةٍ[29]
فمعشوقه جُعِلَتِ الدنيا والآخرة نِثاراً على جماله[30]...
وبسبب عشق وجهه صارت كل ذرة متحدثة[31]...
لذلك حبس الروميُّ الأنفاس واكتفى لأن المعشوق الذي يصنع من الأذن بصراً سيتكلم[32]...
وخاطبَ روحه العارف طالبا منه الانصرافَ عن إنكارِ المنكرين قائلا:
يا بلبل ذلك البستان، كيف حالك في صحبة أولئك الذين لا يسمعون؟[33]
وهكذا بقي الرومي في جذبته تلك مترددا بين عشقه مرة وانجذابه في حضرة الحقيقة المطلقة الأزلية الأبدية مرة أخرى.
النـزول من الجذبة إلى العوالم:
إنَّ كمال المعرفة عند أهلها لا يحصل إلا بالنـزول إلى الأكوان بعد العروج إلى معرفة مكَوِّنها، وهكذا نزل الرومي إلى الأكوان فاستدلَّ بمُكَوِّنها عليها، وقال مدللا على قيمة ذلك النـزول:
( وقد عاد محمد من المعراج ..
ووصل عيسى من السماء الرابعة...) [34]..
(ما أروعه من مجلس حيث يكون الساقي هو الحظ ..
ويكون ندماؤه الجنيدَ وبايزيد.
.....كنت أعاني من الخُمار عندما كنت مريداً ..
ولم أدر أن الحقَ نفسَه مريدٌ لنا.
والآن نمت ومددت قدميّ ..
عندما أدركت أن الحظ السعيد قد جذبني )[35]...
وأشار إلى الثمرة المعرفية لذلك النـزول بقوله:
(العالم ليس سوى زبد لهذا البحر , وماؤه هو علوم الأولياء )[36]...
ولم يكن نزول الرومي إلى العالم تحولا عن معرفة الحق، بل كان زيادة في معرفته لأنَّ العالمَ مرآةُ أسمائه وصفاته.
القراءة المعرفية الرومية في سطور الكون:
كانت قراءةُ الروميِّ في سطور الكونِ أو فيما هو وراء تلك السطور نتيجةً لنفوذه المعرفيِّ من ظواهره إلى ما يكمن خلفها من اللطائف والرقائق، فهو يقرأ - على سبيل المثال- في لوحة النكبة التترية على العالم الإسلاميِّ حِكَمًا تتجلَّى فيها ربوبية الخالق وعظمةُ عدالته وفضله، فيقول:
( يفر الناس من التتار ونحن نعبد خالق التتار )[37]...
( لا تتحدث كثيراً عن نكبة التتار ، تحدث عن نافجة المسك لدى غزالِ التتار )[38]...
(إذا كان ألم المخاض مشقةً عند الحامل، فإنه عند الجنين تحطيم للسجن.)[39]
(والأم تحتاج أحياناً إلى فرك أنف الرضيع لتنبيهه وإطعامه.. كذلك يوقظ الحق الكائنات غير المنتبهة).[40]
ويخاطب الغافلين عن هذه المعرفة في العوالم بقوله:
( أنت ذلك الرجل الذي ركب على الحمار وظل يسأل عنه هنا وهناك )[41].
وكانَ يرى شمسَ السماء المرئية الجميلة النافعة ليست سوى طاهي الحق، فكيف تستحقُّ أن تُعبد[42]...
و يرى الخميلةَ ضاحكة متبسمة كلما نظر إليها[43]...
وكان ينظرُ إلى الإنسان على أنّه مخلوق شريفُ المنـزلة، لا تضرُّ الذنوب بأصل كرامته، لأنه إذا تطهر وتاب سيظهر من جديد مظهره الكريم، وفي هذا يقول:
"حتى لو أن خنـزيراً سقط في المسك، وإنساناً في الروث، لعاد كل منهما إلى أصله."[44]
وكان يصيحُ في التائهين عن سرِّ نفوسهم التي بين جنوبهم بقوله:
(أنت في القيمة أسمى من العالَمَيْنِ كليهما فماذا يمكن أن أفعل إذا كنت لا تعرف قدرك ؟!
لاتبع نفسك رخيصاً , وأنت نفيس جداً في عيني الحق )[45]..
