أُريدَ لحلبَ أن تكونَ فردًا في (كُليِّ) الثقافة الإسلامية، وأرادوا في الاحتفالية أن تكون الثقافة الإسلاميةُ (فردًا جزئيا) يندرجُ في (كُلِّيِّ) حلب، وتمثلنا قول القائل: "حلبٌ قصدنا" وكان الأولى بنا أن نقول: "الثقافة الإسلامية قصدنا وحلبُ مظهرٌ من مظاهرها الكثيرة".
لعلَّنا إذا ذهبنا مذهبَ حُسنِ الظنّ نعتبر المشكلة كامنة في وضوح معنى "حلب" لدينا، وضبابية معنى الثقافة، ومن بابِ أولى: معنى "الثقافة الإسلامية".
على كلٍّ .. ما تزال بعض الدراسات المتخصصة تضع كلمة (ثقافة) وبجانبها بين قوسين كلمة (Culture) .. ربما لأنَّ هذه الكلمة في اللغة العربية لا تزال في نظرهم قاصرة عن أداء معنى محدد واضح لذا فيضعون لها ركيزة أجنبية تتوكأ عليها في تحديد المفهوم[1].
وتداول كلمة الثقافة في المجتمعات العربية يعود إلى الربع الأول من القرن العشرين، فلا نجد لها أثراً في كتابات (محمد عبده) ولا (جمال الدين).
وقد تميَّع مفهومُ الثقافة في بعض المجتمعات المتقدمة، وضاقت حدوده الاجتماعية ووصل إلى مجال الترفيه والتسلية، وتأسست(في بعض البلاد الشرقية) وزارات ثقافة وظيفتها الاهتمام بوسائل الترفيه والتسلية فقط.
وهكذا فإنَّ كلمةً متداولةً عندنا مثلَ (الأزمة الثقافية)، لا تعني شيئا بالنسبة إليهم، لعدم وجود الاتصال بين الترفيه والأزمة، ولئن كان مجال الترفيه والتسلية يدخل فعلاً في نطاق الثقافة، فإنه لا يدخل فيه إلا في درجة مرتفعة من درجات سُلَّمِ الارتقاء الثقافي، فالثقافة في أولوياتها تدفع مثلا إلى (عمل مشترك) تجتمع فيه العقول والضمائر، وتتشابك فيه الأيدي والطاقات.
كما أن كلمة الثقافة فقدت ثلاثة أرباع معانيها مع دخولها ما يسمى عصر النهضة العربية، فقد وضع لفظ العلم مرادفا لها، واعتُقِدَ أن العلم هو الثقافة، وأن الثقافة هي العلم، والعلم مفهومٌ حياديٌّ لا يريد الخير ولا الشر، وإنما يسعى للجواب عن (الكيفيات) أما الثقافة فهي مفهومٌ يدفعُ إلى الخير، وحينَ ينحرفُ يُنتج الشر، وأسلوب الحياة في المجتمع لا يتكون على أساس العلم، وإنما يتكون على أساس الثقافة.
والعلم يفشل في الوظيفة الاجتماعية، ومع كونه ينجح في شرح الكيفيات وبه نعرف (كيف نصنع الصاروخ الطائر إلى القمر؟) لكنه لا ينقذ حياة البشر المعرضة للخراب بسبب اضطراب البواعث الإنسانية.
في عام 1936 م سئل رئيس البرلمان الفرنسي وعميد كلية الآداب في جامعة ليون (إدوار هوريو) ما الثقافة؟ فأجاب: " هي ما يبقى عالقًا بالأذهان عندما ننسى ما تعلمناه على مقاعد الدراسة والجامعات"
وقال فرنارد روبرت في كتابه (Humanisme) : "الثقافة ليست في حقيقتها كما من المعلومات.. فنحن نكره أساسا صيغة الرأس المحشو بالمعلومات... الثقافة هي صعيد من الفكر لا صلة له بمستوى الدروس الملقنة، إنها كفاءة التلقي والتعليم.. إنها ما يجب أن نملكه أولا كي نتعلم، إن ما يثير الإعجاب في رجل مثقف حقيقة أن كفاءته في فهم ما لم يعرفه بعد هي أكبر مما قد عرفه، لأننا ندرك حين نلتقي به أن عقله غير مغلق تجاه ما لا يزال غير معروف لديه[2]"
وقد ظهرت دلالات كلمة الثقافة في الغرب (في أمريكا مثلا) على أنها ظاهرة اجتماعية، وظهرت في بعض دول الشرق (في الصين مثلا) في إطار كتبٍ ذاتِ طابع سياسي مثلِ كتاب ماوتسي تونغ (الديمقراطية الجديدة).
