في زمن المادية المعطلة للشعور الباطن ، وفي وقت الشتات النفسي المنفعل عن ضياع الحقوق ، وفي أيامٍ كاد مفهوم العاطفة فيها أن يتحول إلى معنى الغريزة ، وأصبحت اللطائف الروحية كلاماً في الأفواه ، وطقوساً في الثياب ، وعباراتٍ للتصدير ..كان لا بد لنا كأمة ما تزال في جذورها بقية حياة ، وفي أغصانها أثر حيوية ، أن نلتمس تحت قشورنا الترابية الجدباء بقايا مناهلنا وأغوارَ ينابيعنا ، لأنها أمل إنسانيتنا المتبقية ، وقبس دياجيرنا المختبئ ..
وحينما نلتقي في منتدى الآداب والفنون على مادةٍ هي معدن الرقائق ، وجوهر الحقائق ، وسر الإبداع علماً وأدباً وعملاً ، فإننا بذلك نحقق بعضاً مما نصبو إليه ، ونرشف كأساً من معينٍ ترتاح الأرواح إليه .
وقد قال عاشقهم :
أي راحٍ دارت به الأقداح ومدام كاساته الأرواح
لكن الإنسان إذا كان عدواً لما يجهل ، فلربما ساقته جهالته تلك إلى خسارة ما ينفعه ، وتضييع ما يصلحه .
فالتصوف الذي سما بأكمل الناس قديماً ، فوصفه العقلاء بما يليق بمقامه أو يقرب منه ، صار بعضهم في الأزمنة الأخيرة يمتهن مهنة الحديث عنه بما لا صلة له به ، حتى اختلط الحكم عليه بالحكم على أدعيائه ، وكادت الحقيقة الناصعة أن تغيب عن العيون مع شدة إشراقها ، وأصبح طلاب الحقيقة في حالة قريبة من الحيرة والضياع .
وغدت التصورات عن هذه الحقيقة متباعدة تباعد المشرق عن المغرب .
وظهر في المجتمع طرفا نقيض لا يمثل أي منهما وجه الحقيقة ..
طرف متعنت يتجنى ويطلق الأحكام الجائرة إلى درجة يصنف فيها التصوف على أنه نوع من أنواع الانحراف المعرفي وشكل من أشكال الكفر أو الشرك أو الزندقة أو الضلالة أو البدعة.
وطرفٌ قدَّس التصوف دون أن يعرف مضمونه ، وقلَّد من سمع عنهم من أهله في أمورٍ صغيرة هامشية قشرية ، جاهلاً حقيقته ومعناه .
قد تمناه ، والأمنية رغبة فارقها السلوك .
جاء في الحديث النبوي :
والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى عَلَى اللَّه
وقال في الحكم العطائية : ( الرجاء ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية ) .
ولو وقف الأمر عند التقليد المصحوب بالمحبة والتمني لكان أيسر ، لكنَّ الحال كان كما يقولون : (دعوى عريضة ، وعجز ظاهر ) .
فكان هذا الطرف المتمني يمثل العداء المستحكم للطرف الأول المتجني ، لكنه يعطيه في الوقت نفسه الدليل على ما يقول لأنه مع سلوكه المشوه يعلن الانتماء إلى التصوف ، ويعتبر نفسه أهلَه ووليَّه .
وبين التجني والتمني تكمن الحقيقة البيضاء .
إن الأصفهانيَّ الحافظَ أبا نعيم رحمه الله تعالى ترجم في مطلَع القرن الخامس الهجري في حليته رجال التصوف ، وقال في مبتدأ كتابه :
( فقد استعنت بالله عز وجل وأجبتك إلى ما ابتغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة ، وبعضَ أحاديثهم وكلامِهم ، من أعلام المتحققين من المتصوفة وأئمتهم ..)
وكان يذكر مع ترجمته لكلٍّ منهم تعريفاً للتصوف يتناسب مع حال المترجَم له .
وابتدأ رجالهم بأفراد الجيل الأول الصالح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدَّ منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً رضوان الله تعالى عليهم جميعاً .
وعد منهم الزهراءَ البتولَ فاطمةَ عليها وعلى ذريتها من الله تعالى السلام ، والحسن والحسين سيدا شباب الجنة .
وعد منهم الخليفة الراشد العادل الفاضل عمرَ بن عبد العزيز.
