ذكر الله تعالى أوصاف القرآن وأسماءه، التي منها الكتاب المبين، والقرآن المجيد، والصحُف المطهَّرة، والحقُّ، والفرقان، والمفصَّلُ، والمثاني، والهدى، والموعظة، والتذكرة، والبصائر، والذكر، والحكم، والبشرى، والرحمة، وأحسن الحديث، وكُلٌّ من هذه الأسماء والأوصاف يفتحُ بابا من أبواب البحث ويقود إلى دلالاتٍ معرفيةٍ عجيبة، لكنني أختار من أوصافه وأسمائه المذكورة اسم (النور) واعتباره، لأستمدَّ حديثي هذا من مضموناته ومعانيه.
القرآن النور:
قال الله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا {8}التغابن، وقال أيضًا: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا {174} النساء ، وبهذا أثبت اسم النور ووصفه للكتاب المنير، فهو نورٌ إلهيٌّ تتبددُ به كلُّ الظلمات، فرديةً كانت تلك الظلماتُ أو جماعية.
فعلى مستوى الأفراد: به تزولُ ظلماتُ النفوس الأمارة بالسوء، لتصبحَ مطمئنة وراضية مرضية، وبه تزولُ ظلماتُ العقول المرتابة، لتصبحَ متفكرة موقنة عارفة، وبه تزولُ ظلماتُ القلوب المتقلبة المضطربة، لتصبحَ مطمئنةً عامرةً بالتقوى والرضا والإيمان، وبه تزولُ ظلمات الأرواحِ المحبوسةِ في أقفاصِ الأوزارِ وكثائفِ العلائق المادِّية، لتصبحَ نورانيةً ذاتَ شوقٍ ومحبةٍ وانجذابٍ رباني، وينتجُ كُلُّ تنويرٍ سلوكًا متوازنًا منضبطًا، وأخلاقًا إنسانيةً تَفيضُ بالأخلاقِ وتَضوعُ بالطيوب.
وعلى مستوى الجماعة: به تتبدد ظلمات التخلف والجهالة، فيشرقُ نور الحضارة والمعرفة، وبه تتبدد ظلماتُ البغي والعدوان، فيشرقُ نور العدالة والإحسان، وبه تتبدد ظلمات التسلط والاستبداد، فيشرقُ نور التكافل والتكامل والشورى، وبه تتبدد ظلمات التمييز الطبقي والعرقي والقومي، فيشرقُ نور الأخوة والإنصاف والمساواة، وينتجُ كُلُّ تنويرٍ جماعي نهضةً وتقدُّمًا وسعادةً، وعلاقاتٍ فاضلةً مع المخالف والموافق.
لكن ألم ينطبع هذا النور في المرآة الكاملة؟
يجهلُ كثيرٌ من الناس أو يتجاهلون أو يغفلون أو يَذهلون عن المرآة الصفائية الكاملة التي تجلّى فيها هذا النور، وفيها رأيناه، ومنها أشرق علينا فعلمناه وتبيَّنّاه، ولولاهُ ما كانَ لنا أن نَعْلَمَ أو نتبيَّن، فيحلو لهم أن يتحدثوا عن القرآن بعيدا عن المرآة المحمدية التي إليها وعليها نزل، وفيها تجلى نورُه، ومنها علينا أشرقَ سناه، ويقرؤون القرآن بحسب وهمهم منفصلا عن المظهر الأتمِّ الذي فيه ظهر، وبه عُرف، وعنه أُخِذ، ويطمعون في إشراقات حقائقه مستقِلَّةً عن القلبِ الأشرفِ الذي فيه كانَت تلك الإشراقات!
لقد أخبرَ مولانا جل وعزَّ عن ذلك القلبِ المحمَّديِّ الطاهر الذي كان مرآة القرآن فقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} الشعراء، فاللسانُ العربي المبينُ لسانُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ {97}مريم، والقلبُ الذي تلقَّى التنـزيلَ قلبُ محمد صلى الله عليه وسلم فكانَ محلَّ التـنـزُّلِ الكلامي الأولِ، ومجلى النورِ القرآنيِّ الأكمل.