وغدا الدارس لقضية الثقافة في أمريكا أو إنكلترا أو فرنسة، يدرسها، كواقعٍ اجتماعي، وظاهرةٍ حاضرة أمام عينيه، أي أنه يقف منها موقفاً وصفياً.
وهذا التفسيرُ محرجٌ لبلداننا المتخلفة اجتماعيا، لأننا نعيشُ في عالمنا الباطن ثقافةً خفية تتصورها أذهاننا ولا تبصرها أعيننا، فهي ضعيفة الوجود في مجالنا الحضاري، ولا نستطيعُ دراسة واقعٍ اجتماعي حاضر أمامنا على أنه ثقافتنا.
ومن هنا فإننا نسعى في دراساتنا إلى طرح تصورٍ تخطيطي مستقبلي، ولا نستطيعُ تقديمَ الصُور الوصفية كما يفعل الغربيون[3].
ومن أحسنِ الذينَ قدَّموا في عالمنا العربي والإسلامي تصورا واضحا عن مفهوم الثقافة؛ المفكر المغربي (مالك بن نبي) فذهب إلى أنَّ الثقافة هي ما يحدد العلاقة التفاعلية المنسجمة بين سلوك الفرد، وأسلوبِ الحياة في المجتمع، لتنشأ في تلك العلاقة التفاعلية رقابة طبيعية بين الطرفين، وحينَ يختلُّ شيء ما في سلوك الأفراد تنشأ ردود الأفعال الاجتماعية لإيقاف انحرافهم وخطأ سلوكهم والعكس بالعكس، فتنشئ الثقافةُ رقابةً بين (الأنا) و (نحن).
وقد حدد مالك بن نبي لمفهوم الثقافة أركانا أربعة:
1-انسجام الأفراد مع المجتمع، لضمان تماسكه، وشرط الانسجام المتبادل يحققه وجود الأخلاق، والأخلاق في بلادنا يقدمها الإسلام، لأنه جاء مؤسسًا لمجتمع، وبالأخلاق يضمن وحدته، ويضمن بالأخلاق للفرد ضماناتٍ اجتماعيةً كثيرة، وأمنا، وتعليمًا، ورعاية صحيحة.
2-الفعالية أو (استخدام المنطق العملي) لتحقيق حاجات المجتمع وباختلال استخدام المنطق العملي ينتج العبث، وتضيع مصالحُ المجتمع، كالذي سئل عن أذنه فلفَّ يده اليسرى حول رأسه ليشير إلى أذنه اليمنى، فأضاع جهده، ووقته، وأتعب نفسه.
3-التقنية، أو تكامل الخبرات في ساحة العمل.
4-القيم الجمالية، التي تعطي للمجتمع صورته ومظهره، وتحقق تنظيمه الشكلي في ملبسه، ومعايشه.
والإسلام لم يهمل هذا الجانب، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ }[النحل:6] وكلمة الجمال ليست نفعية، فالركوب مصلحي، وفي مظهر الراكب والمركوب بعد ذلك قيمة جمالية هي غير المنفعة والمصلحة.
وبعد هذا نتساءل: هل استطعنا في الاحتفالية أن نقدِّمَ حلب عاصمةً للثقافة الإسلامية؟
1- ما يتعلق بعنصر الانسجام الذي تبعثه الأخلاق في الثقافة الإسلامية ( وقد وعت منظمة المؤتمر الإسلامي في ميثاقها جانبا كبيرا منه حين نصت على ضرورة التضامن الإسلامي بين الدول الإسلامية الأعضاء مع اعتبار المساواة التامة بينها).