وقبله وفي القرن الرابع الهجري عدَّ ابنُ النديم في الفهرست حين ذكر الصوفية : الحسنَ البصري ومحمدَ بن سيرين ومالك بن دينار ، وكلاًّ من الأئمة المجتهدين : مالكَ بن أنس وسفيانَ الثوري والأوزاعي ، وغيرهم من أعلام العلم والهداية .
وفي القرن الثامن الهجري - في مقدمة ابن خلدونَ - الفصلِ الذي ذكر فيه أصناف العلوم ، وعد منها علم التصوف ، قال رحمه الله تعالى :
( وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف عن العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه ، والانفرادُ عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف ، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختُصَّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية .).اهـ .
وقال في نفس الفصل :
( ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة ، ( يقول ابن خلدون ) : قال صلى الله عليه وسلم : من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ، فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار وأصلها كلُّها الطاعة والإخلاص ويتقدمها الإيمان ويصاحبها ، وتنشأ عنها الأحوالُ والصفاتُ نتائجَ وثمراتٍ ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان ، وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتىَ من قِبَلِ التقصير في الذي قبله ).اهـ .
وقال صاحب كشف الظنون رحمه الله تعالى وهو من مؤرخي القرن الحادي عشرَ الهجري ناقلاً عن القونويِّ ابنِ صدرِ الدين :
( هو علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعاداتهم.)
وذكر.شعراً معبراً :
( علم التصوف علم ليس يدركه إلا أخو فطـنة بالـــحق معروفُ
وليس يعرفه من ليس يشــهده وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوفُ )
وقال الإمام المجاهدُ الأميرُ عبدُ القادر الجزائريُّ رحمه الله تعالى في كتابه : (المواقفُ في التصوف) :
( طريقة توحيدنا ما هي طريقة المتكلمين ولكنْ طريقةُ توحيدِ الكتب المُنْـزَلَة و سُنَّةِ الرسل المرسلة ، وهي التي كانت عليها بواطن الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين والسادات العارفين ، وإن لم يُصَدِّقِ الجمهورُ والعموم ، فعند الله اجتماع الخصوم )
أما الشيخ الشهير محمد عبده فقد قال في شرحه على مقامات بديع الزمان الهمذاني عند قول المصنف ( أسفرت القصة عن أصل كوفي ومذهب صوفي ) :
( والصوفي نسبةً إلى الصوفية وهم طائفة من المسلمين همهم من العمل إصلاح القلوب وتصفية السرائر )…… ( والعارفون منهم البالغون إلى الغاية من سَيْرِهِم في أعلى مرتبة من الكمال البشري بعد النبوة )
وعلَّق العلامةُ ابنُ الحاج المالكي في شرحه على المرشد المعين أبياتاً من الشعر ، وفيها :
صفا منهل الصوفي عن علل الهوى فما شاب ذاك الوردَ من نفسه حظُّ
ووفّى بعهد الحب إذ لم يكن لـه إلى غير من يهوى التفاتٌ ولا لحظُ
محت آيةَ الظلماء شمــسُ نهاره وقد ذهبت منه الإشـارةُ واللفظُ
على أن مطالعتنا لما يرد في مقولات الطرف المتجني تسوقنا من باب الإصلاح إلى بيان الصواب وتحقيق الجواب .
لكن المقولات بين أفراد هذا الصنف كثيرة لأنهم لما جهلوا أذواق القوم من طريق الذوق ، ولم يدركوا أصلها الثابت ومناسبتها المحققة في كتاب الله تعالى ، والإنسان كما هو معلوم عدو ما جهل ، أكثروا من تلك المقولات المتجنية .
لكنني أختار من مقولاتهم مسألتين :
أولاهما : أن التصوف تعطيل للشعور ، وتخدير لآلام الواقع ، وحالة من الخمول والخمود ، والتواكل والعزلة .
وثانيهما : أن التصوف انحراف معرفي وطريق من طرق الزندقة والضلال .
والجواب على المسألة الأولى نتيجةٌ لمقدمتين لا بد من ذكرهما :
مقدمةٍ نظرية ، ومقدمةٍ تطبيقية .
أما المقدمة النظرية : فبيانها أن التصوف هو الركن الديني الثالث ، فلا يتحقق إلا بعد ركنين اثنين ركنٍ فقهي عملي إسلامي ، وركن اعتقادي إيماني .