وكان يشهد الناس في مرآته في مشهد فرحٍ بالله ممتزجٍ بالتعظيم له:
فهو يراهم يصفقون بأيديهم كالبحر، ويسجدون للحقِّ تعالى كأمواجه.[46]
ويلاحظ من هذه الأمثلة أنه لم يقف عند مجرَّدِ الظواهرِ الممقوتة لكنه نفذ إلى حقائقها ونبَّه على أسرارها ولطائفها ولو بطريق الإشارة.
وحين يُصرُّ الإنسان على هبوطه وانحداره فسوف يفقد مكانته، وحين يعبد المادَّة يتحول إلى بهيمة، وفي هذا يقول:
أولئك الذين يعبدون العلف يشبهون البقر وسيموتون كالحمير.[47]
والذي لا يعلم أنَّ المادّة التي انشغل بها وحدها تستهلكُ إنسانيته من حيث لا يدري، يكون كالبقرة التي لا تدري مراد القصّابين من علْفِها، يقول الرومي:
"إذا وقفت البقرة على مراد القصابين منها، فمتى تتبعُهم حتى ذلك الدكان؟ أو تأكل من أيديهم النّخالة، أو تدرّ لهم حليبها بسبب مَسْحهم على ضرعها نفاقاً؟ وإذا أكلت فمتى تهضم عَلَفها إذا وَقَفت على المقصود من العَلَف."[48]
التواصل الرومي مع النص الإسلامي:
كان مولانا الرومي متواصلا مع النصِّ الإسلامي، متفاعلا مع القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرى أنَّ ثبات العقلِ الإنساني على رشاده لا يكون إلا باستمداده من مدد الوحي، وأنَّ غيابه يكون حين ينحرف عن وحي السماء، وفي هذا يقول:
"أليست الشمس نموذجاً للعقل المشرق المتألق؟
عندما تمضي الشمس في الفلك في الطريق الخاطئ، يُسوِّد الحق وجهها (يجزيها) بالكسوف ...[49]...
وعقل الإنسان سيعاني من الكسوف إذا انحرف الإنسان عن المبادئ الروحية التي تلقاها من الحق سبحانه[50]...
وكانَ مولانا الرومي يرى في القرآنِ مصدرَ المعرفة الرئيس، وفي هذا يقول:
( التمس معنى القرآن من القرآن وحده )[51].
وكأنه في ذلك يتمثل قول سنائي :
(كل شيء لا تحصل عليه حتى تبحث عنه إلا هذا الحبيب لن تبحث عنه حتى تحصل عليه)[52].
وقد دافع مولانا بقوة عن حقائق القرآن ، وصرخ في أسماع العالم مبيناً أنها ليست من وضع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بقوله:
( رُغم أن القرآن من شفتي النبي فإن كل من يقول إن الحق لم يقله كافر )[53].
وبقوله :
كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يخبر عن أناس وأنبياء مضوا قبل وجوده بعدة آلاف من السنين وماذا سيكون حتى آخر الدنيا وعن العرش والكرسي ........................ كيف يخبر الحادث عن القديم وهكذا غدا معلوماً أنه ليس الذي هو كان يقول بل الحق هو الذي يقول : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى , إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)[54].
وكان يكثر من الاستشهاد بآيات القرآن ويتفاعل مع كلماتها تفاعلاً كبيراً ، فكان تارة يكررها بألفاظها كإيراده الآية: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )[55]، ثم يعلق بقوله :
( ولأن الله قال : ( زُين ) فإنها ليست جميلة حقاً بل إن الجمال فيها مستعار, وآت من مكان آخر . عملة زائفة مطلية بالذهب )[56].
ومن أكثر الآيات وروداً في كتبه ودواوينه : آية النور في سورة النور (مثل نوره ) ، وآية المعرفة في سورة الأعراف ( ألست بربكم ) .
وكان يقتبس من معاني القرآن أو يعبر عن آياتٍ بنفس معانيها ، لكنْ بألفاظٍ أخرى .
ومن ذلك قوله :
( طرنا مع آية الكرسي نحو العرش فرأينا الحي ، وبلغنا القيوم )[57].
( لِمَ يبكي الإنسان على يوسف النفس في البئر؟)[58].
( فاجذب مثال ( إنا أعطيناك ) إلى السائل المحروم ..
عندما تتلو الشفة ( الحمد ) أعطها نقلاً وخمرة من دون حد ..
وعندما تتلو ( ولا الضالين ) اجذبها إلى الدلائل ..
أسير الألم والحسرة أعطه رسالة ( لا تأسوا )[59].
( يونس السجين في بطن الحوت نجا )[60].