ولماذا يشبَّهُ القلبُ بالمرآة؟
وصفَ النبيُّ r مرةً قلوبَ البشر فقال: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ؛ فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ فَقَلْبُ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصْفَحُ فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ .." الحديث[1]
وعلى هذا فيكونُ القلبُ المؤمن السليمُ بحسب وصفه r صقيلا أجردَ لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وقد أشرق عليهِ نورٌ كالسراجِ، فصارَ كأنه الكوكبُ الدري، هذا في وصف كل القلوب السليمة المؤمنة، فكيف يكون وصفُ القلبِ المحمديِّ الأنورِ الأكمل الذي أشرقَ عليهِ ذلك النورُ الإلهيُّ القرآني؟
هل من مناسبة بين النور القرآني والمرآة المحمدية:
إنه تعالى نبَّهَ أهل الفهمِ على المناسبة بين النورِ المتنـزِّلِ والمرآةِ المتَنَزَّلِ عليها حين استعمل في البيانِ (المعيَّة) فقال: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)الأعراف، فحكى عن النور ومرآته، وجمع بينهما بقوله: (معه)ثم انتقل من بيان (المعيَّة) إلى بيانٍ أوضحَ في الدلالة، حين وصف المرآةَ بما يُرى فيها من النور، وذلك بقوله: قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ {15} المائدة ، قال الزجاج فيما نقل عنه: قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ : هو محمد عليه الصلاة والسلام[2]، وهذا التفسيرُ معقولٌ لأنَّ المرآة ربما وُصِفَتْ بما هو منطبعٌ فيها من المنطبِعات، ولتفصيلِ هذا المعنى وشرحه أضربُ مثالا:
إذا نظرَ ناظرٌ من غرفة مظلمةٍ إلى مرآةٍ تحت الشمس خارجَ تلك الغرفةِ ولم تكن المرآة متوجهةً إليه، فسوف يقول: أرى نهارا يدلُّ على وجود الشمس في السماء، ومرآةً في رحاب ذلك النهار، وقد انعكس منها في الفضاء من ضياء تلك الشمس.
فإذا توجهت إليه المرآة، فقد يقول وهو ينظر إليها: إنني أرى الشمس المنيرة، وقد يقول إنني أرى المرآة المنيرة، وقد يقول إنني أرى المرآة التي تنيرُ بأنوار الشمس.
ولا تعدو أحوالُ الناس هذا المثالَ في صلتهم بالقرآن والنبي عليه الصلاة والسلام من أهل الدليل والبرهان، أو من أهل المعرفة والشهود والعيان، اللهم إلا من كانَ مع وجوده في غرفةِ كثائفه المادِّية أعمى البصر والبصيرة، فلن يبصر الشمس ولن يرى المرآة.
تنوير المرآة بالنور:
لقد أخرج النبيُّ r الناسَ من الظلماتِ إلى النورِ بما أشرقَ عليه من أنوار القرآن، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (1)ابراهيم فبنور الكتاب الذي أنزله الله تعالى عليه r يُخرجُ الناس من ظُلاماتهم وظُلُماتهم إلى أنوار العدالة والمساواة، والحقيقة والمعرفة، وطريقِ النجاة في الدنيا والآخرة المعبَّرِ عنه بصِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {1} إبراهيم
وقال بِإِذْنِ رَبِّهِمْ لينبهنا على أمانة المرآة المحمدية الكاملة التي لا يصدر عنها إلا ما انطبع فيها من أنوار الوحي: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4}النجم/ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي (15)يونس فكيف تبدل المرآة الصورة التي تنطبع فيها إذا كانت صقيلة كاملة التكوين؟
فقد نوَّر سيدنا محمد r القلوب والعقول والأرواح بما تنـزَّل عليه من الأنوار، وهدى الخلق ووجه السلوك بما أشرق عليه من شمسِ كلام الله، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ {53}الشورى
نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا : وأنت السبب والمرآة التي تعكس عليهم الأنوار، وفسرها بقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي ، ومن المستحيل أن يشترك الحقُّ تعالى في الهداية مع النبيِّ r ، فالربُّ رب، والعبد عبد، لكنها النسب المختلفة والاعتبارات، فباعتبار النسبة الحقيقية التي فيها الخلقُ والتأثيرُ والإيجاد، يهدي الله تعالى عباده، وباعتبار النسبة المجازية التي فيها الدلالة والعلاقاتُ الكونية السببية يهدي سيدنا رسول الله.
