من العبارة إلى الإشارة في تعبير الرومي
أولا- المدخل:
1- توطئة:
نتاجُ مولانا الروميِّ الفاذُّ مضموناتٌ عاطفيةٌ ممزوجةٌ بالمعارفِ وصنوف التربية، أما عاطفته فقد توجهت إلى الحضرةِ الإلهية فأنتجت رقصَ الروح في عشقِ الحق، وأما معارفه فكانت قراءةَ باطنه في حقيقة الكون وأسرار تجلياتِ مكونه، وأما صنوفُ تربيته فقد كانت صوتَ المنذر ونداءَ المبشِّر الذي أشفق على رتبة الإنسان أن تنحدرَ إلى حضيضِ نهم البهائم، أو تخذيل الشياطين، فوجّه إليها أدبًا رفيعا يهزها تارةً بالتأنيب، ويرفعها تارة أخرى بالتهذيب.
وكان ذلك النتاجُ الكبيرُ من المضمونات يقدَّمُ في أشكالٍ أدبية تمتزجُ فيها العباراتُ بالإشارات، فلم تكن كلُّ أشكال النتاجِ الأدبي الرومي عباراتٍ صريحةً بدِلالاتٍ مطابقية، بل كانَ يتشكل أحيانا بالعبارة الصريحة، وأحيانا يعدلُ عن الدلالة الصريحة إلى الرمزِ والإشارة، كالغواص الذي يقولُ للخائفين على الشط هلمَّ للحظاتٍ إلى الأعماقِ فإنَّ فيها ما لا تجدونه فوق رمال الشط، وكثيرا ما كان يشرحُ الإشارة أو الرمز بالعبارة الصريحة الواضحة، ويجعلها في نفس الجملة الأدبية، أو في الجمل المتقاربة إعانة للسامع، وتيسيرا على الضعفاء.
2- الفرق بين العبارة والإشارة:
العبارةُ في الأصلِ هي من الإعراب والتبيين[1]، فهي تفيدُ الوضوحَ والبيان، وأما الإشارة فهي المعنى الآخر الذي ينتقل إليه القارئ من شطآن دِلالات الكلماتِ الحسية إلى أعماقِ المعاني اللطيفة الروحية لينالَ بذلك الانتقالِ زيادةَ فهمٍ من غيرِ أن يلغيَ ما استفاده من دلالة الكلمة الحسية.
وفهمُ الإشارةِ ينشأ عن تجربة روحيةٍ يدخلها الإنسانُ فيجدُ بعدها نفسه مستفيدة بعض المعاني الإضافية التي لم يكن له أن يستفيدها بمجرد أدواته العقلية.
قال الطوسي في كتابه (اللمع): "فلما عملوا بما علموا .. ورثهم الله تعالى علم ما لم يعلموه وهو علم الإشارة"[2].
وقال صاحب (أبجد العلوم): "ولهذا العلم أيضاً ثمرة تسمى: علومَ المكاشفة، لا يكشف عنها العبارةُ، غير الإشارة"[3].
فالإشارة حاصلها أنها عبور دلالة العبارة الظاهرة إلى معنى لطيف، وعدم الاقتصار على دلالتها الظاهرة مع إثباتها، والحذر من نفيها، وهذا يباين مذهب الباطنية الذي ينفي دلالة العبارة الظاهرة وبهذا ينسف الأحكام الشرعية التكليفية الظاهرة.
ومن أوائل من عبَّر عما فهِمَه من الإشارة الصحابي الحبرُ عبد الله ابن عباس فقد قرأ قوله تعالى: ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) فقال: (أنزل من السماء ماء ) قال: قرآنًا ( فسالت أودية بقدرها)قال : الأودية : قلوب العباد) اهـ كذا نقل القرطبي[4].
ولما أورد الإمام أبو حامد الغزاليُّ في إحيائه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب... " قال: "والقلب بيتٌ هو منـزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم, والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة, فأنى تدخله الملائكة"اهـ[5]، ثم قال: "ولست أقول: المرادُ بلفظ البيت القلبُ وبالكلب الغضبُ والصفاتُ المذمومة، ولكنيأقول هو تنبيهٌ عليه، وفرقٌ بين تعبيرِ الظواهر إلى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر،ففارقِ الباطنيةَ بهذه الدقيقة، فإن هذه طريقُالاعتبار، وهو مسلكُ العلماء والأبرار، إذ معنى الاعتبار أن يعبر ما ذكر إلى غيره فلايقتصر عليه " اهـ.
ثانيا – البحث:
ليس هذا البحثُ إلا محاولةً أجتهد فيها لقراءة بعض مضمونات التعبير الرومي البعيدة، التي لا ألغي بها الدلالة الصريحة في عباراته لكنني أنبه فيها إلى معنى بعيدٍ يلوحُ من وراء تلك العبارات.