وحين يحصل التوازن بين السلوك والاعتقاد تبدأ إذ ذاك مواصلة الروح ، ومفارقة السوى ، وذوق اللطائف ، وفيض المعارف .
وهكذا لما عرَّف الإمامُ الشاذلي رحمه الله تعالى التصوف قال : هو ( تدريب النفس على العبودية وردها إلى أحكام الربوبية ) .
ولما كان أيٌّ من الأركان الثلاثة لا يعطل أحدُها غيره لاختلاف المحل في كلٍّ منها ، فلن يعطل التصوف إذاً فقه الانسان وأنشطته الظاهرة ، ولن يغير من حقائق عقيدته لكنه سوف يسمو به بعد ثباته السلوكي واستقراره الاعتقادي إلى صفاء الروح ويعرج بها فوق كدورات المادة .
أما المقدمة التطبيقية : فبيانها يتحقق بإيراد بعض النماذجِ التي تحققت بالتصوف فكان نتاجها في المجتمع كبيراً ، وغدا أثرها في الأجيال بعيداً .
فعلى صعيد العلم لا ينكر أثر الحسن البصري وداود الطائي وأبي سليمان الداراني وكلٍّ من الأئمةِ الجنيدِ والجيلانيِّ والرفاعيِّ والشاذليِّ ، فقد كان لكل منهم جهد علمي كبير في الحديث والفقه والتفسير .
على سبيل المثال :كان الإمام الجنيد رحمه الله مع تصوفه يفتي في الفقه على مذهب أبي ثور وكان الإمام الشاذلي مع تصوفه يقرأ لأصحابه ( المحرر الوجيز ) في التفسير لابن عطية و(إحياء الغزالي) .
واذكر من أعلام الصوفية الإمامَ النوويَّ والإمامَ العزَّ بنَ عبد السلام ، والجلال السيوطيَّ ، وشيخ الأزهر البيجوري ، وإمامَ الأزهرِ الراحلَ عبدَ الحليمِ محمود ، واذكر الصوفي الفرنسي (جينو ) المعروف بالشيخ عبدِ الواحدِ يحيى ؛ صاحبِ التآليفِ والرتبِ العلمية الكبيرة .
هذا غيض من فيض ظهر على صعيد العلم .
أما على صعيد العمل والتطبيق فمنه : ما ذكره أبو عمرَ محمدُ بنُ يوسُفَ الكِنديُّ وهو من مؤرخي القرن الرابع الهجري في كتابه : ( ولاةُ مصر ) في حوادثِ سنةِ مائتين ( أنه ظهر بالاسكندرية طائفةٌ يسمون بالصوفية يأمرون بالمعروف في زعمهم ويعارضون السلطان في أمره )
وفي مروج الذهب للمسعودي : ( أن أميرَ المؤمنينَ المأمونَ كان في يوم جالساً ، إذ دخل عليه عليُّ ابنُ الصالح الحاجبُ فقال : يا أمير المؤمنين رجلٌ واقف بالباب عليه ثياب بيض غلاظ مشمرة يطلب الدخول للمناظرة ، قال يحيى بن أكثم فعلمت أنه بعض الصوفية فأردت أن أشير أن لا يؤذن له ولكنه تحدث مع الأمير وخلى سبيله ، فأمر علياً بن الصالح أن يوجِّهَ من يتبعه حتى يعلم أين قصد ففعل ذلك ثم رجع ، وقال : يا أمير المؤمنين وجهت من يتبع الرجل فمضى إلى مسجدٍ في خمسةَ عشرَ رجلاً في هيأته وزِيِّهِ فقالوا : لقيت الرجل ؟ قال : نعم ، قالوا فما قال لك ؟ قال : ما قال لي إلا خيراً ، ذكر أنه ضابطٌ أمورَ المسلمين حتى تأمَنَ سبُلُهم ، ويَقُومُ بالحج ، ويجاهدُ في سبيل الله ويأخذُ للمظلوم من الظالم ، ولا تتعطلُ الأحكامُ ، فإذا رضي المسلمون برجلٍ واجتمعوا عليه سلَّمَ إليه الأمرَ وصارَ من رعيته فقالوا : ما نرى بهذا الأمر بأساً وافترقوا أهـ
ومن ذلك مشاركةُ الإمام الشاذلي في معركة المنصورة أيامَ الظاهرِ بيبرس في مقابلة ملكِ فِرَنسا لويس التاسع .