المرآة المحفوظة:
لم يكُن تنـزُّلُ النورِ القرآنيّ على القلب المحمديِّ حدثا يسيرا، فقد كانَ تنَزُّلا فيه ما فيه من الثقل والحرارة عليه r، وكانَت بشريته الكريمة تتأثر بهذا التنـزُّل، فكان يتغير وجهُهُ الكريمُ ويتَرَبَّد، ويأخذُه ما يُشبه السبات، ويكاد r يُغشى عليه، فيُنَكِّسُ رأسه، ويتصبب عرقا، ويُسمعُ غَطِيطٌ من نَفَسهِ الشريف، حتى لقد وصفه الجاهلون بالجنون، قال تعالى: وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ {6} لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {7} مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ {8} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9} الحجر فأخبر الله تعالى أنه هو الذي نزَّل الذكرَ وهو المتكفلُ بحفظه، فلا يكونُ المُنَـزَّلُ عليه إلا كاملَ العقل والقلبِ والفؤاد، فما يُنَزِّله عليه تتصدعُ له الجبال: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{21} الحشر ومما يَتَفَكَّرُونَ فيه ذلك القلبُ المحمدي الذي نزل القرآن عليه فكان بتثبيت الله تعالى ثابتا، قال جلَّ من قائل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا {32}الفرقان
صلتنا بتلك المرآة الكاملة:
إنَّ الله تعالى نبَّهنا على استحضارِ ذكرِ النبيِّ المنـزَّلِ عليه مع القرآن المنَـزَّلِ بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ(2)محمد، فأخفى اسم القرآن بـ (ما) وأظهر اسم محمد r ليراه الغافلون عنه، وقد كان الشافعي رحمه الله فيما نقل عنه يقول في صلاته على النبي r "اللهم صل على محمد كلما ذكرك الذاكرون، وصل على محمد وعلى آل محمد كلما غفل عن ذكره الغافلون"[3] لأنَّ الذاكرين لله تعالى أكثر من الذاكرينَ لمحمد rولأنَّ الغافلينَ عن محمد r أكثرُ من الغافلينَ عن الله.
ثم إنه تعالى جعلَ في كثيرٍ من نصوصِ القرآن الكريم لفظةَ (قل) وسيطًا بين المضمونِ القرآني والتعقُّل العقليٍّ القلبيّ، فمن ذلك التعريف بالله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} الإخلاص / قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} الرعد / قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا {29}الملك / قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً{42}الإسراء
ومن ذلك التعريف بمظهره r الجامعِ بين الكثيفِ البشريِّ التقي، واللطيف الروحانيّ النقي: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ {110}الكهف
ومن ذلك التعريف بشمولية رسالته الغراء: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا {158} الأعراف
ومن ذلك التعريفُ بعبوديته r لربه: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ {188}الأعراف
ومن ذلك التعريفُ باستقامته r واتباعه لوحي ربه: قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي {203} الأعراف
ومن ذلك التعريفُ بلانهائية كلماتِ الحق تعالى: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا {109}الكهف
وجعل في كثيرٍ من نصوصِ القرآن الكريم لفظة (قل) أيضًا وسيطًا بين المضمونِ القرآني وأفعالنا التكليفية:
قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {32}آل عمران / قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ {30}النور / يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {59} الأحزاب / وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {53}الإسراء/ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ {53} الزمر
بل إنه تعالى نبه غير المسلمين أيضًا بلفظة (قل) ليدلَّهم على مكانته r الفريدة، ومنـزلته السامية العتيدة، كما في قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ {64} آل عمران/ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا {17}المائدة/ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {119} آل عمران/ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {12}آل عمران
وما أكثر تكريره لكلمة (قل) في نصوص القرآن في مناسبات لا يسع المجال ذكرها بالتفصيل.