ربما تكون بعض الموضوعات التي عولجت في الاحتفالية تمسُّ شيئا من ذلك، على سبيل المثال:
· الإسلام وحقوق الإنسان.
· حلب وحوار الحضارات.
· حركة النشر والتوزيع في مصر وسـورية.
· دور أبناء الشام في الصحافةالمصرية.
· دور المكتبات والتوثيق في الثقافة الإسلامية.
لكنَّ الاحتفالية كانت فقيرة بذاتها على مستوى الانسجام الذاتي، وكان أسلوب فريق العمل نادرا فيها، فاعتمدت في الغالب على الفرديات، ولم تقدم بنظري شمولية الفكر الإسلامي الحلبي.
وكان العنصرُ الخلقي الإسلامي ضعيف الظهور، فتخللت الاحتفالية رقصاتٌ خليعة بعيدة عن روح الثقافة الإسلامية، وكانت المسرحيات التي قدمت فيها خالية من أكثر عناصر الثقافة الإسلامية، وتجاوز عدد الحفلات الفنية (58) وعدد الحفلات المنوعة(45).
كما لوحظت استضافة الحفلات الفنية العالمية في مناسبة الثقافة الإسلامية وهو (استثمار في غير محله).
2- ما يتعلق بعنصر الفعاليةأو (استخدام المنطق العملي) ( وقد وعت منظمة المؤتمر الإسلامي في ميثاقها جانبا منه حين نصت على ضرورة (التعاون بين الدول الإسلامية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلميةودعت إلى دعـم كفاح الشعب الفلسطيني ومساعدته على استرداد حقوقه وتحرير أراضيه).
كان المنطق العملي يدعونا في الاحتفالية إلى طباعة كتبٍ تساعد في النهضة الثقافية، لكنَّ كثيرا من الكتب أعيدت طباعتها، وكثيرا من الكتب طبع لا لقيمة موضوعه وأثره بل لاعتباراتٍ مجهولة.
وكان المنطق العملي يدعو إلى استثمار العقول في ورشاتِ عملٍ منتجة، بمناسبة الاحتفالية، لكننا عدلنا في كثير من نشاطاتنا إلى السرد، ولم نؤسس للإبداع، ولا دفعنا عجلته.
أما فلسطين قضيتنا الكبرى فقد يكون نصيبها منا في الاحتفالية ندوة (شيخ المجاهدين عز الدين القسام وتجربتهالكفاحية في فلسطين) ومحاضرة لنائب في مجلس العموم البريطاني، تحدث عن مسيرة "الكيان الصهيوني بعد الهزيمة "
3- ما يتعلق بالتقنية، وتكامل الخبرات في ساحة العمل، كان يلاحظ ابتعاد أكثر النشاطات عن الجانب الحضاري العملي، وكنا نستطيع من خلال الاحتفالية أن نلفت الانتباه إلى أنَّ ثقافتنا الإسلامية تبعثُ النهضة الحضارية، وكان بالإمكان استثمار المناسبة لتشجيعِ الحركة النهضوية المعاصرة في جيلنا الجديد، واقتصر الأمر على اختياراتٍ عرضت في بعض الندوات شخصياتٍ يُختلف في فصولها وأصولها.
4- ما يتعلق بالقيم الجمالية، كنا نلاحظ اهتماما بها إلى حدٍّ ما وعقدت ندوة تدرس فلسفة العمارة الإسلامية، وتم تنفيذ عدد هاممن أعمال الترميم للأماكن الأثرية منها: جامع الشعيبية،والبيمارستان النوري والارغوني وقلعة حلب وقلعة نجم. وتجري أعمال ترميميةفي مدرسة الفردوس والمدرسة الحلوية.
كانت في الاحتفالية أعمالٌ كثيرة كمًّا، لكنَّ النوعَ لم يكن على مستوى الحدث، ربما بسبب غياب فرق العمل المتخصصة بالإعداد، وتغييب الشمولية الثقافية الإسلامية بأبعادها الحقيقية الحضارية، وربما لأننا لم نتعود أن نشتركَ جميعا في صناعة نهضتنا ومستقبلنا المنشود.
|