ولا ينسى في الأمس القريب الدورُ الصوفي السنوسي في مقارعة الأجنبي المحتل ، وليس الشيخ الصوفي عمرُ المختارُ عنا ببعيد .
ولا ينسى الصوفي الشيخ الجزائري عبدُ القادر الذي كان مثالاً في جهاد المستعمر ودفع الغريب عن الوطن .
ولو كان الوقت يسمح لذكرت آثار التصوف الاجتماعية في جنوب شرق آسيا شرقاً وفي المغرب العربي غرباً وفي تركيا شمالاً وفي جنوب أفريقيا ووسطها جنوبا ، وما يفعله الآن في البلاد الغربية .
الجواب على المسألة الثانية : هل مثل التصوف انحرافاً معرفياً ؟
أولاً : الأسباب السلوكية للمعرفة الذوقية مستمدة من وحي السماء ، لا من هيئات اليوكا وأعمال البوذية – وهي إشكالية دخلت على بعضهم – فأصول الصيام والقيام والخلوة والصمت مستمدة باتفاق من وحي السماء ، والتشابه في بعض الظواهر لا يغير حقيقة التأصيل .
ثانياً : ما توهمه بعضهم أن التصوف شكل من أشكال عقيدة الحلول أو الاتحاد أو النيرفانا البوذية وذلك لبعده عن حقيقة التصوف ومقاصد القوم ، يدفعه ما ننقله في هذا المعنى عن أعيان التصوف:
يقول ابن عربي رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه الفتوحات المكية : مخبراً عن عقيدته في الله تعالى ( ليس له مثل معقول ولا دلت عليه العقول ، لا يحده زمان ، ولا يقله مكان ، بل كان ولا مكان ، وهو على ما عليه كان ، خلق المتمكن والمكان ، وأنشأ الزمان ، وقال أنا الواحد الحي ، لا يؤوده حفظ المخلوقات ، ولا ترجع إليه صفة لم يكن عليها من صنعة المصنوعات ، تعالى أن تحله الحوادث أو يحلها ) .
ويقول في باب الأسرار ( من قال بالحلول فهو معلول ، فإن القول بالحلول مرض لا يزول … وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد ) .
وقال في كتابه ( القصدُ الحق ) : ( لا يقال العالم صادر عن الحق تعالى إلا بحكم المجاز لا الحقيقة وذلك لأن الشرع لم يرد بهذا اللفظ وجل الله تعالى أن يكون مصدر الأشياء لعدم المناسبة بين الممكن والواجب وبين من يقبل الأولية وبين من لا يقبلها وبين من يفتقر وبين من لا يقبل الافتقار ، وإنما يقال إنه تعالى أوجد الأشياء موافقة لسبق علمه بها بعد أن لم يكن لها وجود في أعيانها ثم إنها ارتبطت بالموجد لها ارتباط فقير ممكن بغني واجب ) اهـ
وقال في الباب الثاني والتسعين من الفتوحات : ( والحق الذي أقول به إن العالم كله حادث وإن تعلق به العلم القديم ) اهـ .
فمعنى وحدة الوجود عند الصوفية أن الحق تعالى له الوجود المطلق وأن ما سواه في حكم العدم .
قال العارفُ النابُلسي رحمه الله :
إنما وحدة الوجود لدينا وحدةُ الحق فافهموا ما نقول
لا تظن الوجود حيث ذكرناه هــــــــــو الخلقُ عندنا المبذولُ
ويقول ابن عربي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى :
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
( كل شيء هالك إلا وجهه لأن السبحات له فهي مهلكة والمهلك لا يكون هالكاً ) - وهو بهذا يشير إلى الحديث النبوي : لو كشف عن وجهه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره -
ثم قال : ( فالعالم لم يزل مفقود العين هالكاً بالذات بالنظر إلى ذاته ) .
وقال : ( فإن وصف الممكن بالوجود فهو مجاز لا حقيقة لأن الحقيقة تأبى أن يكون موجوداً فإن العدم للمكن ذاتي يعني بالنظر إلى ذاته لا شيء هو مستند إلى الله تعالى ) ، قال ابن عربي رحمه الله : قال رسول الله (أصدق بيت قالته العرب قول لبيد ألا كل شيء ما خلا باطل) أي : ما له حقيقة يثبت عليها من نفسه فما هو موجود إلا بغيره لا بنفسه . .