فإذا انتقلنا عن لفظة (قل) إلى ما يماثلها من أساليب الخطاب، رأينا في القرآن جملا وألفاظا كقوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً) {13}الكهف/ (أَلَمْ تَرَ) {24}إبراهيم / (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) {175}الأعراف/ (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) {176} الأعراف إلى غير ذلك من المماثل والمشابهالذي يكاد أن لا يُعَدّ.
وما ذاك إلا ليذكِّرنا من آنٍ لآخَر بالرسول البيِّنةِ الذي لا يُوصَلُ إلى حقيقة القرآنِ إلا منه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ {1} رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً {2}البينة/ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ (64)النحل
ومن الغريبِ في هذا العصرِ شيوعُ الالتفاتِ المعرفيِّ والشعوريِّ عن النبيِّ r بحجة الاهتمامِ بالقرآن، وهذا الأمرُ يُعيدنا إلى موضوعٍ تأصيليٍّ هو من الأهمية بمكان، فقد كان موقفُ الوثنيين من الكفارِ واضحَ العداوة إزاء الإسلام حين رفضوا القرآن ورفضوا الرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا (104)المائدة أمّا موقفُ المنافقين فكانَ ادعاءَ موافقةِ القرآن، وممارسةَ الصدَّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)النساء
إنهم يكررون القرآن ويتغنَّونَ به، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) {30}محمد لكنَّ في بواطنهم حربًا على النبي r وعداوةً له، وقد كَمَنَت البغضاء في قلوبهم، وتقنعت بدعوى التعلق بالقرآن، والقرآن منهم براء.
وقد وُجد صنفهم هذا قديمًا وحديثًا، فقد جاء في صحيح البخاري أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ (أربعة) .. فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: من يطيعُ الله إذا عصيته؟
أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَلَا تَأْمَنُونِي؟ فَلَمَّا وَلَّى قَالَr : إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ.. الحديث[4].
أما رواية أبي سعيد الْخُدْرِيّ المتفق على صحتها في الصحيحين فقد صرحت باسمه وفيها من الزيادة ما يفيد، فهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يدعى (ذا الْخُوَيْصِرَةِ) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لايُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ... وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ[5].
واليوم تمارسُ حروبٌ ألوانها مختلفة، لكنَّ هدفَها المشتركَ إبعادُ المسلمين عن سيدنا محمدr، تارة بالتشكيك في سنته، وتارة بتجويزِ الخطأ عليه، وتارةً بإضعاف العاطفةِ الفيَّاضة في القلوب نحوه، ومع كون تلك الحربِ صادرةً عن مصادرَ مختلفةٍ في المكان والزمان والثقافة والدين، لكنها تلتقي في المحصلة والنتيجة، فحين ينقطع المسلمون عن المرآة التي عنها يَردُ إليهم إشراقُ القرآن، سينقطعون عن أنوار القرآن وأسراره وأخلاقه ورقائقه وعجائبه، فلا يبقى فيهم إلا الألفاظ والألحان، وتكثرُ المسابقاتُ القرآنية التي تُرَوِّجُ لحفظ الأذهان، وتغيبُ عن ساحات الأمة مسابقاتُ التفاعل الخلقي والشعوري والسلوكي مع هذا القرآن، ومسابقاتُ الاتباعِ في القول والفعل والحال لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
لكنه تعالى أخبر عن حتمية ظهوره r ليكون في العالمين الأظهر والأشهرَ والأنور والأبهى فقال : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)التوبة
أَرْسَلَ رَسُولَهُ لِيُظْهِرَه، ولو رغب في إخفائه الخاسرون.
|