وأورد في البدءِ مثالا من تعبير الرومي يكشفُ فيه صريحا عن إشارته، ويشرحها بالعبارة، وهو أمر يتكرر في قصصه وأمثاله، يقول مولانا:
"عندما يتجول المرء عطشان في رمل الصحراء اللاهب يعزيه حامل الماء (العشق)، بصوت الرعد الذي يعد بالمطر"[6].
فقد أدخل في عباراته مراده الإشاري من عبارة واحدة هي حامل الماء وصرح أنه العشق، وترك للسامع والقارئ عباراته الأخرى ليستنتج معانيَها.
وكأنه أشار برمل الصحراء اللاهب إلى المادية القاتلة لإحساس الروح، وبصوت الرعد إلى المجاهدات السلوكية التي تتزكى بها النفوس، وبالمطر إلى النتائج الوهبية الربانية والواردات الروحية المعرفية.
ومن تعبير الرومي الذي شرحَ فيه مراده من أفراد الحكاية قوله:
"عندما غاب محيّا الشمس عن باصرة الأرض، ارتدى الليل، بسبب الفراق، ثياب الحداد السوداء.
وفي الصباح عندما ترفع الشمس رأسها تتلفع (السماء) برداء أبيض- وأنت يا من وجهك شمس الروح، لا تغب عن محضري!"[7].
فبين أنه لا يريد من ذكر الليلِ وحدادِه، والنهارِ وردائِه العروسيّ الأبيض إلا حزنَ الروح على احتجاب المحبوب، وفرحَها عند تجلياتِ وجهه.
وسوف أستعرضُ بعضَ نصوصِ الرومي، مستكشفا بعضَ إشاراتها اللطيفة، معتمدا تقسيمَ البحث على قسمين، الإشارات المعرفية، والإشارات التربوية.
1- الإشارات المعرفية:
فمن ذلك قوله:
"لا تتحدث كثيراً عن نكبة التتار تحدث عن نافجة المسك لدى غزال التتار"[8].
وكأنه أشار بنكبة التتار إلى مشاهد التجليات الجلالية، وبنافجة المسك لدى غزال التتار إلى اللطف المستتر في كمال التجلي الجلالي، الموصوف بجمال الجلال في تجليات الأسماء الإلهية المتجلية في حوادث الكون.
ومن ذلك قوله:
" الحق أن العالم ليس سوى زبد لهذا البحر, وماؤه هو علوم الأولياء"[9].
وكأنه أشار بالزبد إلى الوقوف مع تعلقاتِ الأسماء الإلهية بالكون.
وأشار بالبحر إلى حضرة الأزل الحقية.
وليس من وقف مع تعلقات الأسماء، كمن انجذب إلى حضرة مسماها، فالواقف مع تعلقات الأسماء متكلم في المتكلمين، والمنجذب في حضرة مسماها مندهشٌ قد عقدت الدهشة لسانه، وفي هذا المعنى يقول:
"ذاك الذي رأى الزبَد يكون متحدثاً بالأسرار، وذاك الذي رأى البحر يكون حيران مندهشا"[10].
ويقول مولانا:
"البحر خيمة فيها حياة للبط لكنها موت للغربان"[11].
وكأنه يشير بالبحر إلى الحضرة الإلهية الأزلية، وبالبط إلى أولياء الله، وبالغربان إلى المنكرين المحجوبين.
ومن ذلك قوله:
"بكاء الغيمة مع حرارة الشمس يضفي على الروض إشراقاً جديدًا"[12].
فأشار ببكاء الغيمة إلى شوق السالك إلى القرب، وبحرارة الشمس إلى مواهب التقريب، وبالروض إلى الإنسان المنشود.
ولما كان مولانا يرى مواهب التقريب ساطعة في مُشعلِ نار عشقه شيخه (شمس تبريز) قال:
"عندما تتقدم الشمس تجري الغيوم خلفها، وكل القلوب تقوم على خدمتك يا شمس تبريز"[13].
ولنتأمل هذا النقل من أدب مولانا:
"تقول الشمس للحِصْرِمْ: دخلت مطبخك لكيلا تبيع الخل بعد اليوم، بل احترف إعداد الحلوى "[14].
فهو يشير بالشمس إلى الحقيقة الأزلية التي منها تتنـزل المواهب، ويشير بالحِصْرِم إلى الكائن البشري وبالمطبخ إلى القلب، وبالخل إلى الوصف الذميم وبالحلوى إلى الوصف المليح.
فهو بهذه الحكاية يريد البشر كالحلوى المحبوبة، لا كالخلِّ الحامِض، ليكونوا مظهر الترغيب والتبشير لا مصادر الترهيب والتنفير، ولن يكونوا كذلك حتى تسطعَ على قلوبهم (المطبخ) شمس الحقيقة الإلهية.
ويستثمر رمزية الشمس أيضا في قوله:
"اليواقيت في الجبال تؤكد قدرة الشمس على تحويل المواد الخام إلى أحجار كريمة غاية في النفاسة" |