ويقول العارف تُقَيُّ الدين أبو شعر في المتن المشهور بعقيدة الغيب : ( لا إله إلا الله هو الوجود الغيب ونحن العدم الغيب ، فظهر سلطان التجلي من الوجود الغيب على العدم الغيب بلا جحود ولا ريب ظهور دلالة وتعريف ، لا حلول ولا تكييف ، ولا يسع هذا المشهد العظيم إلا قلب العبد المؤمن السليم ، سعة إيمان واعتقاد ، لا حلولٍ ولا اتحاد ، فإنه مهبط الأسرار ومنبع الأنوار وربك يخلق ما يشاء ويختار )
وفي كتاب التجليات الإلهية لابن عربي قال : ( رأيت الحلاج في هذا التجلي فقلت له يا حلاج هل تصح عندك عِلِّيَّة فتبسم وقال لي : تريد قول القائل : ( يا علة العلل ويا قديماً لم يزل ) ، قلت له : نعم قال لي : هذه قولة جاهل ، إعلم أن الله يخلق العلل وليس بعلة ، كيف يقبل العلية من كان ولا شيء ، وأوجد لا من شيء ، وهو الآن كما كان ولا شيء ، جل وتعالى ، لو كان علة لارتبط ، ولو ارتبط لم يصح له الكمال ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، قلت له هكذا أعرفه ، قال لي: هكذا ينبغي أن يعرف فاثبت ، قلت له لم تركت بيتك يُخَرَّب ، فتبسم فقال : لما استطالت عليه أيدي الأكوان حين أخليته ؛ فأفنيت ثم أفنيت ثم أفنيت ، ( وأخلفت هارون في قومي ) فاستضعفوه لغيبتي ، فأجمعوا على تخريبه ، فلما هدوا من قواعده ما هدوا ؛ رُدِدت إليه بعد الفناء ، فأشرت عليه وقد حلَّت به المثلات ، فأنفت نفسي أن أعَمِّرَ بيتاً تحكمت به يد الأكوان ، فقبضت فيضي عنه فقيل مات الحلاج )
وفي محاضرة الأبرار نقل ابن عربي عن أبي مدين رحمهما الله تعالى :
( التوحيد هو الحق ومنور القلب ومحرك الظواهر وعلام الغيوب نظر العارفون فتاهوا إذ لم يعمر قلوبهم إلا هو ، فهم والهون ، قلوبهم تسرح في رضاه في الحضرة العلية ، وأسرارهم مما سواه فارغة خلية ، جالت أسرارهم في الملكوت فلاحظوا عظمته ، وتجلى لقلوبهم فأنطقهم بحكمته ، فهو للعارف ضياء ونور ، وقد أشغله به عن الجنة والقصور ، آنسه به فهو جليسه ، وأفناه عنه فتلاشى كثيفه ، ذهبت الرسوم وفنيت العلوم ولم يبق إذ ذاك إلا الحي القيوم )
قال ابن القيم رحمه الله في مدراج السالكين : ( ليس مرادهم فناءَ وجود ما سوى الله في الخارج ، بل مرادهم فناءه عن شهودهم وحسهم ، فحقيقة غيب أحدهم هي عن سوى مشهوده ، لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته ، وبمذكوره عن ذكره ، وبموجوده عن وجوده ، وبمحبوبه عن حبه ، وقد يسمى حال مثل هذا سكراً واصطلاماً ومحواً وجمعاً ) اهـ .
وعلى كل فلا ينكَرُ الشطح والغلط الذي وقع فيه بعضهم ممن لم يبلغ مبلغ الرجال .
وقد قال الصوفي الكبير المالكي مذهباً الشاذلي طريقة العارف أحمد زروق في قواعده في القاعدة الخامسة والثلاثين : ( فغلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين وكالمطعون عليهم من المتفقهين يرد قولهم ويجتنب فعلهم ولا يترك المذهب الحق الثابت لنسبتهم له وظهورهم فيه ) اهـ .
وفي الوقت نفسه كان الفقهاء يدركون خطورة التسرع في تكفير ذاهلٍ عن نفسه بربه ، وإن كان صاحبُ هذا الحال ناقصاً لم يبلغ مبلغ الرجال .