( أعدّ صومعة مريحة ليونس في الحوت ، وأخرج أخيراً يوسف من غيابة الجب )[61].
( يوسف بعد احتمال محنهِ بصبرٍ نَعِمَ بالسعادة ووصل إلى أعلى وظيفة في مصر )[62].
( إبراهيم الخليل خليل الله هو المسلم الحق الذي لا يحب الآفلين لكن النار صارت برداً وسلاماً عليه )[63].
( فِيَلةُ العدو قُتِلت على نحو معجز بوساطة الطير الأبابيل )[64].
( ومن هنا فإن فكّ الأغلال الخارجية يوم البعث , عندما تُخرج الأرض أثقالها[65] سيكون تحريراً للبشر )[66].
ويذكر النبي يوسف مفسراً للأحلام[67].
ويذكر عادَ وثمودَ[68].
ويذكر أيوب الصابر في بلواه ..
ويحكي كيف أصيب يعقوب بالعمى من الحزن واشتياقاً إلى يوسفَ مثالِ الجمال..
ويشبِّه نفسه بداود الذي يخاطب الطير مرتلاً أغزاله كأنها كتاب المزامير[69].
وكان مولانا الرومي يدافع بقوة عن أحكام فقهية قرآنية ، مثل حكم القرآن في القصاص من القاتل بالقتل، وفي هذا يقول :
( قال الله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) ، لا شك بأن القصاص شر وهدم لبنيان الله تعالى ، ولكن هذا شر جزئي ، وصون الخلق عن القتل خير كلي ، وإرادة الشر الجزئي لإرادة الخير الكلي ليست بقبيحة ، وترك إرادة الله الجزئية رضاء بالشر الكلي فهو قبيح )[70].
وكان يحكم بحكم القرآن الكريم على الخنـزير أنه نجس ، ويستخدمه للتمثيل بالصفات البشرية المنحطة[71].
ولم يكن مولانا يعبر في بيانه عن حقائق القرآن وحسب ، إنما كان يعبر عن الوحي الثاني أوالحديث النبوي الشريف، إما بإيرادٍ للحديث بلفظه ، أو بإدخال شروح دقيقة تبرز ما خفي فيه من المعاني .
يقول مولانا الرومي :
( قال النبي عليه الصلاة والسلام : اعلم أن ( المؤمن كالجمل ) , ثمِلٌ دائماً بالحق الذي يقوده كسائق الجمل)[72].
ولفظ الحديث : الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ ( أي الذلول ) حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ[73].
فأورد لفظ الحديث ثم دخل إلى حقيقة تستتر خلف ألفاظه بقوله ( ثمِلٌ دائماً بالحق الذي يقوده ) وهو بيان لسر سهولة انقياد المؤمن الذي ورد في مناسبة هذا الحديث .
ولا يستطيعُ باحثٌ منصفٌ أن يفصلَ الروميَّ عن الإسلام ونصوصه بدعوى أنَّه صارَ كونيًّا وعالميا، وقد ذهبُ إلى هذا المذهبِ بعضُ الباحثين، فالروميُّ إسلاميٌّ في الصميم، والعالميةُ هوية إسلامية، والروميُّ نموذجٌ صحيحٌ للمسلمِ العالميِّ الممثل لحقيقة الإسلام، وما إبعادُ الرومي عن الهوية الإسلامية إلا عُدوانٌ على الإسلامِ وتصويرٌ له بالهامشية والسطحية، والإسلام من هذا الوصف بريء.
الخلاصة والنتيجة:
يظهرُ من البحث المتقدم أنَّ مولانا الرومي عالمٌ عاشقٌ عارفٌ انطلقَ من أصوله العلميةِ إلى رحابِ اللطائفِ الذوقية الصوفيةِ مارًّا بالجذبة ونازلا إلى كمال المعرفة فكانَ من جهةِ تحقيقه منجذبَ السرِّ إلى حضرة ربه، ومن جهة الفهمِ مدَققا في أحكامِ الكونِ وحكَمه وأنواره وأسراره، ولم يكن في كل هذا منقطعا عن النصِّ الإسلامي بل كان متواصلا معه ومتفاعلا فيه، وهو بهذا يشكِّلُ مدرسةً معرفية متكاملة ما أحوجَ ناشئتنا إليها، لا سيما منهم الذين يتعلمون العلوم الشرعية والإلهية، وعلى المؤسسات التربوية والتعليمية تقع بالدرجة الأولى هذه المهمة الكبيرة، وتجبُ هذه الخطوة الحضارية النهضوية.
|