وفي التحفة لابن حجر رحمه الله تعالى – في كتاب الردة :
ولا أثر لسبق اللسان وحكاية كفر أو شطح ولي في غيبة ، أو تأويلُه بما هو مصطلح عليه بينهم وإن جهله غيرهم إذ اللفظ المصطلح عليه حقيقةٌ عند أهله فلا يعترض عليه بمخالفة اصطلاح غيرهم كما حققه أئمة الكلام وغيرهم ، ومن ثم زل كثير في التهور على محققي الصوفية بما هم.بريئون منه .
وقال الإمام السنوسي صاحب العقائد في كتابه نصرة الفقير :
إني رأيت الهمم قاصرة عن الله وعن طريق الوصول إليه متقاصرة ورأيت شُعَباً وقواطع عن الله تعالى وأكثرها الذين يدعون علم الظاهر إذ هم في حجاب عن الله أخذوا بظاهر الشرع وتركوا ما كانت عليه بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذوا الظاهر عماداً والإنكار في الباطن وساداً والتمشدق والتمخرق مهاداً ورفضوا الحقيقة وأسبابها وحجبوا بالغفلة وفتحوا أبوابها ، إذا ذُكروا بالحق أنفوا وإذا قدروا على من ذاكرهم عنفوا . .
ونص البدر الزركشي :على عدم جواز الفتوى في القوم إلا بعد التحقيق في اصطلاحاتهم ونقل عن إمام الحرمين قوله :
لو قيل لنا فصلوا ما يقتضي الكفر ويؤدي إلى التضليل من عبارات القوم ، لقلنا هذا طمع في غير مطمع ، فإنه أمر بعيد المدرك وعر المسلك ، ومن لم يحط علماً بنهاية الحقائق لم يحصل من الفكر إلا ما يضره .
قال المرحوم د. عثمان يحيى في الذكرى المائوية الثامنة لميلاد ابن عربي رحمه الله ( إذا كان التوحيد عند المعتزلة مشكلة لاهوتية وأخلاقية ، وعند السلفية مشكلة دينية واجتماعية فهو في نظر الصوفية مبدأ روحي يتصل قبل كل شيء بحرية الكيان الإنساني وتحريره من شوائب القيود )
أما الكلمة إلى المتمني فلن أقول فيها من تعبيري شيئاً وأكتفي بنقل كلام القوم ، قال السُرقسطي الفاسي المشهور بابن البنا :
فاعلم بأن أهـــل هــذا العصــــــر قد شغلوا بمحدَثــات الأمـــــــر
إذ أحــــــدثوا بينهــم اصطلاحــــاً لم أر للديـــن بـــــه صلاحــــــاً
وصنفــوا بينهـــــــــم أحكامـــــــاً أكثرها كانت لهـــــم حرامــــــاً
وانتهجــوا مناهجـــــاً منكوســــة وارتكبوا طريقـــةً معكوســـــــة
تالله قد كــان طريقــــاً قاصــــــداً والآن ما نلقــــــى إليـــــه واردا
كانــــت إذاً مــــوارداً شــــــريفــة فاستبدلت مذاهبـــاً سخيفــــة
قد أسست على صحيــح العقــل وأسها الآن بمحــــض الجهــــل
يدعى الذي يمشي عليها سالك وسالكوها اليوم حزب هالــــك
عاش بها القوم بخيــــر عيشـــــة فصُيِّرت بعدهـــــــم معيشــــــة
كانت تضاهي الكوكــب المنيــــرا والآن أضحـــت حائطــــاً قصيــراً
إذ صــــار ما يَعلـــــمُ منهــــــا إلا أكــلاً ورقصاً وغنــــــــا وســــؤلا
كانت على الإنصاف والنصيحـــــة فهي على الإسراف والفضيحـة
تُعــــــــرف بالخلــــــق والإيثـــــار والآن بالحقـــــــــد والإقتـــــــــار
كانـــــت أجَلَّ غبطـــــة وخطـــــة والآن فهي بدعـــة وخلطــــــــة
كانـــت على مجـــرد الصيــــــــام والآن في مجــــــرد الطعـــــــام
وفي الســـماع كان غلق البــــاب والآن عنــد جُفُـــــنٍ جَوابـــــــي
فكـــــل ما اليوم عليــــه النــــاس من مدعيـن الفقــر فيه بــــــاس
إذ نقضـــوا الأصــــــول والأركـــــان وصيـــــــروه في الورى مهانــــــا
وجعلوهـــــا للغنــــــي مغرمــــــا وللفقيـــــــــر نُهبـــةً ومَغنَمــــــا
حق لمن كان عليهـــم مُنكــــــرِا إذ كُلُّ ما يُبصرُ منهــم منكـــــــرا
وقال ابن القيم : الصوفية ثلاثة:
صوفية الأرزاق ، وصوفية الرسوم ، وصوفية الحقائق
وقال الإمام الرفاعي في البرهان المؤيد :
أيها المتصوف لم هذه البطالة صر صوفياً حتى نقول لك أيها الصوفي أي حبيبي تظن أن هذه الطريقة تورث من أبيك تسلسل من جدك تأتيك باسم بكر وعمرو تُصَرُّ لك في وثيقة نسبك تنقش لك على جيب خرقة ..على طرف تاج ..حسبت هذه البضاعة ثوب شعر ..وتاجاً وعكازاً ..ودلقاً وعمامة كبيرة .. وزياً صالحاً لا والله إن الله لا ينظر إلى كلِّ هذا ينظر إلى قلبك كيف يفرغ فيه سره وبركة قربه وأنت غافل عنه بحجاب التاج بحجاب الخرقة بحجاب السبحة بحجاب العصا بحجاب المسوح ما هذا العقل الخالي من نور المعرفة ما هذا الرقص الخالي من جوهر العقل ما عملت بأعمال الطائفة وتلبس لباسهم ! يا مسكين يا أخي لو كلفت قلبك لباس الخشية وظاهرك لباس الأدب ونفسك لباس الذل وأنانيتك لباس المحو ولسانك لباس الذكر وتخلصت من هذه الحجب وبعدها تلبست بهذه الثياب كان أولى لك فأولى ، لكن كيف يقال لك هذا القول وأنت تظن أن تاجك كتاج القوم وثوبك كثوبهم لا كلا الأشكال مؤتلفة والقلوب مختلفة ، مسكين تمشي مع وهمك مع خيالك مع كذبك مع عجبك وغرورك وتحمل نجاسة أنانيتك وتظن أنك على شيء وكيف يكون ذلك ؟ تعلم علم التواضع تعلم علم الحيرة تعلمت علم المسكنة والانكسار ، أي بطال تعلمت علم الكبر تعلمت علم الدعوى تعلمت علم التعالي.ماذا حصل لك من كل ذلك تطلب هذه الدنيا الجيفة بظاهر حال الآخرة ؟ ما عندك من باطن حالها ، لبئس ما صنعت ما أنت إلا كمشتري النجاسة بالنجاسة كيف تُغفل نفسك بنفسك وتكذب على نفسك وأبناء جنسك ، أي أخي لا تجعل غاية همتك ومنتهى قصدك أن تمر على الماء أو تطير في الهواء يصنع الطائر والحوت ما أردت ، الحوت يمشي على الماء والطائر يطير في السماء ، طر بجناحك همتك إلى ما لا غاية له ، .. العارف المتمكن لا شيء عنده من العرش إلى الثرى أعظم من سروره بربه .
خاتمة ببعض النقول التي نشهد أنها معبرة عن التصوف الحقيقي .
نرجو من الله تعالى أن يكون لنا منها موقف التبني ، لا التمني ولا التجني :
قال الكلاباذي في كتاب التعرف : الصوفي من صفت لله معاملته فصفت له من الله عز وجل كرامته .
وقال الإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى : طر إلى الله بجناحي الكتاب والسنة ، أدخل عليه ويدك في يد الرسول .
ويقول أيضاً : كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة .
وقال الإمام أبو سليمانَ الداراني : ربما طرقت النكتة قلبي أربعين يوماً فلا أسمح لها بالدخول إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة .
وقال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى : الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله واتبع سنته ولزم طريقته لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه وعلى المقتفين أثره والمتابعين .
ويقول أيضاً : من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة .
ويقول الإمام الشاذلي أبو الحسن رحمه الله تعالى : إذا عارض كشفك الكتاب والسنة فارم به عرض الحائط وقل إن الله ضمن العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها في الكشف والإلهام .
|